يقول أستاذ علم اللاهوت الأمريكي رينولد نيبور: “واحدة من أسوأ صفات التاريخ الإنساني بأن كل حضارة تعتد بما حققتها، وتسعى للترويج لقيمها في كل العالم، وتدعي أنها خالدة وسيستمر وجودها، في نفس اللحظة التي تكون فيها قد دخلت مرحلة الانحطاط والضعف الذي يؤدي في النهاية إلى سقوطها”.
إذا صحت الادعاءات التي تفيد بأن روسيا تمتلك تسجيلات فيديو فاضحة للرئيس المنتخب دونالد ترامب، فإن ذلك سيجبره على الاستقالة أو يؤدي لعزله، وبقطع النظر عن الجوانب الأخلاقية في هذه القضية، فإن رجلاً يثبت تورطه في هذه التصرفات المشينة والمتهورة، ويتبين أنه على هذه الدرجة من الغباء وانعدام المسؤولية، لا يمكن أبدًا التعويل عليه في منصب بواب أو عامل تنظيف يمسح الزجاج في أي حكومة في العالم.
ولكن رغم أن هذه الادعاءات ظلت محل جدال حتى وراء الكواليس منذ ظهور دونالد ترامب لأول مرة كمنافس جدي في السباق للفوز بترشيح الحزب الجمهوري، فإن لا أحد من خصومه قدم لحد الآن دليلاً ملموسًا على وجود هذا الشريط الفاضح، وكل ما نملكه حتى الآن عن هذه القضية هو تصريح لموظف في الاستخبارات البريطانية اختفى عن الأنظار، وكل شخص يعتقد أن هذا الموظف يمثل مصدرًا موثوقًا، فإنه لا يعرف شيئًا عن عمل المخابرات، كما أن هذا الموظف ادعى أنه حصل على المعلومة من مصادر في المخابرات الروسية لم يسمها، ودعم أقواله بتصريحات نسبها لمصادر في المخابرات الأمريكية لم يسمها أيضًا، تقول إن هذه المعلومة صحيحة.
“ترامب وعائلته خلال إعلان فوزه بالرئاسة الأمريكية”
ولو جاءت هذه المعلومة في سياق مغاير، فإنه كان سيتم تكذيبها وعدم أخذها على محمل الجد، باعتبارها مؤامرة يقف وراءها عملاء مخابرات دولة غربية يهدفون لقطع الطريق على أي مصالحة بين واشنطن وموسكو، وفي الواقع فإن غياب أي دليل ملموس على صحة هذه القصة هو ما يفسر اختيار الأغلبية الساحقة من وسائل الإعلام عدم النشر عن هذا الموضوع، إلى أن قام موقع “بازفيد” بإثارة هذه المسألة منذ أيام قليلة.
وبسبب طبيعتها المعقدة، فإن هذه القصة لا يمكن تأكيدها أو نفيها إلا من قبل أجهزة المخابرات الروسية، ولكن هذه الأجهزة بدورها لا يمكنها فعل ذلك، لأنها ببساطة إذا كانت تملك فعلاً هذه التسجيلات الفاضحة فإنها لا يمكن كشفها دون التسبب في تدمير رئيس الولايات المتحدة الذي تأمل أن تنجح في إقامة تعاون معه، حيث إن كشف شريط من هذا النوع سيلحق ضررًا بالغًا ودائمًا في العلاقات بين البلدين، وفي المقابل إذا قالت أجهزة المخابرات الروسية إنها لا تملك شريطًا من هذا النوع فإنها ستتعرض بشكل آلي للتكذيب من قبل كل الرأي العام في الدول الغربية، لأن هؤلاء مصممون على التمسك بالسيناريو الأسوأ عندما يتعلق الأمر بترامب وروسيا.
ولهذا فإن هذه القصة الغريبة والمقززة على الأرجح ستبقى إلى الأبد دون نهاية، سواء بالتكذيب أو التأكيد، وهذا بالضبط ما كان يسعى إليه من اختلقوا هذه الحكاية، إذا كانت فعلاً قد تم اختلاقها، سوف تظل هذه الرواية تتأرجح وتخيم على النقاشات السياسية على مدى سنوات، وتؤدي لإضعاف إدارة دونالد ترامب وتعرقل أي مساعٍ لتحسين العلاقات مع روسيا، حتى تنتهي هذه العهدة الرئاسية، وفي النهاية سوف يختفي هذا الجدل ويلفه النسيان، تمامًا كما حصل مع قضية “وايت ووتر” المتعلقة بتهم موجهة لبيل وهيلاري كلينتون بخصوص فساد مالي في استثمارات عقارية.
ولكن حتى في هذه الحالة فإن الضرر سيكون قد وقع فعلاً، وستكون الديمقراطية الأمريكية قد تعرضت للمزيد من التسمم، وهو ما حصل لها بالفعل خلال السنوات الماضية بسبب العديد من نظريات المؤامرة التي تم تناقلها بشكل غير مسؤول ولم يتم تقديم أدلة بشأنها، والتي روج لها بالأساس متطرفون منتمون للحزب الجمهوري للإساءة للرؤساء المنتمين الحزب الديمقراطي، ومن بين هؤلاء هنالك شبكة برايتبارت الإخبارية (المعبرة عن آراء اليمين المتطرف في أمريكا)، والتي يجب عليها الحذر عند التعامل مع هذه القصص، وعليها أن تتعلم عرض مختلف وجهات النظر في خضم هذه اللعبة القذرة.
إن مخاطر ما يحدث الآن على النظام السياسي الأمريكي تبدو واضحة بالنسبة لي، بسبب تجربتي السابقة في أثناء عملي في باكستان ودول أخرى انحدر فيها مستوى النخبة الوطنية والنقاشات العامة، حتى أصبح يدور في فلك نظريات المؤامرة، التي تحل محل كل تفكير جدي وبنّاء عن الواقع السياسي، والإصلاحات المؤلمة ولكن الضرورية التي يجب النظر فيها، وبهذه الطريقة فإن نظريات المؤامرة هذه تخدم بشكل عام مصالح النخب المالية والسياسية، التي تريد بأي شكل عرقلة تنفيذ هذه الإصلاحات والتغييرات لأن ذلك يهدد مصالحها، وكنتيجة للانخراط في هذه النظريات والنقاشات، فإن النظام السياسي القائم على الديكتاتورية وعلى حكم الأقلية يتواصل، وتقوم خلاله في كل مرة مجموعة من هذه النخب الحاكمة بإلهاء الجماهير بالحديث الشعبوي الفارغ من أي معنى، وهو ما يلهيها عن التفكير في التغيير الحقيقي.
“الرئيس الروسي فلاديمير بوتن”
هذا السيناريو المرعب والمؤلم قد يكون مصير الولايات المتحدة إذا تواصل سير الأمور بهذا الشكل، وستصبح هذه القوة العالمية دولة تعاني من انحطاط سياساتها الداخلية مثل الفيليبين والأرجنتين، وللتصدي لهذه التهديدات وتجنب هذا المستقبل المظلم، فإن جميع أعضاء النظام السياسي الأمريكي الذين يتمتعون بروح المسؤولية مطالبون بالتوصل إلى نوع من الاتفاق الثقافي والأخلاقي، بشأن إدانة كل القصص المسيئة والمختلقة من هذا النوع، إلا في حال وجود أدلة ملموسة على صحتها.
كما يوجد أيضًا جانب آخر مظلم لهذه الأوضاع السياسية التي تشهدها الولايات المتحدة الأمريكية حاليًا، وهو أنها ستصبح سهلة الاختراق ويمكن التلاعب بها من قبل الأطراف الخارجية، وهذا يقودني إلى التطرق للادعاءات الدائرة حاليًا حول روسيا، والمتعلقة بتورطها في دعم حملة دونالد ترامب، والوقوف وراء تسريب الرسائل الإلكترونية من داخل الحزب الديمقراطي، تجدر الإشارة إلى أن هذا الاتهام الأخير يبدو مستندًا إلى أدلة حقيقية، ولهذا فإن هذا النوع من القصص لا يمكن اعتباره نشر للأخبار الزائفة كما وصفه البعض، لا أحد ينفي أن المعلومات التي تم تسريبها عن هيلاري كلينتون وحملتها الانتخابية كانت صحيحة، ولو أن صحفيًا أمريكيًا هو الذي قام بكشف هذه المعلومات لتم التعامل معه على أساس أنه بصدد القيام بعمله من أجل توفير المعلومة لجمهور الناخبين، باعتبار أنهم يحق لهم معرفة هذه الأشياء.
وعلاوة على كل هذا، فإننا نحتاج أن نتذكر أنه لو قامت الحكومة الروسية فعلاً بالتدخل في سير الانتخابات الأمريكية والتأثير عليها، فإن ذلك يأتي كرد على العديد من المحاولات الممنهجة والمتكررة التي قامت بها الولايات المتحدة للتأثير على الانتخابات الروسية، والتشويش على الحكومات ليس فقط في جمهوريات الاتحاد السوفييتي سابقًا، بل في عدة أجزاء أخرى من هذا العالم، يجب علينا أيضَا أن نتذكر أن المسألة هنا لا تتعلق فقط بالعدالة، لأننا الآن بتنا نعرف مدى هشاشتنا أمام الردود الانتقامية، وأيضًا لأن هذه المسألة تحيل هنا إلى قضية شائكة وأساسية في مجال العلاقات الدولية وهي مدى شرعية مجموعة من نماذج الدول الموجودة في العالم، هذه المسألة تعد مصيرية وبالغة الأهمية لمستقبل العلاقات بين الولايات المتحدة الأمريكية وطيف من الدول حول العالم، أبرزها الصين.
وفي مؤلفه الشهير عن القومية، سلط المؤرخ البريطاني إيلي كيدوري الضوء على التجديد المثير الذي حملته الثورة الفرنسية، والمتمثل في أن الدول الجمهورية أو الوطنية فقط هي التي تتمتع بالشرعية الحقيقية، ليس فقط على المستوى الداخلي بل أيضًا على المستوى العالمي، وكل الأشكال الأخرى من الدول يجوز تدميرها وتفكيكها من قبل الدول الجمهورية في كنف المشروعية، والاتفاقات الموقعة بين الدول الجمهورية وغير الجمهورية لا تعتبر ملزمة بالنسبة للأولى، التي تعتبر نفسها الوحيدة التي تتمتع بالشرعية.
هذه المقاربة أعادت إلى الأذهان المواقف المتخذة من الجانبين الكاثوليكي والبروتستانتي إبان الصراعات الدائرة بين الجانبين في القرن 17 خلال حرب الثلاثين عام، والتي انتهت بصلح ويستفاليا، وقد أشار إيلي كيدوري في معرض حديثه عن هذه القضية إلى أن هذه المقاربة مثلت تحديًا للأنظمة السابقة للدول الأوروبية (سواء في العصور الوسطى أو في القرن 18)، والتي كانت خلالها القارة الأوروبية مكونة من طيف متنوع من أشكال الدول، منها الأنظمة الملكية الدستورية، والأنظمة الفيدرالية شبه الملكية، والملكية المطلقة، الجمهورية الكنفدرالية، الجمهورية الأرستقراطية، وكل من هذه الدول كانت تعترف بالشرعية الكاملة لبقية الدول المجاورة لها.
وفي هذا الصدد يمكن اعتبار أن الاتحاد السوفييتي وجمهورية الصين الاشتراكية يعتبران وريثان مباشران للثورة الفرنسية، فالأحزاب الشيوعية الحاكمة في هذين البلدين تتبنى عقيدة مفادها أن البلدان الاشتراكية هي فقط التي تحظى بالشرعية، أما بقية أنواع الأنظمة السياسية فهي تعد أهداف مشروعة يجب الإطاحة بها أو تدميرها من خلال التخطيط لقيام الثورات المدعومة من موسكو أو بيكين، وبالطبع فإنه على أرض الواقع كان الاتحاد السوفييتي أكثر حذرًا في تنفيذه لهذه السياسات، فعلى غرار الولايات المتحدة التي كانت تتعامل مع الأنظمة الديكتاتورية وتقيم تحالفات مع المستبدين، سعى هو أيضًا لعقد تحالفات مع النخب البورجوازية الحاكمة في دول أخرى مثل الهند.
ولكن رغم ذلك ظلت العقيدة الشيوعية موجودة، وسعى الاتحاد السوفييتي فعلاً لفرض أفكاره كلما سمحت له الظروف بذلك ورأى أن المخاطر قليلة، ففي أوروبا الغربية على امتداد أغلب فترات الحرب الباردة، دعمت موسكو الأحزاب الاشتراكية التي كانت تسعى للإطاحة بالنظام السياسي والاقتصادي القائم في بلدانها، ولكن تجدر الإشارة أيضًا إلى الولايات المتحدة والدول الغربية مارست نفس هذا الأسلوب، حيث إنها سعت لنزع الشرعية من الدول الشيوعية، ودعمت بكل قوة الأفراد والحركات التي تسعى للإطاحة بالنظام الحاكم في هذه الدول، بالاعتماد على أجهزة الاستخبارات والعملاء التابعين لهذه الدول الغربية.
ومع وصول زعماء جدد للسلطة مثل دينج شياو بينج في الصين وميخائيل غورباتشيف في روسيا، انتهى دعم هذه الأنظمة الشيوعية لفكرة “الثورة العالمية”، وتم الاعتراف بشرعية ما تسميها “الدول البورجوازية”، و على امتداد 25 سنة بعد نهاية الحرب الباردة وتفكك الاتحاد السوفييتي، لم تحدث أية محاولات بأي شكل من أشكال من قبل روسيا أو الصين لزعزعة الاستقرار في الدول الغربية أو التأثير في سياستها الداخلية، بالطبع كانت هنالك محاولات للتأثير على السياسات الخارجية للولايات المتحدة وأوروبا الغربية على الصعيد الدولي، خاصة سياستها تجاه روسيا والصين، ولكن هذه التأثيرات اقتصرت على السبل المشروعة المعمول بها على الصعيد الدولي، مثل دعم لوبيات الضغط الاقتصادية والنشطاء المتعاطفين مع الأفكار الشيوعية.
ولكن في نفس هذا الوقت، أصبح التدخل في السياسات الداخلية للدول الأخرى من أجل نشر الديمقراطية وتدمير الأعداء جزءًا لا يتجزأ من الاستراتيجية التي تتبناها الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، إذ إن هذه العقيدة متأصلة في الإيديولوجيا القومية الأمريكية، ولديها أنصار في مجموعة من المؤسسات الأمريكية الرسمية وغير الرسمية، ويتم تبريرها بسقوط كتلة الاتحاد السوفييتي وانتشار الديمقراطية في دول أوروبا الشرقية.
وفيما يخص الشؤون الداخلية في روسيا، شجعت الولايات المتحدة ودول أوروبا الغربية بشكل علني حركات المعارضة ووقفت موقف الحليف معها، كما سعى المعسكر الغربي إلى توفير الدعم المؤسساتي لمجموعات المعارضة الموجودة في المنفى، وحتى في الحالات المتعلقة ببعض الشيشانين المنتمين لحركة مسلحة متمردة، أظهرت الدول الغربية دعمها، كما قامت وكالة الاستخبارات المركزية سي آي إيه بنشر معلومات تدعي فيها أن الرئيس فلاديمير بوتين جمع ثروته الشخصية من الفساد، في مسعى لتشويه صورته وصورة نظامه وتقوية موقف المعارضين له.
وفي خضم هذا المسار، نسيت النخب السياسية في الولايات المتحدة وأوروبا مجموعة من الحقائق أو ربما اختارت تجاهلها، أولاً لم يكن من الحكمة أن تتبنى هذه الدول بشكل علني سياسات عدائية تجاه الحكومات الأخرى، ما لم يكن ذلك فعلاً ضروريًا جدًا من وجهة نظر مصالحها الشخصية ومصالح المجتمع الدولي ككل، وما لم تكن مقتنعة تمامًا بأن الطرف المقابل غير قادر على الرد بنفس الطريقة، ثانيًا لم يكن هنالك اعتراف بأن التدخل الأمريكي للشؤون الداخلية للدول الشيوعية نجح فقط عندما كان هنالك إجماع حوله، على الأقل على مستوى النخب، وأن المصالح الوطنية في هذه الدول المعنية كانت تفرض عليها الوقوف إلى جانب الولايات المتحدة (وكان هذا صحيحًا فيما يخص دول أوروبا الشرقية التي كانت تسعى للتخلص من الهيمنة الروسية).
كلما كان هنالك إجماع عام، بما في ذلك الإجماع في أوساط المجموعات المعارضة للنظام الحاكم، على أن المصالح الوطنية لهذه الدول مختلفة عن مصالح الولايات المتحدة، فإن المحاولات الأمريكية للتأثير في الشأن الداخلي لهذه الدول ينظر إليها بعين الريبة والامتعاض، وتعد تدخلاً سافرًا ومحاولة ليس لدعم الديمقراطية بل لخدمة المصالح الضيقة لواشنطن، وهذا في المقابل لا يخدم إلا مصلحة هذه الأنظمة التي تستهدفها الدول الغربية، حيث إنها تنجح من خلال ذلك في إظهار معارضيها في الداخل على أنهم خونة وعملاء للسي آي إيه، ويمكننا القول دون أي مبالغة أن النتيجة الوحيدة للتدخل الأمريكي في الشؤون الداخلية الروسية والصينية والإيرانية، كانت تقوية هذه الأنظمة الحاكمة عوضًا عن إضعافها.
“الغزو الأمريكي للعراق 2003”
وأخيرًا حتى بعد الكوارث التي جدت في العراق وليبيا، لا يبدو أن هناك أي وعي في أوساط أصحاب القرار في واشنطن بحقيقة أن المحاولات الأمريكية لتغيير الأنظمة في الدول الأخرى يمكن أن ينظر إليها، ليس فقط من قبل النخب بل حتى من قبل الشعوب، على أنها ستؤدي بشكل مقصود لتدمير دولهم، وتسبب كارثة لمجتمعاتهم، وعندما انهار النظام الشيوعي في الاتحاد السوفييتي (رغم أن ذلك تم جزئيًا كان سببه الضغط الغربي)، رحلت الدولة السوفييتية مع هذا الانهيار، ولاحقًا شارفت الدولة الروسية أيضًا على ملاقاة نفس المصير، حيث تمت محاصرتها وإضعافها وأصبحت عاجزة على الصعيد الدولي، وعانت أجزاء كبيرة من البلاد ونسبة هامة من المواطنين من كارثة اقتصادية واجتماعية.
ويتذكر الصينيون جيدًا تجاربهم السابقة مع انهيار الدولة، حيث انتشرت الحروب وتجارة السلاح والمجاعة وسيطر أمراء الحرب، وأصبحت البلاد عرضة للغزو الخارجي، ولذلك فإن الشعب الصيني أمام هذه المخاطر فضل الالتفاف حول الدولة، رغم أنه في الغالب لا يشعر بالرضا حيالها، ولكنه يرى أنها أكثر ثقة من أي بديل قد تأتي به الولايات المتحدة، خاصة في ظل تآكل الديمقراطية والقيم التي كانت تفتخر بها الدول الغربية في الماضي.
بعبارة أخرى، فإن سعي الولايات المتحدة لنزع الشرعية عن الدول الأخرى، وما يتضمنه ذلك من تهديد لهذه الدول وتدخل في شؤونها الداخلية وسعيًا لقلب أنظمة الحكم فيها، سينظر إليه من قبل هذه الدول المستهدفة وفئات واسعة من شعوبها على أنه تهديد وجودي ومفضوح، وهذا التهديد الوجودي يجعل التعاون البنّاء وإقامة العلاقات السلمية أمرًا صعبًا إن لم نقل مستحيلاً، هذه الفكرة أوضحها الكاتب هيو وايت في كتابه “الخيار الصيني”، والذي قال فيه إن اعتراف الولايات المتحدة الكامل بشرعية الدولة الصينية يعد أمرًا أساسيًا، من أجل إقامة علاقة بين الولايات المتحدة والصين على قاعدة السعي لإنهاء الخطر المتزايد لاندلاع حرب ستكون تبعاتها كارثية.
كما أن التهديدات الوجودية تولد بطبيعتها تصرفات انتقامية من الطرف الآخر، وهذا الجانب أيضًا تم تجاهله من قبل النخب السياسية صاحبة القرار في الدول الغربية، والتي كانت كل مقارباتها )سواء تعلقت بدعم الانقلابات الداخلية، أو التحرك العسكري أحادي الجانب، أو تغيير النظام، أو فرض العقوبات الدولية)، كانت كلها مبنية على اعتقاد خاطئ بأن المعايير الأخلاقية التي تنطبق على الطرف الآخر لا تنطبق على هذه الدول، وفي ظل ما يبدو كأنه تدخل روسي في مسار السباق الانتخابي الأمريكي على مدى السنة الماضية، يمكننا القول بكل بساطة إن الطرف الآخر استعمل نفس هذا السلاح الذي كانت الدول الغربية تجيز لنفسها فقط استعماله دون انتظار لردة فعل الطرف المقابل.
المصدر: ناشيونال أنترست