صورة قاتمة لما يخص المنافسات المتوقع أن تجري بمنطقة الشرق الأوسط، وبالأخص ما يتعلق منها بالعراق وسوريا، ذلك ما خلُص إليه مركز الدراسات الاستراتيجية والأمنية “ستراتفور” بتوقعاته لسنة 2017، فقد تنبأ المركز باشتعال نار التنافس بين تركيا وإيران لدرجة غير معهودة سابقًا، وستكون ساحتها العراق وسوريا، هذين البلدين اللذين يعانيان من وطأة النفوذ الإيراني، وسيطرته المباشرة على إراداتهما السياسية.
أن التصادم التركي – الإيراني مسألة حتمية بسبب اختلاف توجهاتهم وتصوراتهم لمستقبل المنطقة
وانطلاقًا من تلك التوقعات التي تعتمد على وقائع حقيقية على الأرض، نجد أن التصادم التركي – الإيراني مسألة حتمية بسبب اختلاف توجهاتهم وتصوراتهم لمستقبل المنطقة، ومن المتوقع أن يكون هذا الصراع ذا طبيعة هجومية من جانب الإيرانيين، إلا أنها ستكون دفاعية من الجانب التركي، الأمر الذي يجعل الإيرانيين دائمًا متقدمين بخطوة على حساب الأتراك، فالدعم التركي لمعارضي النظام السوري، جعل إيران تشن حربًا بالوكالة ضدها داخل سوريا، وداخل تركيا أيضًا، ذلك لامتلاك إيران أوراق ضغط عديدة ضد تركيا، بعضها قد فعَّلتها وبعضها الآخر ما زال غير مفعَّل، بينما لا تمتلك تركيا ضد إيران أوراق ضغط فاعلة وقوية، وإن امتلكت، فإنها لم تفعّلها لحد الآن.
ومن أوراق الضغط الإيرانية ضد تركيا، والمؤثرة على حاضر ومستقبل تركيا، هي ورقة حزب العمال الكردستاني، الذي يمتلك علاقات وثيقة بالنظام الإيراني، فقد نشرت صحف في 27 أغسطس/ أب 2015، صورًا يظهر فيها وزير الداخلية الإيراني عبد الرضا رحماني فاضلي مرتديًا الزي العسكري وإلى جانبه محافظ ولاية أذربيجان الغربية الإيرانية مع مسلحي الحزب، بجبال قنديل بإقليم كردستان، حيث التقى هناك مع قيادات من حزب العمال الكردستاني.
تنظيم الدولة الإسلامية الذي غالبًا ما يتصرف كشركة مساهمة متعددة الجنسيات، هناك مؤشرات قوية على تقديمه خدمات للإيرانيين بتوجيهه لضربات إرهابية داخل العمق التركي
كما أن تنظيم الدولة الإسلامية الذي غالبًا ما يتصرف كشركة مساهمة متعددة الجنسيات، هناك مؤشرات قوية على تقديمه خدمات للإيرانيين بتوجيهه لضربات إرهابية داخل العمق التركي، بهدف ضرب السياحة التركية التي تشكل مصدرًا مهمًا من مصادر الدخل القومي التركي، أما الأوراق التي لم تفعلها إيران ضد تركيا لحد الآن، هي إذكاء نار الصراعات الطائفية في داخل تركيا، من خلال إغراء الطائفة العلوية والطائفة الشيعية في تركيا للتمرد ضد الحكومة.
أما الأتراك، فعلى الرغم من إمكانية امتلاكهم لأوراق مهمة ضد إيران، فإنهم لم يفكروا حتى الآن في تفعيلها، منها الوجود التركماني القوي في إيران، فبإمكان تركيا الاستفادة من الرابط القومي الذي يجمعهم بهم لكي يمزقوا إيران من الداخل، وفي العراق كان يمكن لتركيا أن تصنع لها أدوات فاعلة للحد من النفوذ الإيراني، والساحة هناك تشجع لهذا العمل، بسبب الاضطهاد الذي يلاقيه العرب السنًّة من قبل حكومة بغداد الطائفية، بالإضافة إلى الاستفادة من حالة الصراع القائمة بين الأكراد وحكومة بغداد المركزية.
في خضم كل هذا الصراع، تجد تركيا نفسها وحيدة في عملية التصدي للنفوذ الإيراني في ظل غياب شبه كامل للدور العربي حاليًا، فعلى الرغم من أن السعودية قد رفعت لواء محاربة التغلغل الإيراني في المنطقة، فإنها فعليًا لم تقدم شيئًا حقيقيًا على الأرض، ما عدا حربها الاستنزافية في اليمن، والتي لم تحقق فيها حتى الآن انتصارًا حاسمًا على أذناب إيران، وفي ظل عدم وجود أي مناطق نفوذ للسعودية في العراق.
وفقدان تأثيرها على مجريات الأمور في سوريا، ستلقي السعودية بثقلها كله على الأتراك، وستراهن عليهم في محاربتها للنفوذ الإيراني ودعم المصالح السنّية، وهذا الأمر يمثل فرصة لتركيا للاستفادة من الثقل المالي الخليجي في إدامة حربها ضد النفوذ الإيراني، وعلى ما يبدو أن الخليجيين بدأوا فعلًا بهذا الدور من خلال الوعود التي قدمتها السعودية وقطر والامارات باستثمار مبلغ 100 مليار دولار لإنقاذ الاقتصاد التركي من التدهور الحالي.
أما الولايات المتحدة وبعد انتهاء حقبة أوباما والإقبال على حقبة جديدة بقيادة ترامب، ستسعى لتكتيك جديد لها في المنطقة، من خلال تعاون أكبر مع روسيا في سوريا، وستحاول روسيا الاستفادة من هذا التعاون لأقصى حد، وتحقيق مكاسب دبلوماسية واقتصادية، يأتي رفع أو تخفيف العقوبات الأمريكية عليها، على رأسها، وبسبب أن الإدارة الأمريكية الجديدة تعتبر إيران خطرًا قوميًا على أمريكا، حسب ما صرح به ترامب ومساعدوه أكثر من مرة، فالمتوقع أنَّ روسيا ستحاول أن تخفف العلاقة الوثيقة التي تربطها مع إيران، أو ستجعلها ورقة جيدة تتفاوض بها مع الإدارة الأمريكية، ذلك لأن روسيا ستتعاون فقط بالقدر الذي يحقق أهدافها ومصالحها.
تخلّي روسيا عن إيران كحليف، ليس بالأمر البسيط
لكنَّ تخلّي روسيا عن إيران كحليف، ليس بالأمر البسيط، ذلك لأن روسيا تعتمد على إيران في تغطية محدودية نفوذها على الأرض في سوريا، لذلك تحاول روسيا الآن تعويض قلة نفوذها على الأرض تدريجيًا، فقامت بجلب قوة محدودة من الشرطة العسكرية الروسية ينتمون للديانة المسلمة السنيَّة.
لتحل محل المليشيات الإيرانية الموجودة في حلب، كما إنها تدعم تشكيل الفيلق الخامس الذي أُعلن عن تشكيله من العرب السوريين لكي يعوض به عن المليشيات الإيرانية، لكن هذين الحلَّين لا يكفيان لترسيخ نفوذ روسيا على الأرض، ولا بد لها من مساعدة فاعلة، وهنا تأتي الفرصة مواتية للأتراك لتقديم أنفسهم للروس كبديل جيد عن الإيرانيين في تغطية الأرض بمقاتلي الجيش الحر وجنودها أيضًا.
لكن من أجل طرد كل تلك المليشيات الإيرانية الفاعلة على الأرض في سوريا، يحتاج الأمر إلى جهد وإرادة سياسية وعسكرية، وهنا أيضًا تأتي الدبلوماسية التركية لإنضاج مثل هذه الإرادة السياسية والعسكرية عند الأطراف الفاعلة في الساحة السورية، من خلال تقريب وجهات النظر الروسية والأمريكية لتبني الطرح التركي، والذي سيتمثل بتبني فرضية أن كل المليشيات الطائفية العاملة في سوريا.
هي منظمات إرهابية خارجة عن القانون، وبالأخص العراقية منها، مستفيدين من إعلان الدبلوماسية العراقية بالتخلي عن تلك المليشيات وأنها لا تمثل العراق بشكل رسمي، حسب ما ورد بتصريحات وزير الخارجية العراقي إبراهيم الجعفري، وكذلك تصريحات رئيس الوزراء العبادي بذات الصدد، ومن ثم إذا رفضت إيران سحبها من سوريا، سيتم التعامل معها كمنظمات إرهابية وضربها وإجبارها على الانسحاب من سوريا.
وحسب هذا السيناريو يبدو أن أمريكا ليس لديها وسائل ضغط كبيرة في سوريا لتعزيز موقفها في سوريا، سوى الاكراد المرفوضين من قبل تركيا، لذلك بدأت الآن أمريكا بمحاولات الضغط على الروس لتحسين موقفها التفاوضي مستقبلًا، من خلال إرسال جنود لها إلى بولندا، فقد نشرت الولايات المتحدة أكثر من 250 جنديًا فيها كمقدمة لنشر ما يقارب الأربعة آلاف جندي أمريكي في ذلك البلد المجاور لروسيا، الأمر الذي عدّته روسيا تهديدًا لأمنها القومي.
أما فيما يخص العراق، فإن شهر العسل الذي تعيشه تركيا والعراق، بعد الزيارة التاريخية التي قام بها رئيس الوزراء التركي للعراق، سرعان ما سينقضي، وستحاول تركيا توسيع نفوذها في شمال العراق، في الموصل وفي كردستان وحتى في كركوك من خلال تعزيزها لوضع أصدقائها وتقديم نفسها كدولة راعية للسنّة والأكراد في العراق.
ستستغل إيران حالة الانقسام بين الأكراد العراقيين للضغط على البارزاني رجل تركيا في كردستان
وبينما تفعل ذلك، ستواجه منافسة شديدة من إيران على ذلك النفوذ، من خلال الحكومة العراقية الموالية لها وكذلك المليشيات المنتشرة بالعراق، وسوف تستغل إيران حالة الانقسام بين الأكراد العراقيين للضغط على البارزاني رجل تركيا في كردستان، كما وستستغل قوات حزب العمال الكردستاني التي أصبحت طرفًا أساسيًا وفاعلًا في الصراع الداخلي في كردستان العراق، فهو يتحالف مع حزب نوشيروان مصطفى زعيم حركة “التغيير” وكذلك مع حزب الطالباني ناهيك عن علاقة هذا الحزب الوثيقة مع الميليشيات العراقية التي يقودها قاسم سليماني ضد الحزب الديمقراطي الكردستاني وزعيمه مسعود بارزاني، كما وستحاول إيران، إظهار تركيا للعرب العراقيون، كدولة محتلة يجب مقاومتها.
إن عودة تركيا للساحة الإقليمية كدولة فاعلة ومؤثرة يمثّل تهديدًا جدّيًا لهلال النفوذ الإيراني عبر شمال سوريا والعراق، فهي بالتالي ستقف وبكل قوة أمام تركيا، وستكون احتمالية التصادم بين البلدين قوية.