تريد تركيا أن تتحول من التبعية إلى الشراكة، ثم إلى الاستقلال التام بين الدول، وهذا مسار مخطط له حتى عام 2023 وأعلن عنه الرئيس أردوغان في أكثر من خطاب وقد تم التأكيد على السير في هذا الاتجاه دون توقف رغم الصعوبات والأشواك المنتشرة في طريق النهضة، وقد تحققت في مدة قصيرة هي مدة عمر الحزب الحاكم “العدالة والتنمية” وحتى الآن طفرة ونقلة في جميع الجوانب الاقتصادية.
تعارض تلك الخطوات بلا شك قوى إقليمية، ودولية لا تحب لهذا البلد أو لغيرها إلا أن تكون تابعة كغيرها من أقرانها التي لا تسير إلا بتوجهات ومسارات محددة سلفًا.
ومنذ أن واجهت تركيا في 15 من تموز/ يوليو 2016 أعتى الانقلابات العسكرية في التاريخ، فكان لزامًا، وعلى إثر ذلك، أن تحدث تصدعات ومحاولات وخطط بديلة بعد إفشال الأخير، حتى ولو أقل منه ثأثيرًا، وأقصد بذلك من حيث القوى المؤثرة على الدولة التركية، ومن الطبيعي في ظل تلك الظروف والأجواء المحيطة بالدولة التركية من صراعات حالية، أن تحدث تصفيات لرموز وطنية أو تفجيرات هنا وهناك أو حتى أزمات اقتصادية مفتعلة كهبوط حاد في سعر العملة المحلية مثلما يحدث الآن، الغرض منها إرسال رسالة لصناع القرار في هذا البلد مفادها “عدم استقرار الوضع في هذا البلد إلا بالرضوخ لإملاءاتنا”، وتم الضغط في هذا الاتجاه حتى يتراجع النظام الحاكم عن السير عكس التيار.
لا ننكر أن بعض هذه الخطط والمؤامرات، قد نفذت بالفعل وحققت نجاحًا شكليًا في جزء من جوانبها، ولكنها لم تكن مؤثرة كما كان يراد لها، وذلك بغرض إضعاف الدولة كما ذكرنا، وأما البعض الآخر من هذه المؤامرات تم إفشالها وإحتواؤها والسيطرة عليها.
ولكن يبقى السؤال عن مدى تأثير هذه المؤامرات على “الدولة” المتمثلة في صناع القرار – الأوضاع السياسية – الأوضاع الاجتماعية – الأوضاع الاقتصادية في هذا البلد؟
* صناع القرار: ما زادهم من هذه المؤامرات إلا إيمانًا بقضيتهم المصيرية على هذه الأرض، وأنهم لن يترجعوا إلى الوراء كي ينتظروا من يقرر لهم مصيرهم.
* الأوضاع السياسية: أرى أنها تغيرت للأفضل، فنجد أن الحزب القومي HDP يتحالف مع حزب العدالة والتنمية المحافظ الحاكم AKP في نادرة من النوادر السياسية في تركيا، للخروج من هذه الكبوة التي فرضها الغرب عليهم، ومنه أيضًا أنه يتم التعامل مع جزء كبير من المؤامرات التى لا تنتهي سواء داخل تركيا أو خارجها من تقسيم أو احتلال أو غير ذلك بكل سلاسة وحنكة سياسية.
* الأوضاع الاجتماعية: من وجهة نظري أنها ازدادت تماسكًا أكثر من ذي قبل، وأصبحت أكثر وعيًا في مواجهة الخطر الذي من شأنه أن يعصف بالكيان المجتمعي في البلاد جراء إشعال نار الفتنة بين أبناء هذا البلد بسبب زرع أفكار جماعات هدامة مثل جماعة “غولن” التي تلتحف من عباءة الإسلام رداءً لها تحت مظلة الفكر الغربي أو غيرها من الجماعات العرقية.
فرض القيود
لقد فُرضت على تركيا بعض القيود وازدات حدتها في الآونة الأخيرة، سواء من الدخل تمثلت في محاولة انقلابية فاشلة أو بدعم عناصر إرهابية معادية لتركيا مثل منظمة داعش وعناصر حزب العمال الكردستاني، أو من الخارج بإحداث إرباك في العلاقات التركية الروسية بقتل السفير الروسي في أنقرة، أو مراوغة الغرب لها بازدواجية في التعامل معها، كل هذا وغيره حتى تنشغل تركيا بصراعات سواء داخلية أو خارجية لمدة طويلة تنهكها عن التقدم أو تحقيق حلمها المنشود في المستقبل.
نجاح ملحوظ بعد فرض القيود
سرعان ما تخلصت تركيا من كثير من القيود والمؤامرات المتلاحقة وأصبح حالها من حالة المدافع إلى حالة المهاجم بدخولها سوريا بعملية “درع الفرات” للقضاء على داعش وفرض المنطقة العازلة، وفي نفس الوقت دخولها العراق “معسكر بعشيقة” وبالتوازي محاولة الاتفاق مع روسيا لوقف إطلاق النار وإنهاء الأزمة السورية، كل هذا وغيره لهو خير دليل على نجاحها في إفشالها جميع خطط تقسيم المنطقة.
الانقلاب الاقتصادي
بعد النجاح الملحوظ على جميع الأصعدة لتركيا في الشأن المحلي والإقليمي والدولي، أصبح من الضروري استمرارية إطالة أمد الصراع على النفوذ في المنطقة، والنيل منها كدولة محورية كلما سنحت الفرصة لذلك.
وبعد هذه الخطوات المهمة نحو مزيد من التعافي جراء المحاولة الانقلابية الفاشلة بالمثابرة وتخطي كثير من العقبات والأفخاج لاستدراجها في عمق الصراع بالمواجهة المسلحة مع إيران أو روسيا، فكان مما لا شك فيه حدوث أمر جلل يعد متناغمًا مع الصراع الحالي في الحرب على تركيا يمس الجانب الاقتصادي الذي يعد شريان الحياة فيها، الذي من شأنه وقد ويصعب معه التعافي من آثار سابقة، وقد حدث بالفعل ما أسميه “انقلابًا اقتصاديًا” ولكنني أراه أخف بكثير من محاولة الانقلاب العسكري السابقة تموز 2016 وللوقوف على التفاصيل هذا الانقلاب لا بد من الإجابة على السؤال التالي:
ماذا تريد القوى الغربية من تركيا الآن؟
– تحرير سعر الفائدة البنكية وعدم إلغائها أو الحد منها في البنوك بالتعويض عنها ببنوك “تشاركية” تقوم فكرتها على الشريعة الإسلامية في المعاملات المالية.
– الحد من علاقات تركيا مع الشعوب وخاصة شعوب الربيع العربي.
– الحد من علاقات تركيا مع الحركات والأفكار الإسلامية وعلى رأسها جماعة الإخوان المسلمين وجميع الحركات والأحزاب والحكومات التابعة لها.
– تحديد العمق الحضاري لتركيا من عهد قيام الجمهورية على يد مصطفى كمال أتاتورك وليس من عهد الدولة العثمانية المليئة بالانتصارات.
– الخضوع للشروط المُجحفة من قبل اليونان، وتقديم تنازلات بشأن جزيرة “قبرص” في المفاوضات التي تجري حاليًا بين رئيسي شطري الجزيرة (الرومي والتركي).
– عدم تطور العلاقات مع روسيا كبديل عن التحالف الغربي التي تقوده الولايات المتحدة أو حلف الناتو في المنطقة.
– عدم التدخل في الشأن العراقي حتى ولو جاء ذلك على حساب حقوق سُنّة العراق لصالح المليشيات الطائفية.
– الحد من التوغل بل التوقف عن ملاحقة كل المنظمات الإرهابية في الداخل أو في الخارج.
– منع التصريحات التي من شأنها المساس بسمعة الغرب والولايات المتحدة وفضح خططهم أمام الشعوب وكشف بشاعة إجرامها في دعم الانقلابات العسكرية والعصابات والمنظمات الإرهابية في المنطقة بدلًا من محاربتها.
كيف تتم السيطرة على الانقلاب الاقتصادي الحالي في تركيا؟
الحل يكمن في تضافر كل الجهود المتمثلة في دمج جميع العوامل (ثلاثية العوامل) التي من شأنها معافاة الاقتصاد التركي سواء كانت عوامل داخلية أو خارجية:
- أولًا: العوامل الداخلية
1- إرادة الشعب التركي في دعم اقتصاد بلده كالتنازل عن الدولار مقابل العملة المحلية أو الذهب.
2- قوة إرادة نظام الدولة وعدم التنازل عن أي من عوامل المضي في استقلالها.
3- قوة الدولة في إدارة المشهد القائم للخروج من الأزمة الاقتصادية الحالية وإيجاد حلول اقتصادية سريعة كـ (ترشيد الطاقة – توفير أسواق جديدة – توفير حوافز استثمارية أكثر).
- ثانيًا: العوامل الخارجية
1- ضخ عملة صعبة كودائع بنكية.
2- رفع معدل الصادرات المتمثلة في زيادة الطلب على المنتجات التركية.
3- تحرك خليجي جاد سواء من (رجال أعمال – دول) للاستثمار في تركيا.
هذا ما دعا وزير الاقتصاد التركي نهاد زيبكجي أن يصرح ويطمئن الشعب والمستثمرين إلى أن المرحلة القادمة ستشهد عودة الليرة التركية إلى مسارها الطبيعي، بعد فشل حركة التقلبات والمضاربات، وأن البنك المركزي لديه القدرة على اتخاذ إجراءات ضد نهج المضاربة الذي تتعرض له تركيا.