كان تاريخ الاستعمار الألماني قصيرًا نسبيًا، مقارنةً بتاريخ البلدان الأوروبية الأخرى، كما أشرنا لذلك في تقاريرنا السابقة ضمن ملفنا “ألمانيا الاستعمارية“، فقد بدأ عام 1884 وانتهى عام 1918، لكن ندوبه ما زالت حيّة، إذ قتل المستعمرون الألمان عشرات آلاف الأفارقة خلال فترة حكمهم توغولاند والكاميرون ورواندا وبوروندي وتنزانيا وناميبيا.
كان البيض يشكلون أقلية ذات امتيازات عالية في المستعمرات الألمانية، أقل من 1% من السكان، عاش نحو الـ25 ألف ألماني في المستعمرات عام 1914، أقل من نصفهم بقليل في جنوب غرب إفريقيا الألمانية، واعتبر الـ13 مليون من السكان الأصليين على أنهم أتباع مجردين من حقوقهم.
رغم ذلك، بقيت العديد من الجرائم الألمانية في حقّ الأفارقة منسية لأسباب عديدة، لهذه الاعتبارات ارتأينا أن نسلط الضوء في هذا التقرير على هذه الجرائم والحديث عن بعضها، فالحديث عن جميعها يحتاج كتبًا ومجلدات لكثرتها.
مقاومة كبيرة
قوبل الاستيطان الألماني في أغلب الأراضي الإفريقية المحتلة بمقاومة شديدة من السكان الأصليين المستعمَرين، فقد بذل الكثير منهم جهودًا كبيرةً لتحرير أنفسهم وأرضهم من المستعمر الألماني القادم من الشمال.
ولم يجد الألمان في شرق إفريقيا ترحيبًا من الأفارقة، فقد قاوموهم سواء الأفارقة أم العرب، تمثلت المقاومة أولًا في الرفض ثم تطورت إلى ثورات شعبية أبرزها: ثورة أبوشيري بن صالح الواهيمي بين سنوات 1894-1908.
ومن أبرز الثورات ضد المستعمر الألماني، ثورة الماجي الماجي بين سنوات 1905-1907، عندما ثار الأهالي في شرق إفريقيا الألمانية بسبب سياسة ألمانية تهدف إلى إجبار السكان الأصليين على زراعة القطن للتصدير، وقُتل خلالها نحو 250.000 إلى 300.00 معظمهم من المدنيين بسبب المجاعة.
كانت عمليات القتل جزءًا من حملة العقاب الجماعي الألمانية بين عامي 1904 و1908
إلى جانب ذلك، نتذكر ثورة الهيريرو سنة 1904 في ناميبيا بقيادة زعيمهم صمويل ماهريرو، ضد الغزاة الاستعماريين الألمان، كما ثار شعب ناما بقيادة هندريك فيتبوي ضد الألمان، إلا أن هذه الثورات جُوبهت بقوة السلاح.
أدت هذه الثورات إلى زيادة العنف والقمع الألماني ضد الشعوب الإفريقية المستعمرة، فبعد انتفاضة شعب الهيريرو والناما في ناميبيا، أصدر الجنرال لوثار فون تروثا أمر إبادة نصه: “داخل الحدود الألمانية، سيتم إطلاق النار على كل فرد من الهيريرو، سواء كان يحمل سلاحًا أم دونه، مع الماشية أو دونها”.
مجازر كثيرة
أدى أمر الإبادة هذا إلى ذبح عدد كبير من سكان البلاد وأجبروا على ترك أراضيهم وتسممت آبارهم وسجن الناجون في معسكرات الاعتقال حيث عملوا غالبًا حتى الموت في ظروف مزرية، كما جرى سلخ العديد من الهياكل العظمية لأولئك الذين قُتلوا بالقوة على يد نساء من قبائلهم واستخدامها في الأبحاث الأنثروبولوجية في ألمانيا.
فرض الاستعمار الألماني حكمه على البلاد واستولى على جزء كبير من أراضيها، وكانت عمليات القتل جزءًا من حملة العقاب الجماعي الألمانية بين عامي 1904 و1908، التي تُعرف اليوم بأنها أول إبادة جماعية في القرن العشرين.
في تلك الفترة قُتل ما يقدر بنحو 65 ألفًا من الهيريرو من أصل 80 ألفًا، في حين أن ما يقارب 10 آلاف من الناما (نحو نصف السكان) لقوا حتفهم، ما أدى إلى إبادة 80% من هيريرو و50% من شعب ناما، هذه المأساة معروفة للعديد من المؤرخين باسم “الإبادة الجماعية المنسية” في ألمانيا.
كان شعار الألمان في أغلب الأحيان العنف والخراب، فقد أشاعوا الخراب في العديد من المناطق التي استعمروها منها جنوب تنجانيقا، ودمرت القرى وأحرقت المزارع وتسلّطوا على الأهالي، وقدرت إحصاءات القتلى نتيجة الحملة الاستعمارية ضد تنجانيقا فقط بنحو 100 ألف شخص.
فضلًا عن ذلك أجبر الألمان ابتداءً من سنة 1890 – أي مع انهزام بسمارك في الانتخابات البرلمانية – الأهالي على زراعة المحاصيل والعمل في المزارع التابعة للمستوطنين الأوربيين، كما طبقوا سياسة الأرض المحروقة من أجل إخضاع القبائل الإفريقية، عن طريق إحراق المحاصيل الزراعية والقرى إضافة إلى مصادرة الماشية.
فئران تجارب
شيئًا فشيئًا، فرض الألمان سيطرتهم على المناطق المستعمرة، وتراجعت حقوق وحريات الشعوب الإفريقية بسرعة، وطرد السكان الأصليون في العديد من المناطق بشكل منهجي من أراضيهم، وخصص لهم المستعمرون ما أسموها “المحميات”.
هذه المحميات كانت عبارة عن محتشدات اعتقال تفتقر لأبسط مقومات الحياة، إذ يتم منح المهجرين كميات قليلة من الطعام وحرمانهم من المرافق الصحية، ما أدى إلى تفشي الأمراض خاصة بين الأطفال من ذلك مرض الإسقربوط (مرض عوز فيتامين سي).
عوضًا عن علاجهم وتقديم الرعاية لهم، حول الأطباء المرضى إلى “فئران تجارب”، فقد تم حقنهم بالأفيون والزرنيخ ومواد أخرى ليروا كيف يمكن أن يؤثروا على مرض ناتج عن نقص الطعام الطازج، ومات العديد من الأشخاص الذين خضعوا لهذه التجارب نتيجة لما تضمنته خطواتها، وفي بعض التجارب كان الموت هو النتيجة المنشودة، وبعد موت المريض يتم فتح جثته من أجل رؤية آثار هذه التجارب.
أرسلت الجماجم المسروقة إلى ألمانيا لدراستها سعيًا وراء علم تحسين النسل العنصري
أما النساء، فقد تعرضن للاغتصاب، ولم يكتف الألمان بذلك، إنما أمعنوا في إذلالهن، إذ تمّ تحويل العديد من الصور الجنسية العارية للنساء الإفريقيات إلى بطاقات بريدية، وأرسلت إلى ألمانيا، لتأكيد تفوق الألمان وبسط سيطرتهم على شعوب الدول الإفريقية.
هناك الكثير من التجارب الأخرى غير الإنسانية، إذ جرى تسخير الرجال الذين كانوا أقوياء بما فيه الكفاية للعمل في الموانئ والسكك الحديدية والمزارع، خدمة للمستوطنين الألمان الذين جاؤوا إلى هناك طمعًا في خيرات الأفارقة الكثيرة.
سرقة الجماجم والبقايا البشرية
جرائم المستعمر الألماني امتدت لجماجم الأفارقة أيضًا، إذ سُرقت جماجم مئات الأفارقة والبقايا البشرية (هياكل عظمية وبقايا شعر) وأرسلت إلى ألمانيا لدراستها في مجال علم تحسين النسل العنصري، وكانت بعثة ألمانية قد شحنت الجماجم بين سنتي 1907 و1908 لفائدة العالم الأنثروبولوجي فيليكس فون لوشان الذي كان يدرس حينها موضوع التنمية البشرية.
دخول ألمانيا حربين عالميتين أدى إلى نقل هذه الجماجم والبقايا البشرية إلى مستودع ومن بعد ذلك تم حفضها في المتاحف، وقد جلبت 986 جمجمة من رواندا و41 من تنزانيا و4 من بوروندي و54 جمجمة من دول أخرى بشرق إفريقيا.
انتهى المطاف بالعديد منهم في معهد القيصر فيلهلم، حيث درس الطبيب في قوات الأمن الخاصة المعروف بـ”دكتور الموت” جوزيف منغيلي الذي أجرى لاحقًا تجارب طبية مميتة على السجناء في أوشفيتز، في أوائل الأربعينيات.
وتم استعمال البقايا البشرية في العديد من الدراسات العلمية ذات الطبيعة العرقية من جانب علماء الأنثروبولوجيا (علم الإنسان)، وأغلب هذه التجارب كانت تهدف إلى إثبات أن الأوروبيين البيض يتفوقون على باقي الأعراق، خاصة تفوق الألمان على باقي الأجناس كما روّج لذلك أدولف هتلر، ووفقًا لبعض الباحثين، فإن هذه التجارب أصل النظريات العنصرية الأولى لألمانيا النازية.
كبار المجرمين
أشرف على هذه الجرائم العديد من الضباط والسياسيين، منهم كارل بيترز الذي يعدّ من أبرز “مؤسسي” شرق إفريقيا الألمانية (تنزانيا) وهو أيضًا أحد أشهر المستعمرين في تاريخ ألمانيا الاستعماري، وأحد مؤيدي الداروينية الاجتماعية وفلسفة فولكيش، جعله موقفه تجاه السكان الأصليين واحدًا من أكثر المستعمرين إثارة للجدل حتى خلال حياته.
خلال استكشافه وحكمه المستعمرة الألمانية في شرق إفريقيا، كان بيترز مسؤولًا عن القتل الجماعي، كما أجبر النساء الإفريقيات على ممارسة الدعارة، وكان أحد أكثر أساليبه وحشية هو الشنق العلني للنساء والرجال الأفارقة المتهمين بالزنا.
كان يعتقد أنه يجب الحفاظ على النساء الإفريقيات من أجل الرغبة الجنسية للذكور البيض، وأسند لجنوده المتمركزين هناك أحقية اغتصاب النساء الإفريقيات دون أن تتم محاسبتهم، ما دفع هتلر لتمجيده واعتباره بطلًا قويًا، وسُمّيت الكثير من الشوارع في ألمانيا باسم هذا المستعمر الوحشي، وصُنعت أفلام للاحتفال بحملاته في إفريقيا وأقيمت نصب تذكارية لا تزال قائمة حتى اليوم في هانوفر بألمانيا.
يُعرف كارل بيترز في المستعمرات الألمانية بإفريقيا باسم “ميلكونو وا دامو” – “صاحب اليد الملطخة بالدماء”، نتيجة الجرائم التي أشرف عليها في حقّ الأفارقة دون تمييز بين النساء والرجال وبين الصغار والكبار.
تعكس المتاحف الألمانية إلى الآن، وحشية الاستعمار الألماني والأوروبي عمومًا للقارة للإفريقية
أما من الضباط، فنجد لوتار فون تروثا، وهو قائد عسكري عرف بشراسته في مستعمرات ألمانيا في كل من آسيا وشرق لإفريقيا، وهو من قاد ما عرفت بـ”قوة الحماية” التي استعملتها الحكومة الألمانية لقمع الشعوب الإفريقية.
أشرف لوتار فون تروثا على الجرائم المرتكبة ضد سكان ناميبيا، ففي أكتوبر/تشرين الأول 1904 أمر فون تروثا بقتل أي فرد من شعوب هيريرو والناما، سواء كان مسلحًا أم من دون سلاح، يملك غنمًا أم لا، وقال: “لن أقبل أبدًا بالمزيد من النساء والأطفال”.
استخدم الضابط الألماني تقنيات إبادة جماعية للسيطرة على الشعوب الأصلية للمستعمرات، شملت ارتكاب مذابح جماعية والنفي إلى الصحراء حيث قضى آلاف الرجال والنساء والأطفال عطشًا وإقامة معسكرات اعتقال أشهرها معسكر “جزيرة القرش”.
وكانت أفكار هؤلاء السياسيين والضباط، مؤشرًا على تنامي الأيديولوجية النازية بين الألمان، إذ كان هؤلاء يدرسون طرق تحسين النوع البشري ويؤمنون بتفوق العرق الأبيض الألماني على باقي الأعراق، وهو ما يقضي بالقضاء عليها.
نهب الآثار
حظرت اتفاقية لاهاي عام 1907 – المتعلقة باحترام وقوانين الحرب البرية – سرقة الآثار والقطع الفنية ونهبها في أثناء النزاعات المسلحة والحروب، إلا أن الألمان تجاهلوا ذلك وتسابقوا لنهب آثار المستعمرات الإفريقية وتحويلها إلى المتاحف الألمانية.
تعكس المتاحف الألمانية إلى الآن، وحشية الاستعمار الألماني والأوروبي عمومًا للقارة الإفريقية، فهي تحتجز الإرث الثمين لدول القارة السمراء، فمن برلين إلى ميونيخ، تمتلئ متاحف ألمانيا بمئات آلاف القطع الأثرية المنهوبة خلال الحقبة الاستعمارية.
تحتضن المتاحف الألمانية نحو 40 ألف قطعة أثرية كاميرونية، وهو ما يمثل أضعافًا مضاعفة من عدد القطع القليلة المعروضة في ياوندي البالغ 6 آلاف قطعة فقط، وخضعت الكاميرون للحكم الاستعماري الألماني بدءًا من عام 1884 حتى خسارتها الحرب العالمية الأولى.
تشمل القطع الأثرية المعروضة في المتاحف الألمانية المنسوجات والآلات الموسيقية والأقنعة الطقسية والمقاعد الملكية والعروش والمخطوطات والأسلحة، على غرار كرسي مطرز من قرية بهام الكائنة في المنطقة الغربية الذي يُعرض في متحف ليندن في شتوتغارت، بالإضافة إلى طبل خشبي منحوت وكأس حرب محفوظ الآن في المتحف الإنثولوجي في برلين، وقبعة مطرزة تعود إلى زعيم تقليدي كاميروني، تعرض الآن في متحف ليندن.
كما احتضنت متاحف ألمانيا تمثال نغونسو، آلهة شعب نسو في شمال غرب الكاميرون، الذي أخذته السلطات الألمانية بالقوة في أوائل القرن العشرين، وقد أعيد التمثال إلى الكاميرون العام الماضي، في انتظار إعادة باقي المسروقات.
فضلًا عن ذلك، “تزيّن” مجموعة لوحات معدنية ومنحوتات – كانت تزين القصر الملكي لمملكة بنين فيما يعرف الآن بجنوب غرب نيجيريا – 20 متحفًا ألمانيًا، وهي القطع البرونزية التي استولت عليها القوات البريطانية عندما غزت وأحرقت ونهبت مدينة بنين عام 1897، ووصلت بعدها إلى متاحف ألمانيا.
وصُنعت ما يُعرف بـ”كنوز بنين” خلال حقبة ازدهرت فيها مملكة بنين، وجلّها مصنوعة من المعدن، كما صُنعت بعض القطع من العاج أو الخشب، وعلى الرغم من القوانين الحديثة الملزمة بإعادة التراث الثقافي والفني إلى أصحابه الأصليين، فإن ألمانيا على غرار باقي الدول الأوروبية تماطل في الأمر، وتتعامل مع كل قطعة على حدة.
رغم مرور أكثر من 100 سنة على خروج ألمانيا من مستعمراتها الإفريقية، إلا أنها لم تتصالح بعد مع إرثها الاستعماري العنيف في القارة السمراء، وهو الإرث الذي كان عماد الرؤية النازية للتوسع العالمي والسيطرة.