في تونس في نهاية صيف قائظ، تجري معركة يتجاهلها الإعلام الموجّه لكن مجالس النميمة تعجّ بها. المعركة داخل حزب النهضة حيث يستعد الحزب أو من تبقّى منه حيًّا لإنجاز مؤتمره الحادي عشر، في ظرف أقل ما يقال فيه أنه استثنائي. والسؤال الطافي على سطح الكلام هل ما زال حزب النهضة موجودًا فعلًا لينجز مؤتمرًا عاديًّا ولو في ظروف غير عادية؟
وراء هذا السؤال أسئلة أخرى تفصيلية، هل يكون مؤتمر التخلص من الغنوشي وفرض قيادة بديلة أم مؤتمر إنقاذ الغنوشي من سجنه بإعادة تصعيده لمناكفة الانقلاب بقيادة سجينة؟ وتتخفى أسئلة أخرى، هل يعرض الحزب نفسه للتصفية السياسية والأمنية بتحرك مماثل ووضع قيادة جديدة في مرمى الانقلاب؟ وسؤال الأسئلة المضمر هل بقي لحزب إسلام سياسي ما يفعله في تونس؟
على الأرض؟
الثورة حررت حزب النهضة من عذاباته، ومنحته فرص مشاركة سياسية كاملة طبقًا لقواعد الديمقراطية، والانقلاب على الديمقراطية أقصى الحزب عن كل مشاركة وطارد قياداته بالتقسيط المريح، وانتهى الأمر بتجميد فعلي وإن كان غير قانوني ولا قضائي لهياكل الحزب، واستولت الداخلية على المعطيات الخاصة بالحزب، بما فيها قوائم المنخرطين وبيانات الحزب المالية والتنظيمية.
وبان بالكاشف أن غياب الزعيم المؤسس والشخصيتَين الأكثر تأثيرًا فيه (العريض والبحيري) أفرغ الحزب من كل مبادرة وألزمه حدًّا لا يتجاوزه. نصف حياة شكلية ونصف موت غير معلن، فكيف يمكن إنجاز مؤتمر بمثل هذه الإمكانات؟
في بعض الحركة والاستعداد للمؤتمر (المؤجل لأسباب كثيرة منها وباء كورونا) إعلان تحدٍّ سياسي للانقلاب، بمعنى نحن هنا ولم نمت، ووجودنا لا يتوقف على وجود قيادة تاريخية مهما كانت مكانتها الاعتبارية، لذلك ننجز وننتخب قيادة ونشارك في إسقاط الانقلاب، وهذا الإعلان يؤدي إلى دخول في مرحلة جديدة من المعارضة بدم جديد، قد يكون دمًا شابًّا لم يتعرض للعذابات القديمة.
وبالنظر إلى ما اتضح من نية المنقلب الاستمرار في السلطة وعدم ترتيب أي مخارج ديمقراطية، فإن التحدي يتوجه مباشرة لشخصه بما يرجّح احتمال محرقة قادمة، فالأجهزة الصلبة تتفق مع الرئيس في معاداة الحزب، وما كان قتلًا بالتقسيط سيصير قتلًا بالجملة. هل ستقوي المذبحة القادمة الحزب كما فعلت به المذابح السابقة أم تنهي وجوده من المشهد السياسي التونسي؟ إعلان إنجاز المؤتمر يفتح على كل الاحتمالات.
تحدي المواجهة الداخلية
تحدي مواجهة المنقلب بالدخول في مرحلة تصعيد بقيادة جديدة (لا يمكن لي توقعها بالمرة)، قد يكون أقل أهمية من مواجهة التحديات الداخلية التي على المؤتمر مواجهتها، وأهم تحدٍّ معروض يتعلق بطبيعة الحزب في قادم الأيام ومشروعه السياسي.
لقد طرحت تجربة المشاركة أسئلة عميقة عن كفاءة الحزب وعن مشروع الإسلام السياسي برمّته، خاصة إذا وُضعت بجانب تجربة الإخوان في مصر، والتي كانت ورطة توزير السيسي فيها مطعنًا كاشفًا لجهل التنظيمات الإسلامية الكبير بالناس، وبالأجهزة العميقة لدول رسّخت أقدامها في الإقصاء السياسي لا في الديمقراطية (لم نجد أن عمر جماعة الإخوان أطول من عمر الدولة المصرية الحديثة).
الساحة السياسية التونسية مقفرة والأحزاب لا تنتج فكرة قابلة للبقاء، وكنا نردد دومًا أنها أحزاب بمهمة واحدة هي تدمير حزب النهضة، والآن والحزب شبه ميت نلاحظ أن كل الأحزاب اندثرت
لقد شارك الحزب في السلطة كحزب أول (عام 2012) وكحزب ثانٍ (عام 2014) وكشريك لائتلاف حزبي (عام 2019)، ولم يثبت الحزب في كل المراحل قدرة خارقة على إدارة الشأن العام، وكشفَ خواء فكريًّا وبرامجيًّا كبيرًا، والذين لا يعادون الحزب ولا يعملون على استئصاله خاب ظنهم بقدرة الحزب على الابتكار والاقتراح.
ولا يشفع له هنا أن كل شركائه كانوا أقل منه قدرة، لقد كانت الانتظارات كبيرة وكانت الخيبة أكبر، فبعد مليون ونصف ناخب اكتفى الحزب بأقل من نصف مليون هم نواته الصلبة والوحيدة، حيث إن فقدان مليون ناخب ليس بالأمر الهيّن في مسيرة حزب.
وفي ما قدم الحزب من نقد ذاتي لتجربته، بالغ في التبرير وتعليق الفشل على الظروف الخارجية التي أحاطت بمشاركته، وهوّن من هشاشته الداخلية، خاصة لجهة اختيار الأشخاص للمناصب.
لقد علق المستقيلون من الحزب (المئة خاصة) كل الأخطاء على أسلوب إدارة الغنوشي للحزب، لكن هؤلاء حملوا معهم نفس الخواء خارجه، فهم مند استقالتهم لم يقدموا للناس بديلًا يمكن مقارنته بأفكار الحزب الذي استقالوا منه، فصاروا رقمًا حزبيًّا آخر وليس مشروعًا سياسيًّا بديلًا.
نسمع الآن أن المهمة الأولى لكل نضال هي إسقاط الانقلاب، وهذه شجاعة تعلن لإخفاء جبن، فالعدو الأول للديمقراطية في تونس هو النقابة والحزبيات الأيديولوجية التي تملّكتها
يقبع كثير من السياسيين الصغار خلف حواسيبهم، ويطلبون من الحزب نقد تجربته، وهو طلب لا يوجَّه إلا للنهضة، فالجميع كان ملاكًا بينما النهضة عندهم حزب من الشياطين. لا أحد من هؤلاء يتوجّه للنقابة حتى بجملة عتاب، وبعض طالبي النقد، خاصة عصابة التيار، شاركوا في الانقلاب بالتخطيط والإسناد، لكن التيار لا ينقد نفسه ويودّ محاسبة النهضة حتى على انقطاع الغيث.
في نقد النهضة لتجربتها وجدنا نفس الخوف الذي تلبّسها وهي في السلطة، فالحزب لا يزال مرتبكًا أمام النقابة وأمام آثار عمليتَي الاغتيال، رغم براءته وانكشاف الجناة. ذلك التردد جعل عملية النقد الذاتي الموجّه للخارج غير مقنعة، وكانت أضعف من أن تقنع قواعد الحزب المقهورة من النقابة، حتى أنها تقع في التبرير ربما حفاظًا على سلامة الهيكل الحزبي أو محبة في قيادته التاريخية.
لماذا لم يسمِّ الحزب الجهات التي خربت تجربته وظل يهادنها بخطاب مسكنة ذليل؟ لقد كانت قواعد الحزب الوسطى تشارك في إضرابات مهمتها الوحيدة تخريب حكومات يشارك فيها الحزب، والقيادة كانت سعيدة بذلك حتى أن أمين عام النقابة حسين العباسي تبجّح بذلك في كتاب منشور وفي لقاءات تلفازية.
تلك الروح الذليلة باسم عدم مواجهة الجميع دفعة واحدة أخسرت الحزب الكثير من المصداقية، ونراها تهيمن على أجواء الاستعداد للمؤتمر، بما يعني أن القيادة الجديدة إن ظهرت ستعيد نفس الخطاب التبريري المرعوب من يسار النقابة ومن الشبيحة القَتَلة.
نسمع الآن أن المهمة الأولى لكل نضال هي إسقاط الانقلاب، وهذه شجاعة تعلن لإخفاء جبن، فالعدو الأول للديمقراطية في تونس هو النقابة والحزبيات الأيديولوجية التي تملكتها، ولولاها لما كان هناك انقلاب ولما نجح ولما رسّخ أقدامه. هذه إحدى المهمات التي تنتظر الحسم في أي مؤتمر، ولن يحسم الحزب أمر انخراط قواعده في نقابة دمّرته، ما يجعلنا نتوقع أن لا جديد تحت قبة المؤتمر سوى خطاب مسالمة مجتمع مدني مزيّف واستئصالي.
ماذا سيفعل حزب إسلام سياسي في مستقبل تونس؟
الساحة السياسية التونسية مقفرة والأحزاب الـ 200 ونيف لا تنتج فكرة قابلة للبقاء، وكنا نردد دومًا أنها أحزاب بمهمة واحدة هي تدمير حزب النهضة، والآن والحزب شبه ميت نلاحظ أن كل الأحزاب اندثرت حتى من وسائل التواصل الاجتماعي.
ساحة سياسية بلا مشروع، وهذا عنصر مشترك بين الجميع بغض النظر عن الحجم على الأرض، لذلك حصل انقلاب ونجح في البقاء بعد 10 سنوات حرية، والآن والحزب يستعد لمؤتمره نسمع كلامًا على أنه مؤتمر انتخابي مهمته إفراز قيادة تملأ الفراغ، والحقيقة أن هذا قليل أو كأنه أمر غير مستعجَل.
سؤال المؤتمر الذي وجب طرحه هو كيف الخروج من وضع البروليتاريا السياسية إلى طبقة حكم تملك قوة المال قبل سلامة النوايا
لسنا في موقع نملي به على الحزب أولوياته، فنحن خارجه (وعندما نتذكر أن الحزب منح 3 وزارات لشخص مثل عماد الحمامي، الذي قال في النهضة ما قال المؤمنون في إبليس، نفقد كل ثقة في كفاءة الحزب واحتمالات تطوره)، لكن سؤالًا كبيرًا فرض نفسه بعد تجربة المشاركة وتجربة الإخوان الذين وثقوا بالسيسي: ما هو مشروع أحزاب الإسلام السياسي؟ وهل ما زال هناك إمكانية للحديث عن إسلام سياسي لم يختلف في عمله عن فلول أحزاب حكمت وأسقطتها الثورة؟
هل يطرح المؤتمر هذا السؤال على نفسه؟ إنه سؤال تأسيسي يتطلب موتًا وحياة من نقطة صفر، حتى أننا لا نظنه يحتاج مؤتمرًا شكليًّا وقيادة شكلية قد تكون مشاريع شهداء.
جملة أخيرة لأصدقاء سيظهرون في المؤتمر ولن يكون لهم تأثير: ليس لكم شركاء في بناء الديمقراطية، ولن يقبل بكم الفارغون من كل مشروع وقد تحزّبوا لمحاربتكم (وكثير منهم أجهزة أمنية)، لكن لم تتميزوا بشيء يكسبكم ثقة دائمة بين الناس.
سؤال المؤتمر الذي وجب طرحه هو كيف الخروج من وضع البروليتاريا السياسية إلى طبقة حكم تملك قوة المال قبل سلامة النوايا. لقد ضيعتكم نواياكم وكثير منها طيب وقليل منها خبيث، لكن قليلكم أعدم كثيركم فإذا أنتم هيّنون لا يقرأ لكم حساب. أما تعليم الناس دينهم فليست مهمة سياسية، وستحدثون في التاريخ حدثًا عظيمًا لو أعلن المؤتمر حل الحزب.