تطرق الذكرى الـ 11 لمجزرة داريا، بتفاصيلها وهول الفظائع التي ارتكبتها قوات النظام السوري، وجدان أبناء وأهالي داريا في شتات الشمال السوري وشتات المهجر حول العالم.
داريا المدينة التي دفعت ثمنًا باهظًا خلال سنوات الثورة السورية لنموذجية حراكها الثوري بشقَّيه المدني والمسلح، وموقعها الجغرافي الذي ضاعف حقد النظام على المدينة، بينما لم تمنح فصائل وثوار الجبهة الجنوبية في جنوب سوريا، ولا فصائل شمال سوريا الموقع الاستراتيجي بالاهتمام والفعل المطلوبَين، ما ساهم بوصول النظام إلى غايته في إخراج المدينة برمزيتها وثقلها الثوري من معادلة الصراع، بعد تهجير ثوار المدينة وأهلها في أغسطس/ آب 2016.
المجزرة التي وقعت في أغسطس/ آب 2012 شهدت فظائع تكاد تكون الأقسى بين الفظائع التي ارتكبها نظام الأسد بحقّ الشعب السوري، في مختلف المدن وعلى امتداد سنوات الانتفاضة السورية، ما يجعل مجزرة داريا واحدة من أبشع فظائع وجرائم نظام الأسد، ليس لعدد الضحايا أو بشاعة عمليات القتل والإعدام الميداني والتمثيل بالجثث والتعذيب قبل الإعدام فقط، بل العامل الزمني للجريمة يضاعف بشاعتها.
عاشت المدينة المجزرة وواجهت فرق الموت وحدها، واستمرت عمليات القتل على مدار أسبوع كامل تقريبًا، منذ بدء عمليات القصف المركّز على المدينة وأحيائها والمراكز الحيوية من مستشفيات وأسواق في يوم الاثنين 20 أغسطس/ آب، لتبدأ مع ظهر الجمعة 24 أغسطس/ آب قوات الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والمخابرات الجوية وغيرها من العصابات الدموية اقتحام المدينة وتمشيطها، حتى انسحابها من المدينة إلى أطرافها الاثنين 27 أغسطس/ آب.
بدأ أهالي المدينة ممن قُدِّرَ لهم البقاء على قيد الحياة الخروج من الملاجئ، بعد انسحاب فرق الموت من المدينة إلى أطرافها، وقبل أن ينفضوا عنهم غبار القلق والهلع اللذين سكناهم طيلة الأيام التي قضوها في ملاجئهم، فقد خلعت قلوبهم أهوال الفظائع التي اكتشفوها في أزقة وشوارع وبيوت المدينة الغارقة بدماء أهلها.
عقب ذلك، شرع الأهالي بنقل جثث جيرانهم من رجال ونساء وأطفال ممّن أُعدموا ميدانيًّا بالرصاص أو بالسكاكين أو حرقًا أو رجمًا بالحجارة، إلى مكان الدفن بالقرب من مسجد أبو سليمان الديراني، هناك حيث ساد الصمت وملامح الصدمة على وجوه الجميع، حين استحال على أعينهم إحصاء عدد الجثث الذي تجاوز المئات.
بموجب مبدأ مسؤولية القيادة في القانون الدولي العرفي والمادة 28 من نظام روما الأساسي، فإن بشار الأسد يتحمل المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبها مرؤوسوه خلال المجزرة
أسوة بكل المجازر التي ارتكبها بشار الأسد ونظامه بحقّ السوريين، كان رد المجتمع الدولي على مجزرة داريا تنديدًا وقلقًا وإدانة وبيانات محصورة بالورق الذي كُتبت عليه، دون أن يليها فعل عقابي أو خطوات جادة لمحاسبة المتورطين، فقد وصفت وزيرة الخارجية الأمريكية في ذلك الوقت، هيلاري كلينتون، الفظائع بأنها “حقيرة” و”انتهاك صارخ للقانون الدولي”، ودعا وزير الخارجية البريطاني ويليام هيغ إلى وضع حد فوري لأعمال العنف، ووصفها بأنها “إهانة للكرامة الإنسانية”.
ومع اقتصار جهد المؤسسات الحقوقية، دولية كانت أم سورية، على توثيق شهادات الناجين من المجزرة، رغم اقترابنا من الذكرى الـ 11 لها، تبقى الأسئلة الأساسية لدى أبناء المدينة وأهالي الضحايا حول العدالة وموعدها دون إجابات مقنعة.
كيف يصنّف القانون الجنائي الدولي مجزرة داريا؟
تنطوي أفعال قوات النظام السوري التي اقتحمت المدينة على جرائم حرب، استنادًا إلى المادة الثامنة من نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية التي وضّحت بالتفصيل الأفعال التي يمكن تصنيفها كجرائم حرب، والتي يمكن القول إن قوات النظام التي نفّذت مجزرة داريا ارتكبت معظم تلك الأفعال المنصوص عليها في تلك المادة، بدءًا من القتل العمد والتعذيب والمعاملة اللاإنسانية وتعمُّد توجيه هجمات ضد السكان المدنيين بصفتهم هذه، أو ضد أفراد مدنيين لا يشاركون مباشرة في الأعمال الحربية، وتعمُّد توجيه هجمات ضد المباني والمواد والوحدات الطبية.
علاوة على ذلك، إن تعريف الجرائم ضد الإنسانية كما نصّت عليه المادة السابعة من نظام روما الأساسي، يؤكد أن أفعال قوات النظام خلال المجزرة تستوفي عناصر الجرائم ضد الإنسانية، ابتداء بالهجوم الواسع الذي بدأ يوم الاثنين 20 أغسطس/ آب، وشاركت فيه قوات المدفعية والصواريخ وسلاح الجو التابع لجيش النظام، على جميع أحياء المدينة والمناطق السكنية، تمهيدًا لاقتحام القوات البرية أحياء المدينة المختلفة وعمليات التفتيش، التي انتهت بتنفيذ عمليات إعدام ميداني جماعي للسكان المدنيين والتعذيب والاضطهاد، وحرق جثث عدد ممّن أعدمتهم القوات المقتحمة والإعدام بالأسلحة البيضاء وقتل الأطفال (أحدهم قُتل بتحطيم جمجمته بأحجار)؛ تجعل من أركان الجرائم ضد الإنسانية خلال المجزرة مكتملة.
أما على صعيد تحديد الضالعين بالجرائم من قادة النظام، فإنه وبموجب مبدأ مسؤولية القيادة في كل من القانون الدولي العرفي والمادة 28 من نظام روما الأساسي، فإن بشار الأسد وباعتباره قائدًا عامًّا للجيش والقوات المسلحة ورئيسًا للنظام يتحمل المسؤولية عن الجرائم التي ارتكبها مرؤوسوه خلال المجزرة، إلى جانب العديد من قادة الجيش وأجهزة الأمن، وفي مقدمتهم قادة الحرس الجمهوري والفرقة الرابعة والمخابرات الجوية والقوى الجوية.
ولا يمكن لرئيس النظام إنكار معرفته بالمجزرة التي شهدتها المدينة، فالقصف المدفعي والصاروخي والجوي الذي استهدف داريا على مدار أيام المجزرة لم يهز المدينة التي لا تبعد عن مركز العاصمة دمشق أكثر من 7 كيلومترات فقط، بل هزَّ العاصمة كلها، عدا عن كون مرابض المدفعية والصواريخ التي اُستخدمت في قصف المدينة تقع في قاسيون نفسه الذي يقع فيه القصر الجمهوري.
لا يجوز لنا كأولياء للدم التراجع عن السعي نحو العدالة الكلية حتى لا تكون مجرد أمل بعيد بل لتصبح واقعًا ملموسًا
فضلًا عن ذلك، تتأكد معرفة رئيس النظام السوري بالمجزرة من خلال اللقاء الذي عقده بشار إلى جانب زوجته بعد أسبوعَين تقريبًا من وقوع المذبحة، مع مجموعة من الإعلاميين كانت بينهم ميشيلين عازر، التي تزعّمت وقادت الحرب الإعلامية وترويج البروباغندا التي طرحها النظام عن المجزرة، إذ كانت ميشلين الإعلامية التي رافقت قوات الاقتحام داخل مدينة داريا، وصوّرت تقريرها الدموي الذي تضمن مقابلة مع امرأة تلفظ أنفاسها الأخيرة وطفلة تجلس إلى جانب جثة أمها، تحاول تحميل الإرهابيين، على حد وصفها، مسؤولية ما حصل داخل داريا خلال المجزرة.
إلا أن عملية ملاحقة المسؤولين عن المجزرة وفي مقدمتهم بشار الأسد، تواجه عقبات أساسية بالنظر إلى عدم مصادقة سوريا على نظام روما الأساسي لمحكمة الجنايات الدولية، واستحالة إحالة الملف إلى محكمة الجنايات الدولية عبر مجلس الأمن، في ظل حق النقض الذي تملكه كل من روسيا والصين.
رغم ذلك، تشكّل الدعوى القضائية التي رفعتها هولندا وكندا في محكمة العدل الدولية ضد النظام السوري، والمتعلقة بانتهاكات اتفاقية مناهضة التعذيب، بارقة أمل لعائلات ضحايا مجزرة داريا، لمساءلة النظام وقادته عن بعض الجرائم التي ارتكبوها خلال المجزرة.
كذلك إن الولاية القضائية العالمية تشكّل خيارًا متاحًا بالنظر إلى إقامة الكثير من أهالي ضحايا المجزرة والناجين منها في أوروبا، إلا أن ذلك يتطلب من المؤسسات الحقوقية الدولية والسورية القيام بواجبها ومسؤولياتها التي تتجاوز التوثيق وجمع البيانات والتحرك في الهوامش التي يحددها المانحون، لبناء ملف قضائي لمجزرة داريا ووضعه على طاولة المدعي العام في عدد من الدول الأوروبية التي تمارس الولاية القضائية العالمية.
بعد كل حديث أو سؤال عن تعقيدات إنفاذ القانون وإحالة مجرمي الحرب ومرتكبي جرائم الإبادة والجرائم ضد الإنسانية إلى القضاء، يلجأ العاملون في حقل حقوق الإنسان وأساتذة القانون الدولي إلى التذكير بأن هذه الجرائم لا تسقط بالتقادم أو بالعفو، لإبقاء جذوة الأمل في قلوب أهالي الضحايا والناجين من تلك الفظائع أحيانًا، أو العجز عن تقديم تفسير مقنع للضحايا وأحبابهم عن أسباب قدرة المجرمين على الإفلات من العقاب.
بعد مرور 11 عامًا، تظل مجزرة داريا رمزًا مؤلمًا لمعاناة الإنسان والنضال من أجل العدالة، ولا يجوز لنا كأولياء للدم التراجع عن السعي نحو العدالة الكلية، حتى لا تكون مجرد أمل بعيد بل لتصبح واقعًا ملموسًا، وحتى نشهد نحن أو أبناؤنا ذاك اليوم، تواسينا نحن أبناء داريا وتخفّف من عبء عقدة الناجي التي نعيشها نحن الناجون من تلك المذبحة، العدالة التي طبّقها أبناء مدينة داريا ورفاقهم من الجيش الحر في معارك “لهيب داريا” و معركة “وبشّر الصابرين” وغيرها من ملاحم البطولة والشرف، التي أنزل فيها رجال الجيش الحر في داريا العقاب المستحق بحقّ آلاف من جنود النظام وقادتهم وآخرين من ميليشيات إيرانية وعراقية ولبنانية.