“قد لا تصل الصورة أحيانًا إلا بمثال، أتعرفون كم يستغرب القراء والمؤرخون عندما يقرأون أن الجندي المغولي كان يمسك بالرجل ويقول له: “انتظر هنا حتى أذهب وآتي بسلاحي”، فينتظره! كم كنا نستغرب ذلك، لكن الحقيقة أن ذلك الشعور ساد في داريا لدى كثير من الناس خلال المجزرة. شعور عام بأن المجرمين طوقوا وهيمنوا على كل المدينة، وإن فرَّ أحد من أهلها في هذا الحي أمسكوا به في حي آخر. هكذا كان كثير من الناس. فلا تستغربوا ممّا قرأتموه في التاريخ”، هكذا يصف رامي أبو محمد حالة مدينته داريا في يوم المذبحة الكبرى.
ناجٍ آخر، هو باسل أبو نذير، يتكلم عمّا حصل موافقًا لقصة رامي، فيقول: “مجازر المغول والتتار عرفت عنها عبر المنهاج الدراسي، لكنني لم أشعر ببشاعة المجزرة إلا بعد مذبحة داريا التي كنت شاهدًا عليها. جميع مجازر النظام ستبقى عالقة في أذهان الأجيال القادمة إلى قيامة الساعة، ولن ننسى آلامها وتبعاتها نتيجة الحقد والنتانة في عقل ميليشيات النظام”.
ليست الأولى
لم تكن المذبحة الكبرى لطخة الدم الوحيدة في سفر التاريخ الداراني الممتد إلى آلاف السنين، فلا تكاد تُذكر دمشق والمعارك والكوارث التي حصلت بها إلا وتذكر معها داريا، فهي بوابتها الغربية وحصنها الحامي، ولذلك أفرد المؤرخون لهذه المدينة كتبًا مثل كتاب “تاريخ داريا” للمحدث القاضي عبد الجبار الخولاني، وكذلك كتاب “تاريخ داريا الكبرى” لمؤلفه حسام الدين الخطيب.
قدمت داريا خلال 10 سنوات أكثر من 3 آلاف شهيد، وفي عام 2012 قامت مذبحة كبرى في داريا راح ضحيتها مئات الأشخاص بين قتيل وجريح
توضح كتب التاريخ تأثر داريا بمعظم الأحداث التي شهدها العصر الأموي والعباسي، وما جرى خلالهما من أحداث سياسية وعسكرية، إذ تعرّضت المدينة للحرق عام 67هـ في عهد هارون الرشيد، حيث ثارت الفتن بين القبائل القيسية واليمانية في ما يعرَف بفتنة أبي الهيذام، فحُرقت ونُهبت، كما مرَّت على المدينة المنازعات ما بين الأتابكة والسلاجقة، إضافة إلى أنها لم تنجُ من الغزو الصليبي، والتتار الذين عاثوا فيها فسادًا وتدميرًا، أما في العصر الحديث وفي زمن الاستعمار الفرنسي حصلت “معركة داريا الكبرى” بين الثوار والجنود الفرنسيين.
انتفضت داريا مجددًا خلال الثورة السورية، فقد ثار أهلها على نظام بشار الأسد، وقدمت خلال 10 سنوات أكثر من 3 آلاف شهيد وآلاف المعتقلين في سجون النظام، وفي عام 2012 قامت مذبحة كبرى في داريا راح ضحيتها مئات الأشخاص بين قتيل وجريح.
أيام قاسية
شهدت مدينة داريا بالريف الدمشقي في 25 أغسطس/ آب 2012، مجزرة راح ضحيتها أكثر من 700 مدني بينهم 522 موثقين بالاسم بحسب المجلس المحلي، إلا أن الأيام التي سبقت هذا اليوم كانت أقسى وما تلاه كان أشد، إذ انقطعت كامل الاتصالات عن المدينة في 20 أغسطس/ آب جراء انقطاع التيار الكهربائي والمياه، فحينها بدأ النظام حملة عسكرية على المدينة استهلها بقصف المنطقة الفاصلة بين داريا ومدينة معضمية الشام.
في صباح اليوم التالي، أغلقت قوات النظام السوري كل مداخل ومخارج المدينة، الرئيسية والفرعية، بالحواجز العسكرية والسواتر الترابية، كما نشر ما لا يقل عن 30 دبابة على الطريق الدولي لمدينة درعا وبالقرب من جسر صحنايا، ومُنع بالتالي الدخول أو الخروج من المدينة.
بدأت عمليات الانتقام والقتل العشوائي والإعدامات الميدانية الجماعية بحقّ سكان المدينة في يومَي 25 و26 أغسطس/ آب، وجرت حالات إعدام لعائلات بكاملها
وفي يوم 22 أغسطس/ آب الذي كان الأفظع والأشد قصفًا بحسب توثيق “المجلس المحلي لمدينة داريا“، استخدم النظام السوري أنواعًا مختلفة من الأسلحة الثقيلة بقصف المدينة، كقذائف الدبابات والهاون إضافة إلى صواريخ المروحيات، وخلّف هذا القصف دمارًا واسعًا وقتل العشرات من المدنيين داخل منازلهم، إضافة إلى عشرات الجرحى.
بعد يومين من القصف الوحشي، اقتحمت المدينة قوات من المخابرات الجوية معززة بقوات من الجيش، ومدعومة بعدد كبير من الدبابات وتحت غطاء جوي من المروحيات المقاتلة من جهة مطار المزة العسكري، وحينها بدأ قصف عنيف على الجهة الغربية ووسط المدينة، وشنّت حملات مداهمات واسعة للأهالي المدنيين داخل منازلهم واعتقلت العشرات منهم، وفقًا للشبكة السورية لحقوق الإنسان.
حاولت قوات من الجيش السوري الحر صدّ الاقتحام ودارت اشتباكات عنيفة بين الطرفَين، ما دفع النظام السوري إلى اتّباع سياسة الأرض المحروقه، فقد استخدم بعدها مباشرة أفظع أنواع القصف بالصواريخ من الطائرات المروحية والدبابات وقذائف الهاون، الأمر الذي أوقع أعدادًا هائلة في صفوف المدنيين بين قتيل وجريح، وانسحب عند هذا المشهد الجيش السوري الحر بشكل كامل من المدينة.
ثم بدأت عمليات الانتقام والقتل العشوائي والإعدامات الميدانية الجماعية بحقّ سكان المدينة في يومَي 25 و26 أغسطس/ آب، وجرت حالات إعدام لعائلات بكاملها، ومن أفظع تلك الجرائم ما حدث داخل جامع أبو سليمان الداراني وفي محيطه، حيث كان بالقرب منه منزل بداخله ملجأ هرب إليه أعداد كبيرة من المدنيين من منازلهم القريبة ولجأوا إليه، وفي هذه الواقعة تحديدًا وثّق الناشطون ما يقرب من 156 اسم قتيل بينهم 19 جثة لنساء و3 جثث لأطفال.
في اليوم التالي، أعدمت قوات المخابرات رئيس مخفر شرطة داريا وعناصر من شرطة المخفر، متهمةً إياه بمساعدة الأهالي، ثم تراجعت وتمركزت على أطراف المدينة.
الموت يحيط بالمدينة
تعرّض باسل أبو نذير لإصابة حربية نتيجة إطلاق الرصاص في خاصرته قبل المجزرة بـ 5 أيام، وأثناء اقتحام شبيحة الأسد للمدينة وبينما كان يتلقى علاجه الطبي في دار لرعاية لجرحى، إذ بباب البيت يطرَق بسرعة، فتح الشباب المتواجدين برفقته الباب، وكان الطارق فتى صغيرًا يريد إخبار من في دار رعاية الجرحى أن الشبيحة وقوات النظام اقتربوا من الحارة، ويتساءل أبو نذير: “ماذا نفعل؟ هل ننتظر الموت؟ أم نهرب بالآلام والجراح المثخنة؟”.
يتابع باسل قصته المأساوية لـ”نون بوست” قائلًا: “كنا 4 جرحى، وبرفقتنا شابان من الكادر الطبي، لم نستطع اتخاذ أي قرار بالبقاء في الدار أو الخروج، ووصلتنا الأخبار أن الشبيحة يدخلون جميع البيوت ويفتشون جميع الأزقة من أجل القتل والاعتقال، ما هي إلا لحظات ليحمل كل منا جراحه ويخرج بها إلى الشارع لنرى الناس وقد تملكهم الخوف والرعب”.
في هذا الوقت كانت ميليشيات الشبيحة وقوات الجيش تمشّط أحياء المدينة، ولم يكن أحد يعلم ما يحصل في الأحياء المحيطة، حيث كان هناك انقطاع تامّ للكهرباء والاتصالات، كان الخوف يحيط بالجميع ولا أحد يدري ما المصير، خاصة أن هذه الحملة العسكرية كانت الأكبر منذ بداية الثورة في مارس/ آذار 2011، وكانت داريا شهدت عدة اقتحامات عنيفة، لكنها لم تصل إلى ذلك الحد الذي وصلت إليه في أغسطس/ آب 2012.
يقول باسل: “في مقابل دار الجرحى توجد المدرسة الشرعية ذات المساحة الواسعة والبناء الضخم، كانت الأبواب مفتوحة والأهالي بانتظار الموت، صراخ الأطفال يزاحم أصوات الرصاص الكثيف في أنحاء المدينة، كان الناس يهرعون للدخول إلى المدرسة، وكانت نظرات الرجال والنساء لنا خليطًا من الحزن والخوف، لأنه لا يعلم معنى كلمة جريح في الثورة السورية إلا من عاشها”، مضيفًا: “الجريح عند النظام هو مجرم والطواقم الطبية أشد إجرامًا من أي شخص آخر، وهنا بات السؤال: “ماذا سوف يحدث لنا إن وقعنا بيد جنود النظام؟””.
“الإعدام ولا شيء سواه!”، هكذا كان يفكر باسل، “كثير من الأسئلة المريبة لدى الناس الذين كانوا ينظرون ويتناجون بين بعضهم، إن دخل جيش النظام ووجد هؤلاء الجرحى سوف يقتلوننا جميعًا، ورغم صعوبة وجودنا في المكان وما يمكن أن يسبّبه من خطر على الأهالي، إلا أنهم بدأوا بخطة من أجل إنقاذنا، خاصة أننا عاجزون عن الحركة أو الركض أو الهروب”.
يكمل أبو نذير: “تعاون الجميع من النساء والرجال على إخفاء ملامحنا وجراحنا المثخنة والثياب الملطخة بالدماء، حيث قاموا بتأمين وجمع الملابس النسائية لنا من نقاب ومانطو وقفازات للأيدي، وقاموا أيضًا بإعطائنا المصوغات الذهبية من أساور وخواتم، وهنا لن أنسى تلك المرأة التي قدمت ابنها الصغير الرضيع لكي أحمله وأضعه في حضني لأخفي جرحي تمامًا، ولن أنسى أيضًا تلك المرأة الستينية حين قالت لي: “امسك هويتي يا أمي، خليها معك إن طلب الشبيحة هوية منك، دبّر حالك فيها، أنا بدبّر حالي بخبرهم أنه نسيت هويتي في البيت، أما أنت يا إمي خطي والله خايفة عليك””.
كانت أصوات إطلاق النار الكثيف والسباب من جنود النظام في الحي مسموعة وتغطي على أصوات بكاء الأطفال بازدياد، وما أن دخل عناصر النظام باب المدرسة بعد أن أعدموا شخصَين طاعنَين في العمر، وقفت بوجههم تلك الحاجّة التي أعطت هويتها لشحادة، وبدأت تقبّل الضابط وتقول له: “أنتم حماة الوطن وأنتم أمل البلد.. الأولاد كانوا خائفين جدًّا من الإرهابيين.. أرجوكم الأولاد يبكون ويوجد بين النساء امرأة حامل وغالبًا أجهضت نتيجة الخوف”.
بهذه الحيلة من النساء لاستعطاف جنود النظام، قال الضابط إنهم لن يدخلوا بين النساء والأولاد، لكن طلب جمع هويات الشبان والرجال الموجودين، فخرج جميع الشباب والرجال برفقة الضابط والشبيحة، وأمامهم النساء الستينيات اللواتي أصررنَ على الضابط ألا يعتقل أحدًا.
يتابع أبو نذير وقائع ما حدث: “مضى أكثر من ساعة ونحن داخل الملجأ ندعو الله ألا يدخلوا بيننا ويكتشفوا أمرنا، وفعلًا خرجوا من المدرسة، وهدأت النفوس وتنفّسنا الصعداء، وجثت المرأة الستينية على ركبتَيها لتنهمر دموعها على خدَّيها، وتقول لنا: “يا إمي أنتو أغلى من عيونا.. يا إمي هنن شبيحة كلاب ما بيخافوا الله، والله هالشي يلي عملتو كرمال عيونك فشروا إني بوس خنزير.. بس إنتوا لا سمح الله إن عرفوا فيكن وأخدوكن ورحتوا والله أمهاتكم رح يموتوا من البكا عليكن.. يا إمي الظالم إلو الله وشكيناهم لله””.
هل نتعافى من المجزرة؟
تمرّ اليوم الذكرى الـ 11 لمجزرة داريا، ومع كل بداية لشهر أغسطس/ آب يتذكر أهل داريا المجزرة بكل بؤس وأسى، كيف ينسون وقد أصابتهم المجزرة في مقتل؟
تقول السيدة روشن عبار، إحدى الناجيات من قتل محقّق يوم المجزرة، “من الجدير بنا ألّا ننسى المجزرة، لأن المجزرة التي تنسى تتكرر كما يقول علي عزت بيجوفيتش”، وتضيف السيدة روشن أن “رائحة الدماء ما زالت موجودة، ومناظر الجثث المكومة في أقبية الأبنية لا تغيب عن ذاكرتها”.
تعمل روشن اليوم في إحدى منظمات المجتمع المدني في قسم الدعم النفسي، وبحسب ما تقول فإنها عانت كثيرًا بعد المجزرة، وظلت تذهب إلى طبيب نفسي لسنوات لكي تتعافى ممّا أصابها، وقررت بعد ذلك أن تعمل في أقسام الرعاية النفسية للأطفال السوريين الناجين من المجازر والصدمات.
تتحدث روشن عن أن “التعافي من ذكريات وأهوال مجزرة داريا غير ممكن إن لم يُحاسب الجناة”، وتضيف: “لكن يمكن للناس الذين شهدوا أهوال هذه المجزرة أن يعملوا على تضميد الجراح يومًا بعد آخر، بإكمال مسيرة الشهداء والاهتمام بأهلهم”.
تكمل السيدة روشن: “اليوم بعد 11 عامًا أرى أن الكثير ممّن كانوا أطفالًا أيام المجزرة أصبحوا شبابًا وشابات، خرجوا من سوريا وتخرجوا من جامعاتهم وحازوا على مراكز مميزة، وعندما تجلس معهم يتذكرون المآسي التي مرّوا بها في مجزرة داريا وما حصل في السنوات الأخيرة، ويؤكدن على أن جرائم النظام لم تثنيهم عن إكمال حياتهم وتفوقهم وسيرهم”، وترى السيدة أن هذا نوع من أنواع التعافي التي يمكن أن تضمّد جراح الناس.
أما أبو نذير فيرى أنه يمكن التعافي من أهوال المجزرة: “عبر محاكمة المجرمين والسفاحين ونيل الحقوق”.
تواصل العدالة غيابها وينجو مرتكبو المجزرة من جرائمهم عامًا بعد عام، لتبقى المبادئ التي يتغنّى بها العالم “المتحضر” عن الإنسانية ومحاسبة مجرمي الحرب جوفاء من الحقيقة وقوانين العدل، في الوقت الذي يبقى فيه أهل الضحايا عالقين بين الماضي والحاضر على أمل القصاص من القتلة والمجرمين، لكن ما الذي يستطيع المكلوم والجريح فعله؟ أن لا يكفّ عن الكلام وسرد قصته، فإن غابت العدالة فالحقيقة لا تموت.