بعد تطبيق فكر اقتصاد الصدمة والكوارث في شيلي والأرجنتين والبرازيل وغيرهم في السبعينيات، والنجاحات التي حصلت عليها الإمبريالية الأمريكية باسم الاغتيال الاقتصادي للأمم والسيطرة على مقدراتها وثرواتها، والتحكم بها مقابل تدمير المجتمعات وقتل مئات الألوف وسجن وتعذيب مئات من الألوف آخرين، تَبَدَّى بصورة لا تدع مجالاً للشك أن هذا طريقٌ جديدٌ للاستعمار المتوحش ونمطٌ مخيفٌ أشدَّ مما كان عليه الاستعمار الأول.
ومن ثم اتجهت الإمبريالية العالمية إلى توسيع دائرة التطبيق لهذا النظام الاقتصادي الجديد الذي يُمكِّن الشركات الكبرى في الدول الاستعمارية الرأسمالية ذات التوجه الإمبريالي من توسيع نطاق السيطرة ليشمل العالم بأكمله وليس فقط العالم الثالث.
ومن جهةٍ أخرى كانت النجاحات الأولى هي فقط من وجهة نظر واحدة، ومن الأخرى هي تدمير متوحش للبشر والمجتمعات، فاستفادت الدول الكبرى من عملية التوسيع لكي تقدم النموذج الخادع الناجح الخالي من مثل هذا التوحش اللاإنساني بهذه الصورة الفجة المخيفة.
فكان الاتجاه إلى تطبيق هذه النظرية في داخل الدول الكبرى نفسها، وفي داخل النظام الرأسمالي الليبرالي الديمقراطي نفسه!
كانت البداية من القطبين الذين يقبعان على قمة النظام الرأسمالي العالمي وهما أمريكا وبريطانيا، وتولى أداء المهمة في الأولى رونالد ريجان، وفي الثانية مارجريت تاتشر، لذا عرف الاثنان وارتبط اسميهما بالنيوليبرالية أو الليبرالية الجديدة وهو الوجه أو الطور الجديد لليبرالية الاستعمار والسيطرة المتوحشة
وكانت النتائج أيضًا كارثية، ولكنها في هذه الحالة كانت خادعة، لكون هذه الدول تمتلك بالفعل اقتصادًا حقيقيًا استطاعت من خلاله التمويه والتغطية على الآثار الكارثية التي نتجت من جراء تطبيق هذه النظرية المتوحشة، حيث كان المتضرر مئات الألوف بل ملايين من البشر المنتمين إلى طبقات العمال والموظفين وذوي المهن والطبقات الصغيرة والمتوسطة، ولكن من يبالي، فالدولة لها اقتصادها القوي ومكانتها الريادية بين الأمم، ويقبع على رأسها أولئك الذين يمتلكون السلطة والقوة والمال، ويتحكمون في المؤسسات العالمية الدولية، ومن ثم يتحكمون أو يخضعون البشر استعبادًا، ولو كانوا شعوبهم، وهكذا تم تمرير النظرية في الدول الرأسمالية وغيرها.
ويعتبر عراب هذه النظرية ومحرك الماكينة أو أحد المحركات الكبيرة لها هو رجل الاغتيال الاقتصادي الأول بامتياز ميلتون فريدمان، وقد حاز على جائزة نوبل للاقتصاد كجائزة بسبب خدماته القيمة للشركات العالمية الإمبريالية.
أهم مرتكزات نظرية الصدمة الاقتصادية
لا يخفى أن هذه النظرية بالأساس تعتمد الحاجة إلى تحقيق مزيد من السيطرة الاقتصادية، ونظرًا للنتائج الكارثية لها، والمعروفة مسبقًا لهم، فهم أولاً يعتمدون فكرة الصدمة، أي تمرير وتطبيق مجموعة من الإجراءات المتتابعة لأجل تحقيق السيطرة المنشودة، كي لا يتمكن الشعب المسكين موضع التطبيق من التيقظ أو الانتباه أو صنع شيء مضاد رافض لهذه الإجراءات المتوحشة.
ثانيًا يحتاجون إلى صناعة عدو وهمي أو استخدام والاستفادة من عدو حقيقي للتمويه على الشعوب وإلهائها وتخويفها ومن ثم تمرير هذه القرارات الاقتصادية الصعبة.
وكان الوضع قبل التسعينيات أي قبل سقوط وانهيار الاتحاد السوفيتي مؤهلًا لتحديد العدو الذي يخيفون به المجتمعات، وهو العدو الأحمر أي الشيوعية، وإن لم يكن هناك عدوًا صنعوا واحدًا.
ثالثًا أيضًا يعتمدون على الكوارث واستغلالها، ولو لم تكن كوارث اتجهوا لصناعتها.
والأمثلة كثيرة جدًا.
بعد انهيار العدو الأحمر: الحرب ضد الإسلام من تاتشر/ ريجان إلى بوش/ ترامب.
في التسعينيات وبعد سقوط الاتحاد السوفيتي، وهذا من أهم منطلقات صعود اليمين، عملت الماكينة الأمريكية بكل طاقاتها لتبسط سيطرتها على العالم أجمع، وكي تخضع العالم لخدمة الليبرالية الرأسمالية.
فانطلقت الماكينة العسكرية الأمريكية للقضاء على بقايا الشيوعية في أوروبا الشرقية، وفرض نفوذها السياسي والاقتصادي، كما طبقت النظرية نفسها في الاتحاد السوفيتي سابقًا، وروسيا يلتسين الجديدة، حتى صار الناس في روسيا ينفقون أكثر من نصف دخولهم للحصول على الخبز، وهكذا تم لها الأمر وصارت القوة الأوحد في العالم.
نظرة صدام الحضارات، التي وضعت العدو الأخضر أي الإسلام موضع الشيوعية السابقة
ولكن لا بد من عدو، فكانت نظرة صدام الحضارات، التي وضعت العدو الأخضر أي الإسلام موضع الشيوعية السابقة.
ومع بداية التسعينيات كانت حملة عالمية ضد الحركات الإسلامية بصفة عامة والإسلام السياسي بصفة خاصة، ثم الإسلام المسلح بصفة أخص، من الجزائر إلى مصر والسودان وموريتانيا والصومال وغيرهم في شتى بقاع الأرض.
ثم انطلق المحافظون الجدد مدفوعون بهذه النظريات الاستعمارية الإمبريالية العنصرية السياسية والاقتصادية والثقافية والعسكرية وغيرها، لتطبيق منظور جديد لدول العالم الإسلامي، تحت مسمى الشرق الأوسط الإسلامي وفق المنظور الأمريكي.
ويقع في عمق هذا المنظور نظرية الفوضى الخلاقة، التي أفصحت عنها كونداليزا رايس 2005م، تلك النظرية التي تطبق على قدم وساق منذ صعود بوش والمحافظين الجدد وغزو أفغانستان 2001م والعراق 2003م، إلى وقتنا هذا، والذي يبدو أنها ناجحة بدرجة ما.
هذه الهجمة الاستعمارية الأمريكية التي أسماها بوش بالحرب الصليبية الجديدة، وتخفيفًا لمردود هذا المصطلح أبدلوه بمصطلح “الحرب على الإرهاب”، ويعنون به الإسلام.
متغيرات دولية جديدة ومتعددة سارعت من عملية الصعود
مع ارتفاع الكلفة الاقتصادية للحرب الأمريكية في العالم الإسلامي حيث اقتربت من العشرة تريليون دولار، وتأخر نتائج هذه الحملة الصليبية، ومع حدوث الأزمة المالية العالمية 2008م، وتوابعها الاقتصادية المخيفة على الغرب، ثم تغير موازين القوى الدولية، وصعود قوى جديدة على الساحة العالمية كروسيا والصين والهند وغيرهم، وتغير النظام الدولي من النظام الأوحد إلى نظام متعدد القوى، اضطرت الولايات المتحدة للتراجع بدرجة كبيرة ملحوظة، وتغير الكثير في أوراق اللعبة الدولية السياسية والاقتصادية.
ثم مع ما عرف بثورات الربيع العربي، تنفست النيوليبرالية الصعداء، فقد أصبح الشرق الأوسط مجالاً خصبًا لتطبيق نظريات الصدمة الاقتصادية، وأرضًا خصبة لكي تعمل ماكينات الشركات العابرة للقارات، وكذلك أصبح المجال أكثر رحابة لتفعيل نظرية الفوضى الخلاقة، التي تهدف إلى تفتيت الشرق الأوسط، أي تفكيك المفكك وتقسيم المقسم، واستبدال نظام جديد بسايكس بيكو القديم البالي، وأرضًا جديدة للاستعمار العسكري والسياسي، مع مبررات الحرب على الإرهاب، خاصة بعد تصاعد المقاومة الإسلامية ضد الديكتاتوريات المدعومة من الغرب نفسه، لا سيما تصاعد المقاومة المسلحة وظهور تنظيم الدولة بصورته المتوحشة والمخيفة، في نظر الغرب.
تطورات ما بعد الثورات العربية
وهكذا وجَّه الغرب بوصلة الفشل في بلدانه وأراضيه إلى الشرق الأوسط، ولكن ذلك لم يكن كافيًا ولن يكون، لأسباب ومتغيرات عديدة، ولكنه استطاع أن يستغل هذه الثورات أفضل استغلال لإظهار صحة نظريته في الحرب ضد الإسلام، وأنه العدو الحضاري البديل للعدو الأحمر، وأنه الخطر الحقيقي على الغرب كافة. هذا أولاً.
ثانيًا قد صاحب ذلك كنتيجة واقعية زيادة موجات الهجرة الشرعية وغير الشرعية لأوروبا وأمريكا وتدفق المهاجرين واللاجئين بصورة غير مسبوقة ومرشحة للزيادة.
ثالثًا مع دعم الغرب للديكتاتوريات العربية والإسلامية وغيرها واستخدامها من أجل تحقيق مصالحه الإمبريالية تصاعدت عمليات الانتقام التفجيرية في عمق البلدان الغربية وهي أيضًا مرشحة للزيادة، وهكذا تغذت وتنامت ظاهرة الإسلاموفوبيا.
رابعًا تصاعدت بصورة تلقائية داخل الغرب نفسه، بسبب جميع المتغيرات والعوامل السابقة وغيرها منذ الثمانينيات، لتنفجر الآن، أصوات غضب الشعوب الأوروبية والأمريكية ضد سياسات الغرب الرأسمالية الإمبريالية التي لم تخدم إلا مصالح فئة قليلة تتحكم في السلطة وتحتكر القوة وتستأثر بالمال، بينما تعاني الشعوب ويلات البطالة والفقر والتدهور الاقتصادي المتزايد، خاصة بعد انفجار الأوضاع العالمية بهذه الصورة السوداوية.
خامسًا ظهور ترامب ورفاقه في أوروبا
في هذا السياق المبسط يمكن فهم ظاهرة صعود ترامب والشعبوية واليمين المتطرف في أنحاء أوروبا، لا سيما دول القارة العجوز القاطرين لها، كبريطانيا وألمانيا وفرنسا، وهي ظاهرة لن تتوقف بل ستتزايد وفق المعطيات السابقة وغيرها، ولا يظن ظان أن أهداف ترامب واليمين المتطرف تختلف مع معارضيه في الغرب، ولكنهم يختلفون معه في طريقة وأسلوب وطريقة الوصول إلى تلك الأهداف، لذلك فهم واجهة غربية أحيانًا تتأخر وأحيانًا تتقدم وفق معطيات ومتغيرات عالمية ودولية وداخلية كذلك.
ولكن في النهاية ستكون عواقب هذا الصعود وخيمة ليست فقط على الشرق الأوسط ودول العالم العربي والإسلامي، ولكنها ستكون كذلك على أوروبا وأمريكا ذاتها، ولهذا حديث آخر.
سادسًا وهذا من أخطر المتغيرات، وهو دخول روسيا في معادلة الحرب على الإسلام، جنبًا لجنب مع الغرب، وتحالفها مع القوى العالمية الجديدة، وهذا اختلاف كبير عن هذه الحرب منذ التسعينيات، فقد كان الحلف الاشتراكي الشيوعي يقف في نفس الجانب المعادي للغرب، وكان بعيدًا بدرجة ما عن المعادلة، وكان دائمًا ما يلعب دور الصديق للدول الإسلامية العربية، في ظل توازنات القوى الدولية، لا بغرض المساعدة الحقيقية لهذه الدول، لتصبح الحرب على الإسلام عالمية.
ومع التطرف المصاحب لهذا الطور من الحرب الصليبية الجديدة التي أصبحت لا تميز بين إسلام متطرف أو سياسي أو معتدل، لتضع الجميع في سلة واحدة، إما أن ينقاد المسلمون كما فعلت المسيحية في أوروبا منذ ظهور العلمانية أو يكون البديل هو الاستئصال، ستطال تلك العواقب الوخيمة روسيا كذلك وحلفاؤها، وقد بدأت تظهر بوادره، وهذا أيضًا له حديث آخر.
أما الحديث الأخير أو الكلمة الأخيرة والمتغير الذي قلَّ من يتحدث عنه هو صعود القوة الإسلامية نفسها على الساحة العالمية، رأى ذلك من رآه وخفي عمن خفي عنه، لا سيما وظاهر الأمر أن الإسلام مستضعف بأقصى صورة تكون، ولكن لا عجب أن أكثر من يرى ذلك هو الغرب نفسه، وكذلك الذين يقفون على عتبات التاريخ ويقرأون كيف تسير حركة الحضارات.