يتعامل الاحتلال الإسرائيلي مع الضفة الغربية التي لا تتجاوز مساحتها 5 آلاف و400 كيلومتر وكأنها ضمن حدود أراضي دولتها المصطنعة، دون أدنى اعتبار للحكومة الفلسطينية ومساعي الحكم الذاتي الفلسطيني على أراضي الضفة، بموجب اتفاقية أوسلو التي وقّعتها منظمة التحرير الفلسطينية مع الاحتلال عام 1993، وحتى إن لم يعلن الاحتلال ضمّ الضفة الغربية والمستوطنات المقامة عليها إلى “إسرائيل”، فإنه ينفّذ كل مخططاته الاستيطانية براحة وكأن الضم قائم.
لعل مخططات “البنية التحتية” هي الترجمة الحقيقية للضمّ، أو بالأحرى هي الخطوات العملية التي تمهّد للضم، وتنتظر فقط القرار الرسمي المعلن لذلك، فمخططات الطرق والمواصلات والكهرباء والمياه الإسرائيلية في مستوطنات الضفة الغربية متصلة ببعضها على حساب الوحدة الجغرافية للضفة، وتأخذ فيها “إسرائيل” بعين الاعتبار أمن المستوطنين على حساب ما تبقّى من أراضي الضفة الغربية.
في هذا التقرير من ملف “وكلاء الاستيطان”، يبحث “نون بوست” في كيفية عمل وزارة المواصلات والأمان على الطرق وشركتَي الكهرباء والماء في تنفيذ مخططات الاستيطان في أراضي الضفة الغربية، من خلال مشاريع البنية التحتية للمستوطنات.
وزارة المواصلات والأمن على الطرق
يعمل الاحتلال على تقطيع الضفة الغربية بشوارع عرضية مرتبطة مباشرة بـ”إسرائيل”، كجزء من مخطط أُعلن عنه عام 1983، بموجب أمر عسكري إسرائيلي خاص بالطرق ويحمل الرقم 50، والذي يهدف إلى شقّ طرق طولية من شمال الضفة إلى جنوبها، ومن الغرب إلى الشرق، والوصول نهايةً إلى تفتيت الضفة الغربية وحشر التجمعات الفلسطينية وربط المستوطنات ببعضها.
ولضمان أمن المستوطنين، أنشأت “إسرائيل” منظومة شوارع بديلة مخصّصة للمستوطنين فقط، تسمّى “شوارع نسيج حياة”، شُقّت هي أيضًا في أراضٍ صودرت من الفلسطينيين، تشمل هذه المنظومة أنفاقًا وشوارع التفافية، تمنح مساحة يبلغ متوسط عرضها 150 مترًا على كل جانب من جانبَي هذه الطرق، يمنع فيها إقامة مبانٍ سكنية أو تمديد خطوط للمياه أو حفر قنوات أو مدّ أسلاك من أي نوع، إلا بموافقة لجنة التنظيم الهيكلي الأعلى المكونة من الموظفين الإسرائيليين فقط.
تكون مخططات البنية التحتية، لا سيما في شقها المتعلق بالطرق والمواصلات، موضع دراسة أمنية، إذ تشكّل هذه الطرق مكان تماسّ والتقاء يومي ما بين المستوطنين والفلسطينيين
تخصص وزارة المواصلات والأمان على الطرق لدى الاحتلال نحو 3.5 مليارات شيكل (نحو مليار دولار) لمشاريع البنية التحتية المخصّصة لتوسيع الشوارع والطرق الالتفافية بين مستوطنات الضفة الغربية، وإنشاء شبكة مواصلات عملاقة بالقدس والضفة الغربية المحتلتَين، في إطار خطط فرض السيادة الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة.
مؤخرًا، في ظل حكومة نتنياهو الجديدة، عرضت وزيرة المواصلات، ميري ريغيف، مشاريع جديدة لصالح أعمال البنية التحتية الشاملة لخدمة المستوطنات، أبرزها توسيع شارع 60 من مدخل بلدة حزما شمال شرقي القدس وحتى شمال الصفة الغربية، بحيث يتحول الشارع الذي يعتبَر الشريان الأساسي لربط المستوطنات في الضفة إلى شارع سريع، على أن يضم كل اتجاه 3 مسالك، واحد منها سيتم تخصيصه للمواصلات العامة، ويكون معدًّا بشكل أساسي لخدمة المستوطنين وحافلاتهم.
وتكون مخططات البنية التحتية، لا سيما في شقها المتعلق بالطرق والمواصلات، موضع دراسة أمنية، إذ تشكّل هذه الطرق مكان تماسّ والتقاء يومي ما بين المستوطنين والفلسطينيين، وعليه تدرس وزارة المواصلات الإسرائيلية الجوانب الأمنية من حيث مسار الشارع، التفافاته وانحناءاته، مواقع الجبال والوديان المحاذية لمساره، ومواقع القرى والمدن الفلسطينية القريبة تؤخذ بعين الاعتبار، لوضع بنية تحتية آمنة للمستوطنين.
شركة كهرباء الاحتلال
تمثل الكهرباء في المخططات الاستيطانية نقطة ارتكاز أساسية، تتجاوز المشاكل المتعقلة بقطع “إسرائيل” الكهرباء عن الأراضي الفلسطينية بحجّة الديون المترتبة على السلطة الفلسطينية التي تشتري الكهرباء من “إسرائيل”، لكن أيضًا في إقامة مشاريع لمحطات الكهرباء في الأراضي المحتلة، وتوسيع شبكة الضغط العالي فوق الأراضي الفلسطينية المصادرة لخدمة المستوطنين.
فمع بدء الحديث عن ضمّ الضفة الغربية والمستوطنات بعد عام 2020 بشكل كبير وصريح، كشفت صحيفة “يسرائيل هيوم” العبرية أن خطة وضعتها شركة كهرباء الاحتلال تهدف إلى إمداد الطاقة على المدى الطويل في مستوطنات الضفة المحتلة، وتدعيم المشروع الاستيطاني، حينها أعلن رئيس شركة الكهرباء الإسرائيلية، يفتاح رون تال، بوضوح أن الشركة تقوم بالاستعدادات لإمكانية القيام بضمّ مستوطنات الضفة الغربية، وأن الشركة تقوم على تطبيق خطة ستزيد بشكل كبير أعداد المستوطنين في الضفة الغربية.
وبينما رفضت سلطات الاحتلال عام 2021 ربط آلاف المنازل في القرى العربية في النقب المحتل بشبكة الكهرباء، بحجّة أنها غير مرخّصة، كوسيلة ضغط على أصحابها لإجبارهم على مغادرتها ومن ثم هدمها والاستيلاء على الأراضي المقامة عليها هذه المنازل لغرض إقامة مستوطنات جديدة عليها، أعلن الاحتلال عن مخطط لربط الوحدات السكنية التي أقيمت في المستوطنات وكذلك البؤر بشبكة الكهرباء الإسرائيلية.
وفي عام 2022، رصدت حكومة الاحتلال حوالي 29.5 مليون شيكل لتوصيل بؤر استيطانية عشوائية بالكهرباء والتخطيط لتدريبها، إلى جانب ذلك تطرح وزارة الطاقة في حكومة الاحتلال عن عطاءات لربط مستوطنات الضفة الغربية المحتلة بشبكة الغاز الطبيعي، كجزء من الإجراءات العملية لمخطط الضم.
شركة المياه الإسرائيلية
بعد احتلال الضفة الغربية وقطاع غزة عام 1967، سيطرت السلطات العسكرية الإسرائيلية على مصادر المياه كافة، والبنية التحتية الخاصة بالمياه في الأراضي الفلسطينية المحتلة، فقد أصدرت السلطات الإسرائيلية الأمر العسكري رقم 158 الذي نصَّ على أنه “لا يُسمح للفلسطينيين إنشاء أية تمديدات مياه جديدة من دون الحصول أولًا على تصريح من الجيش الإسرائيلي”.
حتى اليوم، لا يستطيع الفلسطينيون، خاصة المناطق الريفية والمناطق المصنّفة “ج” وفق اتفاقية أوسلو، حفر آبار مياه جديدة، أو تمديد مضخّات مياه أو تعميق الآبار القائمة، بالإضافة إلى حرمانهم من إمكانية الوصول إلى نهر الأردن وينابيع المياه العذبة، كما يسيطر الاحتلال على عملية جمع مياه الأمطار في معظم أراضي الضفة الغربية.
يستخدم الاحتلال مصادر المياه والوصول إليها كأداة رئيسية للحركة الاستيطانية وانتشار البؤر الاستيطانية، وبحسب منظمة “بتسليم” الإسرائيلية لحقوق الإنسان في الأراضي المحتلة، فإن المستوطنين يستخدمون 3 أضعاف كمية المياه التي يستخدمها الفلسطينيون في الضفة الغربية في اليوم الواحد.
بحسب منظمة العفو الدولية، يبلغ معدل استهلاك الفرد الفلسطيني للماء 73 لترًا يوميًّا، وهو أقل من معدل استهلاك الفرد الذي توصي به منظمة الصحة العالمية، وهو 100 لتر يوميًّا، كما يصل معدل استهلاك الفرد من الماء بالنسبة إلى آلاف الفلسطينيين إلى 20 لترًا يوميًّا في العديد من المجتمعات الرعوية في الضفة الغربية، في المقابل يبلغ معدل استهلاك المستوطن قرابة 300 لتر يوميًّا.
تقوم مؤسسات الاحتلال الحكومية وغير الحكومية على تشبيك خطوطها والعمل معًا في تخطيط استيطاني، يجعل من الضم قائمًا دون انتظار إعلان رسمي أو تأييد دولي.
وفي تقرير لصحيفة “الغارديان”، فإن شركة “ميكروت” توفّر لمزارع المستوطنات في قرى الضفة الغربية المحتلة مياهًا للزراعة، بينما لا يملك الفلسطينيون في كثير من الأحيان ما يكفي من المياه للشرب، حيث يصبح من الصعب على المزارعين الفلسطينيين زراعة حتى محاصيلهم منخفضة الري مثل القمح والعدس والحمّص، كما أن تراجع الوصول إلى الأراضي والمياه بسبب التوسع الاستيطاني يعني مساهمة الزراعة في 2.6% فقط من إجمالي الناتج المحلي للأراضي الفلسطينية الآن.
في الوقت ذاته، يشير مكتب الأمم المتحدة لتنسيق الشؤون الإنسانية “أوتشا” إلى أنه لا يُسمح لنحو 180 تجمعًا فلسطينيًّا في المناطق الريفية في الضفة الغربية المحتلة بالحصول على مياه الأنابيب، كما أن جيش الاحتلال يدمّر خزانات مياه الأمطار المملوكة للمجتمعات الفلسطينية.
وأحصت “أوتشا” هدم السلطات الإسرائيلية لحوالي 160 خزانًا فلسطينيًّا وشبكات الصرف الصحي والآبار في أنحاء الضفة الغربية والقدس الشرقية في عامَي 2021 و2022، فيما تسارعت معدلات الهدم، فخلال النصف الأول من عام 2023 هدمت السلطات نفس العدد تقريبًا من منشآت المياه الفلسطينية كما فعلت في العام الماضي.
تتكامل مخططات البنية التحتية من مواصلات ومياه وكهرباء مع العملية الاستيطانية في الضفة الغربية، وتقوم مؤسسات الاحتلال الحكومية وغير الحكومية على تشبيك خطوطها والعمل معًا في تخطيط استيطاني، يجعل من الضم قائمًا دون انتظار إعلان رسمي أو تأييد دولي.