بعد أن تسلب الأرض، وتوفر الوحدات السكانية للمستوطنين، كان لا بدّ لـ “إسرائيل” أن تبحث في سبل دعم المستوطنين ماديًا لإقامة حياة اقتصادية في المستوطنات، وتقديم محفزات مالية تجعل من الهجرة إلى المستوطنات، رغم كل المخاطر الأمنية، مكسبًا ماديًا للمستوطنين، سيّما أولئك الذين تستقدمهم من دول العالم.
يصنف الاحتلال المستوطنات في الضفة المحتلة ضمن مناطق تطوير “أ”، أي أنها توليها اهتمامًا بالغًا من ميزانيتها وخطط حكومة الاحتلال لأغراض تأهيلها، وقد منح هذه التصنيف للمستوطنات سلسلة من الإكراميات، تتمثل في مجال السكن، التي تتيح شراء الشقق النوعية والرخيصة وهبة فورية مع قرض مدعوم، وإكراميات شاملة في مجال التربية والتعليم، وسفريات ورواتب محسنة للمعلمين.
تعمل حكومة الاحتلال على تقديم دعم للمصانع والمشاريع الزراعية في مستوطنات الضفة الغربية، بما في ذلك التعويض عن المصاريف الخاصة بالضرائب التي فرضها الاتحاد الأوروبي على منتجاتهم، وضرائب مخففة وميزانيات فائضة مقارنة مع المناطق المحتلة عام 1948، التي تسيطر عليها “إسرائيل” بشكل كامل، وتقيم “دولتها” عليها.
في هذا التقرير من ملف “وكلاء الاستيطان”، يبحث “نون بوست” في وكيلين مهمين من وكلاء الاستيطان الاقتصاديين، الذي تنفذ من خلال دعمهم المخططات الاستيطانية في أراضي الضفة الغربية، وهما: الصندوق القومي اليهودي وهي مؤسسة خاصة، ووزارة المالية الإسرائيلية وهي مؤسسة حكومية.
الصندوق القومي اليهودي
في عام 1901، أسست المنظمة الصهيونية المنبثقة عن مؤتمر بازل الصهيوني 1897، الصندوق القومي اليهودي، للتخطيط لاستعمار فلسطين من قبل اليهود، وفي سنة 1908، أنشأ الصندوق القومي اليهودي فرعه الخاص تحت اسم “شركة تطوير الأراضي الفلسطينية” التي بدأت بطرد الفلاحين الفلسطينيين من أراضيهم بالحصول على الأراضي من السلطات العثمانية ومُلاك العقارات الغائبين في بيروت ودمشق والقاهرة.
كانت مهمة الصندوق القومي اليهودي الرئيسية هي جمع التبرعات من المجتمعات اليهودية من أجل تمويل جهود الاستيلاء على أراضي الفلسطينيين، واستيطانها، وقبيل النكبة الفلسطينية عام 1948، لعب الصندوق القومي دورًا أساسيًا في محاربة تهجير الفلسطينيين، من خلال خطة “داليت” لتدمير القرى الفلسطينيّة وترحيل الفلسطينيين من الجليل ومناطق شمال فلسطين والسيطرة على أكبر مساحةٍ من فلسطين قبل الانسحاب البريطاني، وفرض وجودٍ استيطاني فيها، وربطت المستوطنات بعضها بعضًا، وتأمين المواصلات فيما بينها، والعمل على ضمّ ما يمكن ضمّه من الأراضي التي بقيت خارج الدولة اليهوديّة بموجب قرار التقسيم لعام 1947م.
كشف الصندوق القومي اليهودي عن خطة “إعادة توطين دولة إسرائيل عام 2040م”، والتي تستهدف النقب المحتل عام 1948، عبر ترحيل البدو منها، وإسكان مليون ونصف مستوطن في قراهم وأراضيهم
بعد النكبة الفلسطينية، وإعلان “قيام دولة إسرائيل”، عقدت حكومة الاحتلال والصندوق القومي اليهودي اتفاقيةً عام 1960، تسلمت سلطة “أراضي إسرائيل” بموجبها الأراضي الفلسطينية المحتلة التابعة للصندوق، قبل أن يعدل القرار لاحقًا ليسمح بتبادل أراضي “الدولة” مع الصندوق عام 2009.
مع ذلك، لم يرضَ الصندوق الخضوع لسلطة حكومة الاحتلال والتي قد تعيقها، في حالات نادرة، حساباتها الدولية من تسريع الاستيطان، ففسخ عقد الترابط مع سلطة أراضي “إسرائيل”، وأسعفه في ذلك قانون “تبيض المستوطنات” عام 2017، الذي وضع أراضي الفلسطينيين الخاصة والتي صادرتها “إسرائيل” بتصرفِ الصندوق القومي اليهودي، وقد وصلته تبرعات خارجية حينها وصلت لأكثر من 2 مليار و400 مليون شيكل، (633 مليون دولار أمريكي).
ومع إعادة تكثيف نشاطه الاستيطاني، وبالتزامن مع قدوم الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب لرئاسة الولايات المتحدة الأمريكية ورؤيته في ضم المستوطنات والضفة الغربية، قدّم الصندوق ما يقارب 88 مليون شيكل للاستيطان في الضفة الغربية، ودعم المستوطنين في التكاليف القضائيّة لإخلاء الفلسطينيّين من أراضيهم.
بالإضافة إلى ذلك، كشف الصندوق القومي اليهودي عن خطة “إعادة توطين دولة إسرائيل عام 2040م”، والتي تستهدف النقب المحتل عام 1948، عبر ترحيل البدو منها، وإسكان مليون ونصف مستوطن في قراهم وأراضيهم، من خلال إقامة 750 شركةً في النقب، وجعلها مركزًا لصناعة وتعليم التكنولوجيا، والسايبر، بما يشبه مدينة تكنولوجيّة تستقطب الشباب اليهوديّ من العالم عبرَ تكثيف الدعاية للهجرة اليهوديّة إلى إسرائيل.
وعقد الصندوق تحالفات مع حكومة الاحتلال وجيشه وجهات أكاديمية وقطاعات تجارية في “إسرائيل” والعالم، لتحقيق الخطة، استقطاب أصحاب رؤوس الأموال والتُجار اليهود في العالم للتبرع، وركز خطاب الصندوق على سعيه لتقوية “دولة إسرائيل” وإنعاشها اقتصاديا، وزيادة فرص العمل والتعليم والإنتاج التكنولوجي وبعث الحياة في الصحراء، وفي حال تم تطبيق مشروع الصندوق سوف تصبح النقب عاصمة الاحتلال لصناعة الأسلحة خلال الأعوام العشرين القادمة.
وزارة مالية الاحتلال
كان من الممكن الحديث بشكل طبيعي عن وزارة مالية الاحتلال وخططها التقليدية في دعم الاستيطان وإفراد ميزانية ضخمة لدعمه وتقديم التحفيزات والإكراميات المختلفة قبل نوفمبر 2022، حين رجع بنيامين نتنياهو إلى حكومة الاحتلال بائتلاف يمني هو الأشد تطرفًا في تاريخ الاحتلال، وعقد اتفاقاتٍ مع قادة المستوطنين لتمكين حكمه، منهم بتسلئيل سموتريش الذي عينه وزيرًا للمالية.
وبتسلئيل سموتريش، وزير المالية لدى الاحتلال في الحكومة الخامسة والعشرين، هو مدير “جمعية رغافيم” اليمينية المتطرفة العنصرية، التي تلاحق الفلسطينيين في الداخل المحتل والضفة الغربية، وخاصة في مجال الأراضي والبناء، وتحث السلطات الحكومية، على استصدار أوامر هدم بيوت عربية، بحجة البناء غير المرخص، ويبرز نشاط هذه الحركة العنصرية في منطقتي النقب والمثلث في الداخل المحتل.
مؤخرًا، كشفت هيئة البث العام الإسرائيلية “كان 11” عن مخطط وزير المالية سموتريش ووزيرة “المهمات القومية” والاستيطان، أوريت ستورك لخصخصة بـ700 مليون شيكل بهدف تعزيز الاستيطان في الضفة الغربية المحتلة، بما في ذلك في البؤر الاستيطانية العشوائية.
الدعم المادي وإن وصل أعلى مراتبه للمستوطنات، فإنه لا يغني عن توفير الأمن والحماية للمستوطنين، وهو ما عجزت عنه “إسرائيل” قبيل إخلاء مستوطنات قطاع غزة بفعل المقاومة الفلسطينية
وذكرت “كان 11” أنه “سيتم رصد هذه الأموال من ميزانيات الوزارات الحكومية”، بحيث سيخصص مبلغ يقدر بـ 130 مليون شيكل من ميزانية وزارة التعليم الإسرائيلية، في حين سيتم اقتطاع مبلغ يقدر بـ 200 مليون شيكل من ميزانية وزارة داخلية الاحتلال، بهدف “تعزيز الاستيطان”.
وفي حين تدعم وزارة المالية بالميزانيات الحكومية جرائم المستوطنين في الضفة، يرفض سموتريتش تحويل أموال الميزانية المخصصة للسلطات المحلية العربية لتحسين أوضاع فلسطينيي الداخل المحتل، بزعم منع “وصول هذه الأموال لأيدي مجرمين وإرهابيين.”
كما تمنح وزارة المالية مستوطني مستوطنات الضفة الغربية إعفاءات من ضريبة الدخل، فضلًا عن الدعم المالي المقدم لمستوطنات الضفة من الوزارات الأخرى: الزراعة، ووزارة الأديان التي تحول الرواتب إلى العديد من المؤسسات الدينية، ووزارة البناء والإسكان، ووزارة الاستيعاب التي تمول تسعة مراكز لدراسة اللغة العبرية، ووزارة السياحة التي تخصص تمويلًا للفنادق، ووزارة الطاقة التي تربط المستوطنات بالشبكة الكهربائية، ووزارة التعليم، ووزارة الداخلية التي تمنح مخصصات للمجالس المحلية والإقليمية للمستوطنات.
أما في مجال الصناعة، تشجع حكومة الاحتلال على إنشاء المصانع في المستوطنات، بل ونقل المصانع القائمة في الداخل المحتل للعمل في المستوطنات، مقال هبة حكومية تمنحها وزارة المالية ووزارة الصناعة والتجارة تتمثل في دعم الاستثمار الأساسي، والإعفاءات الضريبية.
تخصص “إسرائيل” ميزانيات ضخمة لدعم الاستيطان وتوسيعه وبناء وحدات سكانية في الضفة الغربية، وذلك من خلال مؤسساتها الحكومية ووزاراتها، والمؤسسات الخاصة مثل الصندوق القومي اليهودي الذي يمثل بشكلٍ صريح الرؤية الصهيونية، إلا أن نقطة مهمةً يتغافل عنها الاحتلال، أن الدعم المادي وإن وصل أعلى مراتبه للمستوطنات، فإنه لا يغني عن توفير الأمن والحماية للمستوطنين، وهو ما عجزت عنه “إسرائيل” قبيل إخلاء مستوطنات قطاع غزة بفعل المقاومة الفلسطينية.