في التقرير السابق تعرضنا لتاريخ السير الذاتية الأدبية، وكون “جان جاك روسو” أول من أرسى لهذا الجنس الأدبي البديع، الذي حظى بقبول واسع من القراء، دفع الكثير من الأدباء وغير الأدباء إلى سرد وكتابة مذكراتهم وسيرهم الشخصية إبان حياتهم، سواء بأيديهم أو عبر حكيها لكُتّاب متخصصين، للوقوف على ما سيُكتب عنهم، وانتقاء ما يريدون ذكره، وغض الطرف عن أحداث وعلاقات بعينها لا يريدون الخوض فيها، أو نشر تفاصيلها على الملأ.
وفي هذا التقرير نستكمل جولتنا التي بدأناها في التقرير السابق، مع بعض السير الذاتية لنساء مُلهمات، ناضلن في الحياة الخاصة والعامة ليصلن إلى ما صرن عليه.
قصة حياتي العجيبة
“إن أعظم شخصيتين في القرن التاسع عشر هما نابليون بونابرت وهيلين كيلر” – مارك توين
عندما بلغت هيلين كيلر 22 عامًا، جلست لتكتب سيرتها الذاتية، وتحكي للعالم أجمع كيف استطاعت وهي حبيسة سجن مظلم وصامت “تعني جسدها”، أن تتعلم القراءة والكتابة وتحصل على بكالوريوس في اللغة الإنجليزية وآدابها، وأن تستمر في طريقها الذي كافحت بصعوبة من أجل السير فيه.
فهذه الأعجوبة التي أصيبت بالصمم والعمى وهي طفلة رضيعة لم يتجاوز عمرها عامًا ونصف، بسبب إصابتها بالتهاب السحايا، تمكنت من تعلم القراءة وتعلم اللغات الألمانية والفرنسية واليونانية، وأكملت تعليمها حتى حصلت على درجة الدكتوراة من جامعة هارفارد، وأرجعت الفضل في ذلك في البداية لأمها، ومن ثم معلمتها “آن سوليفان” التي رافقتها بصبر ودأب طول 50 سنة.
في هذا الكتاب، تكشف هيلين عن مرات الإحباط ونوبات الغضب التي أصابتها خلال رحلة تعليمها التي لم تكن سهلة أو مُعبّدة، ليشاطرها القارئ انتصاراتها التي تبدو قد صغيرة له، لكنها ضخمة وعظيمة لها، مثل نطقها لكلمة “ماء”، وتعلمها القراءة بطريقة برايل، ومن ثم الكلام والنُطق.
وتجدر الإشارة إلى أنه وبفضل جهود هيلين كيلر وتفانيها في البحث عن حقوق أمثالها من ذوي الاحتياجات الخاصة، تم اختراع الكتب الناطقة.
صفحات من حياة نازك الملائكة
على الرغم من أن الشاعرة العراقية الكبيرة نازك الملائكة كتبت سيرتها الذاتية في كتاب بعنوان “لمحات من سيرة حياتي وثقافتي”، فإن هذا الكتاب لم يتعرض لأي شيء مهم أو لمحة تفصيلية عن حياتها، فنازك وكما يعرفها الكثيرون، كانت صبية خجولة في كل مراحل حياتها، لا تجيد الاعتراف بشيء، وظلت تفاصيل حياتها صندوقًا مقفولاً إلا عن المقربين.
ليجيء كتاب “صفحات من حياة نازك الملائكة” والذي كتبته الدكتورة حياة شرارة، الأديبة الناقدة والشاعرة والأكاديمية العراقية، عام 1994، ليُشبع فضول الكثيرين عن نازك، ويسبر غور حياتها، ويكشف لنا مواقف لم نكن نتخيلها أبدًا، منها على سبيل المثال أن نازك أنشأت في صباها جمعية ضد الزواج، ضمت إليها أخواتها وأصدقائها مثل القاصة العراقية ديزي الأمير، لتظل مضربة عن الزواج ومؤمنة برأيها حتى بلغت الأربعين من عمرها.
حيث دونت شرارة، بين طيات هذا الكتاب بعض الصفحات المتناثرة من سيرة حياة نازك الملائكة، وذلك من خلال دراسة ميدانية، سجلتها عبر لقاءات عديدة، واتصالات كثيرة، مع عشرات الأشخاص، ابتدءً من الشاعرة نفسها، ومرورًا بأخواتها وأقاربها وأصدقائها وانتهاءً بالمعارف، ليدخل القارئ عبر هذه الصفحات إلى عمق بغداد، بعاداتها وطرازها المعماري، ويعيش مع “نازك” بداية تجربتها الشعرية، وكيف امتلكت نواصي الشعر، وخطت لنفسها طريق خاص، في فترة قاسية لم يكن للإبداع النسوي فيه أي مكان.
وفي بداية هذه السيرة، كتبت حياة شرارة توضح للقارئ، أن ما هو مُقبل على قراءته ليس سيرة ذاتية كاملة، كي لا يرفع سقف توقعات فضوله الذي يأمل أن يرويه، فقالت:
“قررت أن أكتب صفحات متناثرة من حياة نازك وليست سيرة كاملة لها كما أزمعت في البداية كي أقدر أن أتلافى الفجوات الموجودة في المعلومات التي جمعتها وأن ألزم الصمت عندما ترفع تقاليدنا العائلية والاجتماعية إصبعها بمهابة وحزم وتقول: هص”
ورغم ذلك، فإن ما كتبته شرارة يمثل عرضًا شيقًا، للوقفات المهمة في حياة الشاعرة الكبيرة، حيث اعتمدت الناقدة على تسجيل هذه الوقفات بأسلوب ديناميكي، لا يشعر معه القارئ بأي قطع زماني أو مكاني في هذا التسجيل.
مذكرات إنجي أفلاطون من الطفولة إلى السجن
إنجي أفلاطون، واحدة من أشهر الفنانات التشكيليات في مصر، وصاحبة مدرسة متميزة ومنفردة عن نظيراتها، حيث تُجسد معظم أعمالها معاناة طبقات الشعب المهمشة من صيادين وعمال وفلاحين، كما كان للمسجونات نصيب كبير من أعمالها، حيث قضت إنجي فترة من عمرها في سجن النساء “القناطر” أواخر الخمسينيات وأوائل الستينيات بعد حملة اعتقالات لأصحاب الفكر الاشتراكي والشيوعي، قادها جمال عبدالناصر عام 1959.
وإنجي أفلاطون هي حفيدة حسن الكاشف الذي لقبه محمد علي رسميًا بأفلاطون لكثرة مناقشاته الفلسفية، وابنة الاستاذ الجامعي حسن محمد أفلاطون، وصالحة أفلاطون صاحبة دار أزياء صالحة التي كانت تخدم بنات الطبقة الأرستقراطية في مصر آنذاك.
وفي هذه المذكرات التي كانت عبارة عن تسجيلات أشرطة كاسيت سجلتها إنجي، قبل أن تطلب من سعيد خيال تفريغها وإعدادها للنشر وتحريرها، تحكي إنجي عن تاريخها الشخصي الذي يتقاطع مع تاريخ مصر، وتاريخ وعيها، حيث يأتي التاريخ الشعبي مجدولاً ومُضفرًا بالتاريخ الرسمي.
وتعكس هذه المذكرات، حال المرأة المصرية وتاريخها الطويل الصعب ضد الاستعمار الخارجي “العدوان الثلاثي” والداخلي “النظرة الدونية للمرأة والتعامل معها على أنها مواطن درجة ثانية”، كما تسرد وضع الحركة النسائية المصرية ومطالبها الهامة، وما تعرضت له المناضلات من سجن واعتقال، كما أرّخت هذه المذكرات للحركة الطلابية في الأربعينيات، وحياة السجن وتفاصيله الدقيقة، من تضييق وتعذيب وطعام غير آدمي وشذوذ جنسي، وذكرت أيضًا جانب السجن الإنساني، وإعداد المسرحيات وتأليف الأغاني التي كانت السجينات يتحايلن بها من أجل قضاء الوقت.
لتأتي هذه المذكرات وكأنها ملحق تكميلي، لما سبق وأن أرخته “أنجي أفلاطون” برسوماتها التي تحاكي الواقع، لهذه الحقبة الزمنية المليئة بالأحداث السياسية والاجتماعية الهامة.
المُبتَسَرون: دفاتر واحدة من جيل الحركة الطلابية
“نحن أبناء الزمن الذي فقد فيه حتى الحزن جلاله، صار مملًا هو الآخر، مثل البرد مثل الصداع، والملل لا يصنع فنًا، فقط أناسًا مملين“
انتحرت أروى صالح بعد شهور من كتابة هذه المذكرات، بإلقاء نفسها من الدور الثاني عشر، وكأن كتابة هذه الدفاتر الممرورة والمعجونة بأسى الصدمة في الصورة المرسومة للحركة الماركسية الطلابية المصرية فى السبعينيات، بادعاءاتها البروليتارية وقداساتها المزيفة، لم تستطع أن تُخفف الثقل الذي كانت تنوء بحمله.
فأروى صالح التي كانت واحدة من ألمع نشطاء الحركة الطلابية في السبعينيات، كتبت هذه المذكرات الكاشفة، لتحكي للأجيال الجديدة عن تجربة جيل الحركة الطلابية في بداية السبعينيات 1972 و1973، وتقدم تجربة هذا الجيل وخبراته وعلاقته بالجيل السابق جيل الستينيات، وما ميزهم كجيل عن الأجيال السابقة، وما حدث لهم بعد ذلك من تبدل الظروف والمسارات، التي بدلت الظروف التي نشأوا في كنفها لمشهد مغاير تمامًا، ومختلف بهمومه وأحلامه، مما جعلهم عبارة عن مشاريع لم تكتمل أبدًا، فتحولوا إلى جيل من المبتسرين الخُدَّج ناقصي التكوين الذين باعوا النضال مقابل مكاسب فردية، على أمل أن ترفض الأجيال الجديدة مثل هذا الإرث المشين، وأن “يجحدوه” كما قالت في كتابها، وألا ينخدعوا ذات يوم كما انخدعت أروى ويشتروا الوهم النضالي الذي يبيعه البعض.