تمخضت خلال العقود الأربع الأخيرة العديد من التغيرات الدرامية في البيئة السياسية والاقتصادية بسبب العولمة والثورة التقنية وتبني معظم الدول لسياسات التحرر المالي والتي بموجبها تم تقليل القيود على حركة التدفقات النقدية، بالإضافة إلى سن العديد من الدول لسياسات تشجيع الاستثمارات الأجنبية المباشرة وبهذا أصبحت الاستثمارات الأجنبية المباشرة تلعب دورًا بارزًا وحيويًا في تحقيق النمو الاقتصادي، كونها إحدى أهم القنوات الرئيسية للتدفقات النقدية، وهذا الأمر ينعكس إيجابًا على البلد المضيف من خلال تعزيز ميزان المدفوعات للبلد، بسبب زيادة التدفقات النقدية أي إضافة المزيد من رؤوس الأموال إلى الحساب الجاري الذي يمكن استخدامه في تنفيذ المشاريع المحلية.
كما أن وجود الشركات الأجنبية يقلل الاستيراد وبالتالي يقل العجز في الميزان التجاري، علاوة على ذلك، تعتبر الاستثمارات الأجنبية واحدة من أهم مصادر نقل الخبرات والتطورات التكنولوجية وتنمية ورفع كفاءة رأس المال البشري للدول المضيفة.
يتأثر قرار الشركات الأجنبية في الاستثمار بالخارج بالعديد من المحددات والمتغيرات مثل استقرار السياسات المتعلقة بالاقتصاد الكلي مثل معدلات التضخم ومدى تباينها، ومعدلات سعر الصرف بالإضافة إلى مستوى الدين الخارجي وغيرها من المحددات، وقد أثبتت الدراسات الاقتصادية أن انخفاض قيمة العملة المحلية للدولة المضيفة في مقابل عملة الدولة الأم يؤدي إلى جذب الاستثمارات الأجنبية، إذ إن امتلاك الأصول في الدولة المضيفة يصبح أرخص، كذلك يؤثر انخفاض قيمة العملة المحلية على حركة تدفق رؤوس الأموال حيث يتجه المستثمرون إلى تسييل الأصول الأجنبية لمحاولة الحد من الخسائر الناتجة عن انخفاض قيمتها مقابل العملة الأجنبية.
تراجع الليرة التركية
انخفضت قيمة الليرة التركية في مقابل الدولار خلال الأيام القليلة الماضية مسجلة أدنى سعر رسمي لها منذ عشر سنوات، حيث بلغت ما يقارب 3.9 مقابل الدولار الأمريكي في حين كانت 1.7 في العام 2012
حيث ساهمت العديد من الأحداث والمتغيرات على الصعيدين الدولي والمحلي في هذا التراجع الحاد للعملة التركية، ومن أهم الأحداث الخارجية التي أثرت على قيمة الليرة التركية نذكر منها ارتفاع سعر صرف الدولار مقابل سلة العملات، بالإضافة إلى السياسات الاقتصادية للرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب التي تستهدف التركيز على جذب التدفقات النقدية وفرض المزيد من القيود على الواردات، وتوجه مجلس الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي إلى رفع معدلات الفائدة.
الأمر الذي انعكس سلبًا على الاقتصاد التركي وذلك أنه بسبب هذه التغيرات أصبح العائد على الاستثمار في الأصول المقومة بالدولار الأمريكي أكثر إغراءً، والذي من شأنه دفع المستثمرين إلى تحويل رؤوس الأموال من السوق التركي إلى السوق الأمريكي، ناهيك على زيادة أعباء الديون التركية المقومة بالدولار الأمريكي، وتقلبات أسعار النفط في الآونة الأخيرة وما نتج عنها من اتفاق الأوبك وخفض مستويات الإنتاج إلى رفع أسعار النفط علمًا أن تركيا تعتمد بصورة أساسية في تغطية احتياجاتها من النفط والغاز الطبيعي على الاستيراد مما شكل عبئًا على الاقتصاد التركي وأثر بصورة عكسية على سعر صرف الليرة.
وفضلاً عن هذه التطورات الخارجية، فقد ساهمت الأحداث الداخلية وحالة عدم الاستقرار السياسي في تركيا في خفض قيمة الليرة، ويمكننا ملاحظة هذه التبعات جلية في العديد من القطاعات الاقتصادية خاصة القطاع الزراعي والسياحي والتي كانت قد سجلت تراجعًا ملموسًا في أعقاب الأزمة التركية الروسية من خلال السياحة الروسية في تركيا التي تساهم بما يقارب 15 مليار ليرة سنويًا، وأيضًا فإن محاولة الانقلاب الفاشلة أثرت على الاقتصاد التركي حيث خفضت وكالات التصنيف الائتماني العالمي درجة تركيا الائتمانية إلى مستوى متدنٍ، مما زاد مخاوف المستثمرين والشركات الأجنبية العاملة في تركيا ودفع أصحاب رؤوس الأموال إلى تحويل مدخراتهم من الليرة التركية إلى العملات الأخرى، مما أدى إلى زيادة الطلب على الدولار.
فرص وتحديات
لا شك أن انخفاض قيمة العملة المحلية لتركيا كدولة مضيفة للاستثمارات الأجنبية يؤدي إلى جذب تلك الاستثمارات، حيث تصبح تكلفة امتلاك الأصول وإنشاء المشاريع أرخص، وكذلك زيادة القدرة الاستثمارية لتلك الشركات من خلال انخفاض تكلفة رأس المال
في المقابل تواجه الحكومة التركية تحديات كبيرة فيما يتعلق بجذب الاستثمارات الأجنبية تتمثل في توجه المستثمرين إلى تحويل الأصول المرتبطة بالليرة التركية إلى العملات الأجنبية لمحاولة الحد من الخسائر الناتجة عن انخفاض قيمتها مقابل العملة الأجنبية، في ذات السياق، لم تكن دعوة الرئيس التركي رجب طيب أردوغان للمواطنين الأتراك بضرورة تحويل المدخرات المقومة بالدولار الأمريكي إلى الليرة التركية إلا محاولة منه لتقليل الطلب على الدولار الأمريكي، وزيادة الطلب على الليرة التركية، أضف إلى ذلك تجنب الحكومة التركية تطبيق بعض السياسات النقدية المتمثلة في رفع معدلات الفائدة لما لتلك الإجراءات من تأثير سلبي على المستثمرين الأتراك.
ومن التحديات التي تواجه الحكومة التركية جراء انخفاض قيمة الليرة التركية تأثيرها على قرارات توزيع الأرباح في الشركات الأجنبية، الأمر الذي يؤدى إلى انخفاض تدفق الاستثمارات الأجنبية إلى تركيا، وجدير بالذكر أن تأثير انخفاض الليرة التركية (أو بمعنى آخر عدم استقرارها) على قيمة القوة الشرائية والاستثمارات المحلية ينعكس سلبًا على الاستثمارات الأجنبية، وعليه فإن المستثمرين الأجانب يفضلون الاستثمار في الاقتصاديات الأكثر استقرارًا التي تعكس قدرًا منخفضًا من عدم اليقين.