“علينا أن ننظر إلى ما بعد حكم الإدارية العليا، فالسعودية لديها وثائق دامغة في الأمم المتحدة بشأن أحقيتها في ملكية تيران وصنافير، وحكم اليوم لا يغير من تعيين الحدود الذي تم توقيعه سنة 1990، نحن هنا نخاطب أنفسنا، لكن المحاكم الدولية لا تنظر إلى مثل هذه الأحكام التي لا تغير من الحقيقة شيء…” يتصور المرء للوهلة الأولى أن تلك التصريحات التي جاءت تعليقًا على حكم الإدارية العليا أمس برفض الطعون المقدمة من الحكومة المصرية بشأن اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية، ومن ثم بطلانها، تأتي على لسان شخصية سعودية – سياسية كانت أو إعلامية – تسعى إلى الإعداد لما بعد الحكم، والدفاع عما تزعم به بشأن سيادتها على الجزيرتين، لكن حين تخرج تلك الكلمات من أحد أبرز الإعلاميين الداعمين للنظام المصري، والقريبين من دوائر صنع القرار في القاهرة، فلا بد من وقفة.
الصدمة التي أصابت النظام المصري ممثلاً في رموزه الإعلامية والسياسية عقب النطق بالحكم جاء كاشفًا – وبصورة واضحة – عن رغبته الحقيقية في تمرير تلك الاتفاقية مع الجانب السعودي بصرف النظر عن قانونية أو دستورية هذه الخطوة، التي قوبلت بالرفض الشديد من الشارع الذي تصدى لها بكل ما أوتي من قوة، وعلى الرغم من كون الحكم نهائيًا واجب النفاذ، بحسب قانونيين، فأذرع النظام لا زالت تبحث عن منافذ أخرى لتمرير الاتفاقية بأي ثمن، ليبقى السؤال قائمًا: لماذا هذا الإصرار من الجانب المصري – النظام – على إثبات سعودية الجزيرتين؟
البرلمان والدستورية.. ورقتا النظام القادمتين
على الرغم من ترسيخ مبدأ احترام أحكام القضاء الذي طالما عزف عليه الإعلاميون الداعمون للنظام، فإن شاشات الفضائيات بالأمس تحولت في معظمها إلى منابر لتفنيد الحكم والتحايل عليه والتقليل من شأنه والبحث عن منافذ جديدة للرد عليه، وما إلى غير ذلك من الممارسات التي كثيرًا ما تصدى لها القانون في السابق، فضلاً عن استضافة العديد من البرلمانيين للحديث عن الحكم الذي وصفه بعض الإعلاميين بالجائر على دور وسلطة البرلمان، مما يساهم في شحن بعض النواب ضد الحكم ومن ثم الاتفاقية.
المنفذ الأول الذي تسعى الحكومة من خلاله إلى إثبات سعودية الجزيرتين وصحة الاتفاقية، فتمثل في المحكمة الدستورية، فعقب صدور حكم محكمة القضاء الإداري المبطل للاتفاقية، لجأت هيئة قضايا الدولة – الممثل القانوني للحكومة – للمحكمة الدستورية العليا، وأقامت “منازعة تنفيذ” لوقف تنفيذ حكم محكمة القضاء الإداري القاضي ببطلان الاتفاقية، ثم أقامت منازعة أخرى في 6 من نوفمبر الماضي، وتمت إحالتهما لهيئة مفوضي الدستورية لتحضيرهما وإعداد تقرير فيهما، وقررت فيها التأجيل لجلسة 12 من فبراير المقبل، وهو ما يعقد عليه النظام الحالي آمالاً في إصدار حكم موازٍ لحكم الإدارية، ومن ثم فليس أمام الدولة حينها سوى اللجوء للبرلمان للفصل في هذا النزاع، خاصة في ظل الأغلبية التي تتمتع بها الحكومة داخل المجلس.
على الرغم من ترسيخ مبدأ احترام أحكام القضاء الذي طالما عزف عليه الإعلاميون الداعمون للنظام، فإن شاشات الفضائيات بالأمس تحولت في معظمها إلى منابر لتفنيد الحكم والتحايل عليه والتقليل من شأنه والبحث عن منافذ جديدة للرد عليه
“إن مجلس النواب هو الجهة الوحيدة التي تحدد ما إذا كانت اتفاقية ترسيم الحدود مخالفة للدستور أم لا…” بهذه الكلمات استهل رئيس البرلمان المصري الدكتور علي عبد العال تعليقه على حكم الأمس، ملفتًا أن القرار بيد المجلس لا بيد القضاء، مشيرًا أن الدستور يحدد الأطر الدستورية للسلطات الثلاثة ويرسى على مبدأ الفصل بين السلطات، وهو المنفذ الثاني الذي يعول عليه النظام في تمرير الاتفاقية.
وتابع عبد العال في حديث تلفزيوني له: إن الاتفاقيات الدولية تمر بـ 5 مراحل هي: المفاوضات والتوقيع والمناقشة في المجلس ثم تصديق رئيس الجمهورية ثم النشر في الجريدة الرسمية، منوهًا إلى أن اتفاقية ترسيم الحدود بين مصر والسعودية أرسلت لمجلس النواب طبقًا لنص المادة 151 من الدستور، مشددًا على أنه طبقا للمادة 151 من الدستور، لا توجد اتفاقية دولية لأنها لم تمر بالمراحل الـ5، مختتمًا حديثه بقوله: كل الآراء ستكون محلاً للمناقشة عندما يعرض موضوع تيران وصنافير إذا تم عرضه وسنراعي آراء كل النواب، ومن ثم فكل الاحتمالات مفتوحة ولا بد من تفعيل دور المجلس.
رئيس البرلمان: مجلس النواب هو الجهة الوحيدة التي تحدد ما إذا كانت اتفاقية ترسيم الحدود مخالفة للدستور أم لا
وقد تبنى عدد من النواب مهمة الدفاع عن الاتفاقية خلال مناقشتها داخل البرلمان، في مقدمتهم النائب مصطفى بكري، صاحب كتاب “سعودية تيران وصنافير” والذي شدّد على أن مصير الاتفاقية بيد أعضاء مجلس النواب، دون غيرهم، فضلاً عن عدد من النواب الآخرين لا سيما من تحالف “دعم مصر” الداعم للحكومة، ممن أعلنوا دعمهم للاتفاقية، شكلاً ومضمونًا.
علي عبد العال رئيس مجلس النواب المصري
وفي السياق نفسه، قال المستشار رفيق شريف، نائب رئيس هيئة قضايا الدولة، ومقدم الطعن على حكم القضاء الإداري نيابة عن رئيس الجمهورية ورئيس الحكومة ووزراء الدفاع والخارجية والداخلية “إن مناقشة اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع السعودية من اختصاص مجلس النواب، وهو من له الحق في إبداء رأيه فيها”، لافتًا إلى أن تلك القضية “سيتم حسمها من قبل مجلس النواب ولن تصل إلى التحكيم الدولي”.
وفي المقابل، عبر عدد من النواب عن دعمهم لحكم القضاء الإداري، وتحيزهم لمصرية الجزيرتين، كما جاء على لسان خالد يوسف عضو مجلس النواب، والذي قال إن الحكم التاريخي الصادر أمس من المحكمة الإدارية العليا، بمصرية الجزرتين، يعتبر عنوانًا للحقيقة، لافتًا إلى أنه يرفض دعوات البعض اللجوء للمحكمة الدستورية العليا للبت في أمر الجزيرتين، وأشار إلى أنه لو ناقش البرلمان الاتفاقية بعد الحكم ببطلانها سيكون قد أهان القضاء.
وأضاف في لقاء تليفزيوني له أنه عقب حكم الإدارية العليا “لا يوجد ما يسمى باتفاقية ترسيم الحدود مع المملكة العربية السعودية”، لافتًا إلى أن الحكم جعل الاتفاقية بتسليم الجزرتين هي والعدم سواء.
أما النائب أحمد الطنطاوي، فقال تعليقًا على الحكم: “مبروك لكل المدافعين عن تراب أرضهم، مبروك لكل من دفعوا حريتهم ثمنًا لعدم التفريط في الأرض، وأقول للحكومة إنه يجب عليها ألاَّ تُكابِر وتمتثل لحكم المحكمة الذي أصبح ملزمًا للجميع، ولكنها إذا سعت لمواجهة جديدة فنحن على استعداد للوقوف حتى آخر نفس للدفاع عن الأرض، وأود ألا يحدث ذلك، وتلتفت الحكومة لقضايا الحقوق الاقتصادية والاجتماعية، وألا تدخل معركة تم الفصل فيها بشكل نهائي لا رجعة فيه بحكم قضاء مجلس الدول”.
لماذا الإصرار على سعودية الجزيرتين؟
العديد من التساؤلات باتت تفرض نفسها بقوة من قبل رجل الشارع لاسيما بعد رد فعل المؤيدين للنظام عقب حكم الأمس، عن دوافع وأبعاد التصميم على سعودية الجزيرتين، إلا أنه وبنظرة عاجلة يمكن الوقوف على أسباب استماتة الحكومة والسلطة الحاكمة للدفاع عن صحة اتفاقية ترسيم الحدود مع السعودية في عدة نقاط.
الأول: الحرص على العلاقات مع السعودية: الدافع الأول يتمثل في حرص النظام الحالي في الدفاع عن علاقته بالمملكة، لضمان استمرار تدفق الدعم المالي والعيني، خاصة في ظل ما تعاني منه مصر مؤخرًا من أزمات طاحنة دفعتها لأن تكون في أمسّ الحاجة للقليل من الدعم من هنا وهناك.
الثاني: الدفاع عن سمعة النظام: أما المبرر الثاني للدفاع عن صحة الاتفاقية يتمثل في محاولة سعي النظام إلى تحسين صورته أمام الشعب خاصة بعدما أثير من اتهامات بالتخوين والتنازل عن تراب الوطن، وطلب البعض بمحاكمة الموقعين على الاتفاقية، وهو ما يثبت قضائيًا حال الحكم ببطلانها، ومن ثم فلا بد من العمل على إثبات صحتها حفاظًا على صورة السلطة أمام الشعب.
الثالث: الخوف من موجة ثورية جديدة: لا شك أن هزيمة النظام وحكومته أمام المعارضين للاتفاقية سيلعب دورًا محوريًا في تأجيج الشارع ضد السلطة، فضلاً عن زيادة رقعة المعارضة وانحسار شعبية الرئيس ورجاله، مما قد يهيئ مناخًا يسمح بموجة ثورية قادمة استفادة من حالة السخط الشعبي الجارفة بسبب سياسات التقشف وارتفاع الأسعار وغياب العدالة، وهو ما يخشى النظام حدوثه حال بطلان الاتفاقية.
التهديد باللجوء للتحكيم الدولي
المثير للجدل في التغطية الإعلامية لحكم الأمس من قبل الإعلام المؤيد للنظام، أنه طالما كان يعزف على وتر تهديد المصريين بلجوء المملكة العربية السعودية إلى التحكيم الدولي، فضلاً عن التلويح بترحيل العمالة المصرية من دول الخليج، وهو ما أشار إليه أحمد موسى، أمس، في برنامجه “على مسؤوليتي” المقدم على قناة “صدى البلد”.
وفي المقابل علقت بعض الشخصيات السعودية على الحكم بأنه لا قيمة له من الناحية الموضوعية، فهذا شأن مصري داخلي، إلا أن الأمر محسوم دوليًا بعيدًا عن القضاء الإداري، وفق ما قدمته المملكة من وثائق وأدلة للمنظمات الدولية، وهو ما أشار إليه أنور عشقي عضو مجلس الشورى السعودي السابق، ورئيس مركز الشرق للدراسات.
كما اشتعلت مواقع التواصل الإجتماعي بحملات من الهجوم على مصر عقب النطق بالحكم، وتهديد باللجوء إلى المحاكم الدولية، حيث دشن سعوديون هاشتاجًا تحت عنوان: #تيران_وصنافير_سعودية، ردًا على هاشتاج: #تيران_وصنافير_مصرية،
شرعية النظام على المحك
وعلى الجانب المصري، فقد أعتبر البعض حكم الإدارية العليا ببطلان الاتفاقية دليلاً واضحًا على فشل النظام الحالي، وهو ما يستوجب تنحيه وانسحابه عن المشهد، كما جاء على لسان الكاتب الصحفي جمال سلطان رئيس تحرير جريدة “المصريون” على حسابه على “تويتر”: “ما جرى اليوم أعظم من كونه حكم محكمة، هذا أخطر طعن في شرعية نظام السيسي”.
فيما طالبت حركة 6 أبريل، بمحاكمة المتورطين في التوقيع على هذه الاتفاقية، حيث نشرت على حسابها على “تويتر”: على السلطة الحاكمة تقديم استقالتها والخضوع للمحاكمة بتهمة الخيانة العظمى والتآمر لبيع جزء من الوطن.
وفي المقابل لا زال هناك من يرى أن ما حدث لا يخرج عن كونه جزءًا من مخطط إلهاء الشعب عن الأزمات التي يعاني منها في الوقت الراهن من خلال إيهامه بانتصار مزيف يمتص غضب الشارع، وحين يهدأ تعود الأمور إلى طبيعتها عبر المحكمة الدستورية أو البرلمان لتمرير الاتفاقية، بينما يرى آخرون أن هذا السيناريو يعكس التلاعب بورقة الجزيرتين مع السعودية باسم القضاء، وثالث يشير إلى رغبة السلطة في إعادة ثقة الشعب في مؤسسة القضاء بما يساعده على تمرير العديد من القضايا الحيوية التي قد يمثل فقدان ثقة المواطنين في القضاء العقبة الأساسية فيها، ورابع يحلق بعيدًا في أن ما حدث انعكاس إيجابي على مساحة الخلاف التي تسمح بها السلطة الحالية وتفنيد واضح لمزاعم الديكتاتورية وإحكام السيطرة على مفاصل الدولة كافة.
لكن، بصرف النظر عن كل هذه التأويلات وتلك الفرضيات التي تصل احتمالية بعضها إلى الدرجة الصفرية، إلا أن حكم الإدارية العليا إدانة واضحة لنظام عبد الفتاح السيسي بجميع أركانه، وتهديد خطير لشرعيته التي باتت على المحك كما جاء على لسان البعض.