تعرضت جماعة “الإخوان المسلمون” طوال ثمانين عاماً من عمرها لثلاث حملات قمع كبيرة في مصر تمكنت من الخروج منها بسلام محافظة على أجندتها الإصلاحية كما هي. كانت الحملة الأولى في عهد الحكم الملكي عام 1949، وكانت الاثنتان الأخريان في عهد جمال عبد الناصر في عام 1954 وفي عام 1965. لم تتمكن أي من هذه الحملات من تغيير التزام هذه الحركة بالمحافظة البناءة، ومهما حصل لها ظل زعماؤها حتى هذا اليوم متمسكين بحلمهم بتغيير مصر من الداخل بالتدريج.
إلا أن تغيراً استراتيجياً بات وشيك الحدوث في هذا الظرف الذي تزدحم فيه سجون مصر بما يقرب من ثلاثة عشر ألفاً من أعضاء الحركة في المستويات القيادية العليا والوسيطة، حيث يواجه بعضهم تهماً قد تؤدي إلى الإعدام. فبعد أن صوردت ممتلكاتهم وحظرت حركتهم، انتقلت قيادة حركتهم إلى جيل أحدث سناً وأكثر راديكالية وأكبر عزماً على إنهاء المهمة التي بدأت في ميدان التحرير ولو كان ثمن ذلك التضحية بحياتهم.
يقول الجيل الجديد من ثوريي الإخوان إن الأمر لا يتعلق بما إذا وإنما بمتى سيطاح بعبد الفتاح السيسي وقيادة الانقلاب، ويزعمون أن نهاية النظام الانقلابي قد اقتربت، وهم الآن بصدد تنظيم احتجاجات واسعة النطاق في كافة أرجاء البلاد بمناسبة الذكرى السنوية لثورة الخامس والعشرين من يناير.
قال لي أحدهم: “عليك أن تفهم أن ميدان التحرير بات الآن رمزاً، ولكننا سنحتفل في ميداني التحرير ورابعة. تابعنا، وسترى، سوف يكون حدثاً ضخماً. أعدك بذلك”.
مهما بدا ذلك مناقضاً للحقائق على الأرض اليوم، بعد إجراء الاستفتاء على الدستور الأسبوع الماضي والذي يؤسس لصعود العسكر على حساب الحكم المدني في مصر، والذي ينظر إليه – أي الاستفتاء على الدستور – على أنه المدشن لحملة ترشيح السيسي للرئاسة، فإن الإخوان المسلمين يصرون على أن مزاج الثورة لدى الشارع المصري يتنامى. ففي اليوم الأول للتصويت على الدستور الجديد لقي ثلاثة عشر شخصاً حتفهم. ومع ذلك تدعي الحركة الاحتجاجية بأن لديها متعاطفين داخل الجيش.
لن تبقى الأمور على ما هي عليه إذا ما أطيح بالسيسي والحكومة من خلال ثورة جديدة، فالجيل الجديد ليس لديه كبير شهية للإصلاحات الدستورية ولجولة أخرى من الانتخابات البرلمانية والرئاسية. قال لي أحدهم: “ما الحكمة في تغيير الوجوه إذا ما بقي هيكل النظام الذي تحكم من خلاله البلاد كما هو؟ كيف لك أن تحقق سيادة القانون إذا ما استمر القضاة الذين عينهم مبارك في ترأس المحاكم التي تنظر في القضايا التي تلفق ضدنا”؟
والبديل، هو انتقال السلطة التنفيذية إلى مجلس ثوري يمثل كافة الأحزاب الثورية، العلمانية والإسلامية منها على حد سواء، وقيام محاكم ثورية تناط بها مهمة تحقيق العدالة، بشكل سريع.
ينفي هؤلاء الشباب أنهم على وشك التخلي عن الديمقراطية أو اللاعنف، ويعترفون بمخاطر العدالة السريعة. فثمة خيط رفيع يفصل بين ذلك وبين الانتقام للمئات من رفاقهم الذين قضوا نحبهم في المظاهرات.
ويقرون أيضاً بأن ملايين المصريين أيدوا الإطاحة بالرئيس مرسي في شهر يوليو من العام الماضي وبأن مرسي حينما كان في السلطة لم يسع بما فيه الكفاية لتشكيل حكومة تمثل الجميع. ويقولون، حقيقة، إنه كان يتوجب عليه رفض تشكيل أي حكومة ما لم تشارك فيها كل القوى التي كانت في ميدان التحرير. ونتيجة لذلك مازالت هناك الآن هوة تحتاج إلى التجسير بين الثوار العلمانيين والثوار الإسلاميين.
ورغم أنهم ليسو محل ثقة غيرهم من الثوريين، إلا أنهم يرون بأن الجميع بدأ يعاني تحت حكم استبدادي أشد قسوة من أي شيء جربوه في عهد الدكتاتور حسني مبارك. وآخر مؤشر على أن الانقسامات داخل معسكرهم قد تكون في طريقها للالتئام هو تصريح أحمد ماهر الذي عبر فيه زعيم حركة شباب 6 إبريل المعتقل حالياً عن ندمه على تأييده للانقلاب.
لقد ظن الإخوان المسلمون أن بإمكانهم إنجاز الأمر وحدهم، وقد اكتشفوا بعد أن كلفهم ذلك الكثير أنهم كانوا خاطئين. يقول أحد القادة الجدد: “إن مصر أكبر منا جميعاً، ولن يتمكن أحد من قيادة البلد بمفرده. ونعتقد بأن ثمة أرضية مشتركة تكفي لأن نقف عليها نحن وكافة الأحزاب الثورية العلمانية لنستكمل هذه المسيرة النضالية. حينما تقول بأننا جميعاً سننادي بالثورة يوم الخامس والعشرين، فاعرف يقيناً بأن الدم حينما يمتزج بعضه ببعض في الشوارع فلا فرق حينها بين العلماني والإسلامي.”
يعتبر يحيى حامد واحداً من القيادات الشابة لهذا الجيل الجديد، وقد كان من المستشارين المقربين للرئيس مرسي وشغل منصب وزير الاستثمار في حكومته. انضم بعد الانقلاب إلى الجماهير المعتصمة في ميدان رابعة العدوية، ونجا من عمليات القتل الجماعي التي وقعت بحقهم ثم فر إلى خارج البلاد، وهو الآن واحد من خمسين من القيادات الوسيطة مطلوب القبض عليهم في مصر بتهمة الخيانة.
الاستراتيجية الجديدة، والتي تم إقرارها في اجتماع عقد أثناء اعتصام رابعة، إنما هي نتاج تحليلهم للأخطاء التي ارتكبت خلال العام الأول من حكم الرئيس المعزول محمد مرسي بقدر ما هي نتاج ستة شهور من القمع الذي تلا تلك الفترة.
يقول حامد: “تغيير الوجوه لا يعني تغيير النظام. إذا سألت أي شخص يمشي في الشارع ما الذي ينبغي علينا فعله بعد يوم واحد من الإطاحة بالسيسي فسوف يخبرك بأن علينا تطهير جميع المؤسسات بدءاً بالجيش”.
كان حامد شاهداً على جهود مرسي الفاشلة لإصلاح قوات الأمن بهدوء ومن الداخل. وقد كشف لي بأن مرسي فصل ما يقرب من 700 ضابط برتبة فريق من منتسبي وزارة الداخلية واستبدل ثلاثة أرباع الرتب العليا في الجيش. إلا أن الواقع تبدى له حينما تواطأ الجنرالات الذين عينهم مرسي على ترتيب الانقلاب عليه في يوليو من العام الماضي. حامد يصدع بانتقاده لما ارتكبه الإخوان من أخطاء أخرى، ويقول إنه كان عليهم أن يشكلوا حكومة تشارك فيها كافة الفصائل التي شاركت في اعتصامات ميدان التحرير.
إلا أن ثمة خطيئة كبرى وقع فيها الإخوان ومعظم المعارضة العلمانية على حد سواء، وهي أنهم بعد سقوط الدكتاتور حسني مبارك وضعوا ثقتهم في الجيش وأمنوه على رعاية التحول الديمقراطي، وبذلك مكنوا هذه المؤسسة ذات المصالح الأكبر من استمرار الوضع القائم الفاسد من الانقضاض على ثورتهم.
طلبت من حامد أن يشرح لي كيف كان الجيش يحكم قبضته على الحكومة في مصر، فكانت إجابته العجيبة على النحو التالي:
“انظر إلى سعر كيلو اللحم. لقد حاولت إدارة مرسي تخفيض أسعار اللحوم من خلال استيراد كميات كبيرة من اللحوم من السودان، وفعلاً تمكنوا من تخفيض السعر إلى 53 جينهاً للكيلو الواحد وكانوا ينوون المضي بتخفيضه إلى 40 جنيهاً. إلا أن ذلك لم يسعد الجميع. فهذه الخطوة المرحب بها شعبياً أدت إلى تآكل أرباح الشركة المستوردة والتي كانت تدار من قبل ولصالح جهاز المخابرات في مصر. ماذا حدث بعد الانقلاب؟ أعيد سعر كيلو اللحم إلى 75 جنيهاً وبذلك عاد جواسيس المخابرات يتنفسون بيسر من جديد.
وتتكرر نفس القصة مع كل طن مستورد من حبوب القمح، حيث تستقطع قوات الأمن منها نصيباً. وهذا ينطبق على كل السلع. يشبه يحيى حامد ميزانية الجيش بــ “الصندوق الأسود”، لا يعرف كنهه من يقف خارجه بما في ذلك الرئيس المنتخب نفسه. يذكر أنه في إحدى المرات عارض السيسي نفسه مقترحاً بإخضاع ميزانية الجيش للتدقيق المفصل داخل مجلس الأمن القومي. واضح لماذا فعل ذلك. فالجيش يتحكم بـ 62 من الشركات الكبرى العاملة في قطاع الأراضي والعقارات والإنشاءات.
كما أن أمريكا أثبتت بأنها حليف متقلب لمصر، والتزام واشنطن باحترام نتائج الانتخابات الديمقراطية – وكانت تلك هي الأولى في تاريخ مصر – كان أوهى من بيت العنكبوت. والحقيقة أن الإدارة الأمريكية كانت من وراء الكواليس تبحث عن وسيلة للتخلص من مرسي.
في إحدى المرات، وبينما كانت إدارة الرئيس مرسي في حالة احتضار، أخبرت آن باتيرسون، سفيرة أمريكا في القاهرة آنذاك، الرئيس مرسي بأنه إذا وافق على تعيين محمد البرادعي رئيساً للوزراء وأحمد جمال الدين وزيراً للداخلية (وهو رجل يعتقد بأنه مقرب من واشنطن) فإنها تتعهد شخصياً بجلب مائة من رجال الأعمال الأمريكان ليستثمروا عشرة مليارات دولار في مصر.
يقول حامد: “هذا ما قالته باتيرسون. شيء لا يصدق. ولذلك، وحينما جاءته مكالمة من أوباما يوم الأول من يوليو، قال مرسي – وهذا يحسب له – بأن القرار لا يملكه أحد سوى الشعب المصري.” كانت واشنطن في ذلك الوقت تطالب مرسي بالدعوة إلى انتخابات جديدة شريطة ألا يكون هو أحد المرشحين.
ليس مستغرباً الآن أن البيت الأبيض يعد العدة الآن لاستئناف كافة برامج المساعدات المقدمة إلى مصر، والتي قلصت بعيد القتل الجماعي للمتظاهرين. إذا ما حدث ذلك فعلاً، فإن واشنطن ستندم على خطوتها تلك لأن أي حكومة ستقوم في مصر بعد الإطاحة بالسيسي ستكون ملزمة بإثبات استقلالها عن واشنطن.
صدى هذه المواقف لن يجلجل فقط في شبه جزيرة سنياء، حيث تدور رحى التمرد، وعلى الحدود مع غزة، وإنما في المنطقة بأسرها. فقد مولت كل من المملكة العربية السعودية وعلى دولة الإمارات العربية الحكومة المسنودة من قبل العسكر منذ الانقلاب. المملكة العربية السعودية تخشى الإخوان المسلمين لسببين: كمنافس على تفسير الإسلام ولأنهم يعلمون علم اليقين بأن ما يجري في مصر يمكن أن يجري في بلادهم.
راديكاليو الإخوان المسلمين الجدد يميزون بين السعودية والإمارات. يقولون إن هناك من أفراد العائلة الحاكمة السعودية من يشعرون بالاستياء الشديد من السياسة التي ينتهجها رئيس المخابرات الأمير بندر باسم الملك عبد الله الذي بلغ من العمر عتياً. ويقولون إنه “لازال ثمة وقت” أمام المملكة لتغير من توجهها. أما الإمارات، فقد فات الفوت، ومصيرها كما يقول الإخوان قد حسم. فمصر ما بعد السيسي لن تستحيي أن تدعو جهاراً نهاراً للثورة في الأقطار العربية الأخرى.
*محرر “عين على الشرق الأوسط”
(نشرت النسخة الإنجليزية لهذه المقالة في “هافنجتون بوست” 21 كانون الثاني/ يناير 2014)