انتشر مقطع فيديو في الأيام القليلة الماضية في وسائل التواصل الاجتماعي، لمجاميع كبيرة من الكتب المدرسية وهي متناثرة على الأرض فيما يبدو انتظارًا لمرحلة إتلافها، تزامنًا مع أزمة وزارة التربية وعدم توزيعها للمناهج الدراسية هذا العام!
في سبتمبر المنصرم أعلنت وزارة التربية العراقية بدء العام الدراسي 2016-2017 بالتحاق أكثر من 7 ملايين طالب وطالبة في عموم أنحاء العراق – عدا طلاب مدينة الموصل التي تخلف طلابها عن الدوام للعام الثالث على التوالي – وكانت المفاجأة للطلاب المحظوظين الذين التحقوا بالدراسة، عدم تسليمهم الكتب الدراسية المنهجية.
محمد إقبال وزير التربية العراقي قال: “تخفيض ميزانية التربية من 213 مليار دينار، إلى 75 مليار دينار أدى إلى حرمان أكثر من 5 مليون طالب من استلام الكتب”.
تخفيض الميزانية كان العذر الذي قدمته الوزارة لعدم توزيعها المناهج على الطلاب بسبب الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العراق.
تتزامن أزمة وزارة التربية مع الأزمة الاقتصادية التي يمر بها العراق والتي سببت تأخير صرف رواتب الكثير من الموظفين، لذا فالمتضرر الأكبر هم أهالي الطلاب الذين اتجهوا للسوق السوداء من أجل تأمين المناهج الدراسية بعد فشل الحكومة في ذلك.
يقارب سعر الكتاب المنهجي الواحد في السوق السوداء العشرة دولارات، وهو مبلغ ليس بالقليل، خاصة إن كان في العائلة أكثر من طالب، وسط كل هذا الاستياء الشعبي من الوزارة، فوجئ الناس بانتشار مقطع فيديو لمئات الأكداس من الكتب وهي ملقاة في الأوحال على الارض فيما يعتقد أنه معمل ورق البصرة، يصور أحد المارة رزم الكتب لنرى أنها جديدة كليًا و لم تستخدم من قبل.
وزير التربية محمد إقبال: “قامت لجنة من وزارة التربية بزيارة معمل ورق البصرة للتحقيق في الموضوع، وتبين أن المناهج الموجودة في المعمل هي كتب قديمة لمناهج دراسية قد تم تغييرها وأغلبها يعود إلى عام 2003”.
أنكرت وزارة التربية كون الكتب في الفيديو جديدة، وذكرت أن أغلبها من الطبعات القديمة التي لم تعد صالحة للاستخدام، نسبة إلى تغيير المناهج، في اليوم التالي لتصريح وزارة التربية، وتحديدًا في 11/1/2017، انتشر فيديو جديد للكتب نفسها، وهذه المرة يتنقّل المصور بين الكتب ويرينا صفحاتها ليتضح رقم الطبعة وتاريخ الطباعة (2016)!
وزارة التربية: “إن الأخبار المنشورة التي تفيد بأن الكتب جديدة عارية عن الصحة، وما هي إلا جزء من حملة رخيصة لاستهداف الوزارة وإعاقة إنجازاتها التي ساندت الكوادر التدريسية، والتلاميذ على حد سواء”.
قد تكون هذه الفضيحة فعلاً جزءًا من حملة ضد وزارة التربية أو تهدف للإطاحة بالوزير محمد إقبال – التابع للحزب الإسلامي السني – لكن المشكلة تكمن في أن هذه الفضيحة فضيحة روتينية مملة ولا جديد في الموضوع، فالوزير الحالي – بفضائحه – سار على نهج الوزراء السابقين – بفضائحهم -!
غيرت المناهج لأول مرة في الألفية الجديدة في 2003، عقب الحرب الأمريكية على العراق، وكانت التغييرات في البداية طفيفة شملت كتب التاريخ والتربية الإسلامية، وتغيير بعض المصطلحات هنا وهناك، فأضيفت فقرات تخص علماء دين شيعة، وألغيت فقرات تخص الرئيس الأسبق وحروبه.
في برنامج إذاعي في نهاية العام 2011، أعلن مدير تطوير المناهج في وزارة التربية: “إن عملية تغيير المناهج وصلت إلى مراحلها النهائية، والعام 2012 سيشهد الانتهاء من التحديث وذلك بعد مرور ثلاث سنوات على إعلان البدء بتغيير المناهج الدراسية بهدف جعلها مواكبة للتغييرات العلمية الحاصلة في العالم”.
كان من المفترض وفقًا لوزارة التربية أن المناهج غُيِّرت على مراحل وأن العام الدراسي 2012-2013 والأعوام التالية ستشهد ثبات في المناهج، مما سيؤهل الوزارة لتقييم نتائج التغيير الذي استغرقهم 3 أعوام، إلا أنه ومع تبديل الوزير والطاقم التربوي في 2014، جاء الطاقم الجديد بمناهج وأساليب جديدة، وتم البدء بتغيير المناهج مرة أخرى!
أن عملية تغيير المناهج مهمة ويمكن أن تكون نقطة تحول مهمة في مسار العملية التربوية في العراق، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الوزارة لا تأخذ وقتًا كافيُا لدراسة نتائج هذه التغييرات، فلم نجد مثلاً خطة خمسية للتقييم، بل على العكس من ذلك فإن التغييرات تحدث بكثرة وبسرعة تربك الطلاب والمدرسين معًا
مع أن عملية تغيير المناهج مهمة ويمكن أن تكون نقطة تحول مهمة في مسار العملية التربوية في العراق، إلا أن المشكلة الحقيقية تكمن في أن الوزارة لا تأخذ وقتًا كافيُا لدراسة نتائج هذه التغييرات، فلم نجد مثلاً خطة خمسية للتقييم، بل على العكس من ذلك فإن التغييرات تحدث بكثرة وبسرعة تربك الطلاب والمدرسين معًا، وتعطي انطباعًا سيئًا لدى الشارع بأن التغييرات عشوائية وفوضوية، بالإضافة إلى أنها تثير الشكوك بشأن الوزراء وغايتهم من هذه التغييرات، تعاقب خمسة وزراء على وزارة التربية منذ 2003، تمثل إنجازهم الوحيد جميعًا بتغيير المناهج، وطالهم جميعًا اتهام تقاضي عمولات كبيرة من المطابع، على حساب تغيير المناهج بطريقة غير مدروسة، وإهدار المال العام.
ومع أن الموضوع ليس بالجديد، إلا أن السنوات الخمسة الماضية شهدت تغييرًا كاملاً للمناهج وبطريقة مبالغ فيها، فعلى سبيل المثال لا الحصر، ألغي كتاب العلوم وأُتلفت نسخه للمرحلة المتوسطة الأولى، وأدرج عوضًا عنه كتابي الكيمياء والفيزياء للعام الدراسي 2013-2014، لتلغى هذا العام وتتلف نسخها ويعاد العمل بكتاب العلوم للعام الدراسي 2016-2017، بينما أُتلِفت هذا العام نسخ كتب القرآن والتربية الإسلامية، وطُبِع كتاب موحدٌ للمادتين لهذا العام، ولن تكون مفاجأة إذا أُتلِف هذا الكتاب في العام القادم، وتم العودة لفصل المادتين وطبعهما ككتابين مستقليّن.
كانت المأساة أكبر مع كتب أخرى كالرياضيات واللغة الإنجليزية، إذ إن الكتب الجديدة التي اعتمدت بعد 2003، تعتمد على نظام السلاسل، فكتاب اللغة الإنجليزية للصف الثالث المتوسط مثلاً، يعتمد بشكل كبير على المادة العلمية في كتابي الصف الثاني والأول المتوسط ويعتبر مكملاً لها، ومع التغييرات المستمرة، يكاد لا يوجد جيل واحد اليوم ومنذ 2003، قد أكمل أي سلسلة منهجية!
عدم توزيع الكتب والتغيير المستمر في المناهج يُعد من المشاكل البسيطة التي يعاني منها الطلاب إذا ما قورنت بمشكلة الامتحانات الوزارية، ونظام القبول المركزي في الجامعات، يعتمد مستقبل الطالب العراقي على العام الدراسي الأخير- أي الثاني عشر- الذي يقضيه في المرحلة الإعدادية، أما تحصيله في الأعوام الأحد عشر الماضية، أو رغبته وقدراته الفعلية، فليس لهما أي أثر في تحديد دراسته الجامعية، يخضع الطالب في نهاية عامه الثاني عشر في الدراسة لامتحان تديره وتشرف على تصحيحه وزارة التربية في بغداد، ومن الجدير بالذكر أن فضائح تسريب الأسئلة تتكرر كل سنة، وباتت في السنوات الأخيرة تنشر على وسائل التواصل الاجتماعي قبل الامتحان بساعات.
إذا ما نظرنا للمشاكل التي واجهت التعليم العراقي في السنوات الأخيرة، سنرى أن المشاكل في تفاقم ملحوظ والتعليم والخدمات التعليمية المقدمة في تراجع، كانت المشاكل المطروحة ما بعد 2003 تتعلق بتغيير بعض المناهج والمطالبة ببناء المزيد من المدارس، اليوم وبعد مرور 14 عامًا، أعلن وزير التربية في مؤتمر عقد في يوليو الماضي، الحاجة لبناء 20.000 مدرسة جديدة لكي يحصل كل طالب على مقعد دراسي!
نقص في الأبنية المدرسية ومعدل 60 تلميذًا في الفصل الواحد هذا واقع الغالبية من الطلاب العراقيين، وقدمت وزارة التربية خطة لبناء مدارس جديدة في 2006، أنجز منها 6% على مدار 8 سنوات، والحل البديل الذي ابتدعته الوزارة – في فترة حكومة المالكي (2006-2014) – جاء بتشييد المزيد من المدارس الطينية بعد أن كان عددها قليلاً وموجودًا في الأرياف النائية، أصبح لدينا اليوم في العراق 1000 مدرسة طينية.
بالإضافة للمدارس الطينية، هناك ظاهرة انتشرت في العراق في العامين المنصرمين، ظاهرة المدرسة الخيمة والمدرسة الكرفان التي خصصت للطلبة النازحين، منذ احتلال تنظيم داعش لمحافظات شمال العراق 2014، نزح الملايين نحو إقليم كردستان شمال العراق وبغداد وبعض المحافظات الجنوبية، وتقدر أعداد التلاميذ الذين حرموا من التعليم بسبب داعش بمليون طفل بحسب منظمة اليونيسيف، نصفهم في المخيمات، بينما النصف الآخر لا يزال تحت سيطرة التنظيم، فكان انتشار المدرسة الخيمة لطلاب المخيم، والمدرسة الكرفان للنازحين الأوفر حظًا من سكنة المدن.
مناهج غير مدروسة، نقص في المباني المدرسية، عدم تسليم المناهج للطلاب، تسريب الامتحانات الوزارية، ونظام القبول المركزي في الجامعات، هذا هو الواقع التعليمي المتردي في العراق.
المليارات التي خصصت لوزارة التربية في السنوات العشرة الأخيرة كانت كفيلة لتضمن للعراق مكانًا متقدمًا في التصنيف العالمي لجودة التعليم، إلا أنها وياللمفاجأة لم تضمن للعراق الوجود في المراكز الأخيرة ولا في القائمة من الأساس، بل ضمنت له تصدر عناوين الفضائح دائمًا وأبدًا.
كأن كل هذا لا يكفي، ليطالب علي الأديب عضو برلمان ووزير سابق، في إحدى جلسات البرلمان في يوليو 2016 بإلغاء مجانية التعليم، والبدء بتقاضي المال من الطلاب نظير الخدمات التعليمية التي توفرها الحكومة العراقية لشعبها، ليس من الغريب إذًا أن يكون قرار الوزارة الجديد إلغاء مجانية التعليم.