ترجمة وتحرير نون بوست
التقيت بـ”عبد الله الفخراني” في اليوم الأول من الانتفاضة المصرية ضد حسني مبارك، في كانون الثاني/يناير من سنة 2011م. وكانت الشرطة حينها تقوم بمهاجمة المحتجين، حيث تناثرت قنابل الغاز المسيل للدموع في الهواء، قبل أن تسقط بين الحشود. أما أنا فركضت، لكن ليس بالسرعة الكافية، لذلك لحقني أثر الغاز، وبدأت الدموع تنهمر على وجهي.
وبينما كنت ألهث، ظهر شاب بجانبي وساعدني لأبتعد عن الدخان، وأعطاني كوفيته البيضاء والسوداء، مشيرا لي بأن ألفها حول رأسي لأغطي أنفي وفمي.
وعندما أصبحت قادرة على التكلم مرة أخرى، سألته عن سبب تلبية عدد كبير من الناس دعوة الاحتجاج، فأجابني قائلا: “هذه هي نتيجة الضغوط التي تراكمت داخلنا بسبب الفساد والقمع، وبسبب عدم وجود حريات”. وعندما سقطت عبوات الغاز المسيل للدموع بالقرب منا، هربنا بعيدا.
كان شعر “الفخراني” سميكا ومجعدا، وكانت له لحية خفيفة، وأخبرني حين التقيته أنه كان يدرس الطب في جامعة “عين شمس”، لكنه لم يكن راضيا عن مجال دراسته. وكنت في ذلك الوقت أقوم بنقل ما يحدث في المظاهرات، وقبل أن أغادر لأكتب مقالاتي، أعطيته كوفيته.
وفي اليوم التالي، وجد “الفخراني” حسابي على (فيسبوك). وعلى مدى الأشهر القليلة التي أعقبت ذلك، التقينا في كثير من الأحيان؛ إذ عادة ما أجده في المستشفى الميداني خلال الاحتجاجات، حيث كان يرسخ تدريبه الطبي لعلاج الجرحى.
وبما أنه مولع بأن يكون جزءا من موجة التغيير التي تجتاح بلاده، قال إنه بدأ العمل مع مبادرة صحافة المواطنة “رصد”، والتي بدأت سنة 2010م، كصفحة على موقع (فيسبوك)، وذلك في محاولة لتحدي خطاب النظام الذي سيطر على وسائل الإعلام. وأصبحت هذه الصفحة تقدم خدمات إخبارية لمتابعيها، الذين بلغ عددهم الملايين، كما أصبح لها فروع في بلدان أخرى.
أما الآن، وبعد ست سنوات، يقبع “الفخراني” في زنزانة شمال القاهرة. وقد حكم عليه بالسجن مدى الحياة في سنة 2015م، ويخضع الآن لإعادة المحاكمة، بتهمة “نشر معلومات كاذبة والانتماء إلى منظمة محظورة”، و “تشكيل غرفة عمليات لتوجيه جماعة الإخوان المسلمين ضد الحكومة”.
وكنتيجة لذلك، أصبح “الفخراني” أكثر اكتئابا، بعد أن قضى أكثر من ثلاث سنوات في السجن، وهو يواجه الآن احتمال البقاء لعقود في سجن “وادي النطرون” الذي يقبع فيه الآن، حيث تدهور وضعه الصحي.
تجدر الإشارة إلى أن “الفخراني” هو واحد من بين 25 صحفيا على الأقل، يواجهون عقوبة السجن حاليا في مصر، بسبب عملهم، وذلك وفقا للجنة حماية الصحفيين
وبعد الانقلاب الذي نفذه لإبعاد “محمد مرسي” في سنة 2013م، بدأ “عبد الفتاح السيسي” أقسى حملة شهدتها مصر ضد الصحافة منذ عقود، حيث داهمت السلطات القنوات التلفازية، وقامت بإغلاقها، وفرضت رقابة على الصحف، واعتقلت الصحفيين بطريقة تعسفية. ومن الجدير بالذكر أنه قد تم قتل سبعة صحفيين، ستة منهم قُتلوا بالرصاص أثناء تغطية المظاهرات، ومن المؤكد -تقريبا- أنهم قتلوا على يد قوات الأمن. هذا إضافة إلى أن الصحفي السابع قد قُتل عند نقطة تفتيش لقوات الأمن أيضا، وفقا لحصيلة لجنة حماية الصحفيين.
ومع ذلك، فإن الصحفيين السجناء لا يَلقون اهتماما كافيا، خاصة أولئك الذين يعملون في وسائل إعلام متعاطفة مع “مرسي” و”الإخوان”، مثل “الفخراني”. وخلافا لصحفيي قناة الجزيرة الإنجليزية، الذين يحمل اثنين منهم جنسيات أجنبية، لم يكن هناك أي حملة عالمية لإطلاق سراح الصحفيين المصريين، ولم يتولّ أحد المحامين المشاهير قضيتهم، ولم يصرح أيّ دبلوماسي بأيّ شيء يتعلق بهم.
وفي رسالة كتبها “الفخراني” من داخل السجن سنة 2015م، قال: “كنت ساذجا -على الأقل في الأيام الأولى بعد أن تم اعتقالي- اعتقدت أن العالم سينتفض للدفاع عني”.
قلب سخي
في الشهر الذي تلا الانتفاضة، التقيت بـ”الفخراني” في المظاهرات، والتقينا أيضا في المقاهي؛ للحديث عن الانتفاضة المصرية. وكان يبدو عليه التحمس والتفاؤل، على الرغم من تزايد المؤشرات على أن المجلس العسكري الذي حل محل “مبارك” كان غير مهتم بالإصلاح الديمقراطي في مصر.
وعلى الرغم من أننا عرفنا بعضنا منذ نحو أربعة أشهر فقط، إلا أنني شهدت على كرم “الفخراني” للمرة الثانية. ففي آيار/مايو من سنة 2011م، تم تنفيذ هجوم على كنيسة “إمبابة”، وهي منطقة مكتظة وشوارعها ضيقة. وأصبح هناك توتر في تلك المنطقة بعد هذا الهجوم. وكما سبق ونقلت، كنت أنا واثنين من زملائي، وكان هناك رجلان يلاحقاننا. فشعرنا بأنّ الوضع أصبح خطرا، وقبل أن نجد مكانا آمنا، تضاعف عدد الذين يلاحقوننا، وأصبحوا حشدا. وقبل أن يتمكنوا من الإمساك بنا، دخلنا زاوية ووجدنا مجموعة من الجنود الذي كانوا يؤَمنون المنطقة، وسمحوا لنا أن نختبئ قربهم. وبذلك أصبحنا في مأمن.
لكنني بقيت محاصرة في “إمبابة”، وأدركت أنه سيكون من الصعب أن أخرج منها وحدي، فقمت بالاتصال بـ”الفخراني”، وشرحت له وضعي، فقال لي: “إبقي هناك، أنا قادم الآن”. وفي غضون نصف ساعة، وصل واصطحبنا إلى مكان آمن.
إن معظم أصدقاء “الفخراني” لهم قصص مشابهة؛ فقد مكنته شخصيته الجذابة من تكوين شبكة صداقات واسعة، الأمر الذي كان مفيدا بالنسبة لشبكة إخبارية مثل “رصد”، إذ كان دور “الفخراني” الرئيسي هو تواصل الشبكة مع مجموعات خارجية، مثل وكالات الأنباء التركية والألمانية، التي عملت مع الشبكة ودربت صحفييها، وقد سافر “الفخراني” في مناسبات عدة للمشاركة في مؤتمرات ودورات تدريبية في الخارج. كما عمل “الفخراني” على نشر معلومات عن التطورات في مصر في صفحات “رصد”، بما في ذلك صفحات (فيسبوك) و(تويتر)، والرسائل النصية للمشتركين في شبكة الهاتف المحمول.
وسرعان ما أصبح “الفخراني” من الأعضاء الرئيسيين في فريق “رصد”، حتى خلال مواصلة دراسته في مجال الطب. وكان يعمل بشغف، وبابتسامة عريضة، حيث قال “خالد نور الدين”، أحد مؤسسي “رصد” ومديرها التنفيذي، متحدثا عن “الفخراني”: “كان يأخذ دائما زمام المبادرة، ويمضي قدما، ويبحث عن فرص جديدة”.
وقد شهدت رصد نموا سريعا. فقبل انتفاضة سنة 2011م، كان فريقها الأساسي يتكون من 22 شخصا، وكانوا ينشرون أخبارا يكتبها متطوعون في جميع أنحاء البلاد. ثم نجحت الشبكة في جذب 300-400 ألف متابع على (فيسبوك)، وارتفع هذا العدد إلى أربعة ملايين، خلال انقلاب حزيران/يونيو سنة 2013م، وذلك وفقا لـ”نور الدين”. أما الآن، فهناك 10 ملايين متابع للصفحة.
ويعمل “نور الدين” الآن من تركيا، أما الصحفيون في مصر، فهم لا يستخدمون أسماءهم، حيث قال “نور الدين” إنّ تسعة صحفيين على الأقل من فريق “رصد” هم في السجن الآن. كما أنّ بعض أعضاء فريق “رصد” ينتمون إلى “جماعة الإخوان المسلمين”، إلا أن “الفخراني” أخبرني أنه لم يكن عضوا في الجماعة، وهو ما أكده لي “نور الدين” نفسه، حيث قال إنه لا توجد أي علاقة بين “رصد” و”جماعة الإخوان المسلمين”. إلا أنّ التغطية التي تقوم بها الشبكة كانت متعاطفة مع الأحزاب الإسلامية، التي هيمنت على الانتخابات المصرية بعد الثورة، ومتعاطفة أيضا مع “مرسي”.
وكان “مرسي” أول رئيس منتخب في تاريخ مصر، وقد فاز بفارق صغير عن المرشح الذي كان مرتبطا بنظام مبارك المخلوع “أحمد شفيق”. وجاء هذا الفوز بعد استيلاء القوات العسكرية على جزء كبير من السلطة، حيث قاموا بحل البرلمان الذي يقوده الإسلاميون. إلا أن زعيم “الإخوان المسلمين” الذي أصبح رئيسا، بدا عليه عدم الكفاءة من خلال طريقة حكمه، هذا إضافة إلى العداء الذي تكنه له مؤسسات الدولة والصحافة. كما أن خطابه الطائفي، وخطاب أهم مؤيديه سبّب نفور عدد كبير من غير الإسلاميين. وبحلول صيف سنة 2013م، وصل “مرسي” إلى طريق مسدود، وأصبح الشعب والإعلام المصري ضده.
“الفخراني” في جامعة “عين شمس” في القاهرة، حيث درس الطب.
حُـب … على خط النار
بينما كانت البلاد حوله تختار توجهها، وقع “الفخراني” في الحب. ففي إحدى ورشات عمل رصد في آيار/مايو سنة 2013م، تعرّف “الفخراني” على فتاة سافرت من بلدها، لتشارك في ورشة العمل. وسرعان ما وقع كلاهما في الحب، فقد اعتبرت الفتاة أن “الفخراني” ذكي ومنفتح ومحترم، وأنها أحبت أنه “كان دائما مبتسما”. أما “الفخراني” فقد “فُتن” بها، كما ورد على لسان “محمد سلطان”، الناشط الذي كان مسجونا مع “الفخراني” لأكثر من سبعة أشهر. وسرعان ما بدأ الثنائي في إجراء محادثات طويلة كل يوم، بعد جلسات ورشة العمل. وقبل يوم واحد من مغادرتها القاهرة، فاجأ “الفخراني” الفتاة بأن عرض عليها الزواج. لكنها لم تعطه جوابا حينها، إلا أنهما استمرا في الحديث بشكل يومي، واتفقا أن يزور “الفخراني” عائلتها في آب/أغسطس 2013م؛ ليتعرف عليهم، وهي الخطوة التي تعد أساسية لطلب يدها.
إلا أن مسار السياسة المصرية لم يسمح بذلك. ففي نهاية شهر حزيران/يونيو من ذات العام ، تظاهر مئات الآلاف من المصريين في جميع أنحاء البلاد، مطالبين باستقالة “مرسي”. وبعد أيام، سيطر السيسي -وزير الدفاع حينئذ-على البلاد.
وقد رحب العديد من المصريين باستيلاء الجيش على السلطة، قائلين إنه ليس “انقلابا” بل “ثورة”، وواصفين أنصار “مرسي” بأنهم إرهابيون. إلا أن “الفخراني” اعتبر ما حدث ضربة للديمقراطية في مصر، وانتقدت “رصد” هذا الانقلاب بشدة.
وتم في تلك الفترة تشكيل معسكَري احتجاج كبيرين في العاصمة. وامتلأ المعسكران بآلاف المحتجين، الذين قالوا إنهم سيبقون إلى حين عودة “مرسي”. مع الإشارة إلى أن عددا كبيرا من هؤلاء هم من الإسلاميين، وكان خطابهم ناريا وطائفيا، كما أنهم ألقوا اللوم على المسيحيين في الانقلاب، ملمحين إلى إمكانية حدوث أعمال عنف إن لم يعد الرئيس “مرسي”. وكان أعضاء من “جماعة الإخوان المسلمين”، التي كانت تحت الحصار بسبب النظام الجديد، هم الدعائم الأساسية للاعتصامات.
وقد ساعد “الفخراني” في تصوير فيديو في ميدان “رابعة”؛ فقد أحس، هو و”سلطان”، أن وسائل الإعلام الأجنبية تصور المتظاهرين على أنهم من أنصار “الإخوان” الغاضبين، وليسوا مواطنين مصريين محتجين على استيلاء غير ديمقراطي على السلطة من قبل الجيش. ولم يكن المواطن الأمريكي المصري “سلطان”، الذي ترعرع في الولايات المتحدة، عضوا في جماعة “الإخوان المسلمين”، على الرغم من أن والده كان أحد كبار قادتها. وقال سلطان إن “الفخراني” تحدث مع الصحفيين الأجانب الذين يعرفهم، وحثهم على تغطية الاحتجاجات.
وفي يوم 14 آب/أغسطس 2013م، شنت قوات الأمن هجوما على “رابعة العدوية” دام 12 ساعة، وقُتل فيه أكثر من 1000 شخص، أغلبهم من المتظاهرين العزل، وذلك وفقا لتقرير “هيومن رايتس ووتش”. وكان “الفخراني” حاضرا خلال الهجوم، إلا أنه تمكن من الهرب، بعد أن أصيب إصابة خفيفة في ذراعه، وقد شهد على أسوأ مراحل المذبحة.
وفي ذات السياق، قال “عبد الرحمن”، شقيق “الفخراني”، إن مئات الجثث تراكمت بينما كان المتظاهرون يحاولون إيجاد مخرج، إلا أنّ قوات الأمن سيطرت على كل المنافذ.
وفي الحقيقة، فإن النظام الجديد أعلن الحرب على “جماعة الإخوان المسلمين” أساسا، وأيضا على أولئك الذين انتقدوا الانقلاب. ولذلك، فقد شرع في تنفيذ حملة اعتقالات واسعة النطاق، ونجح في اعتقال أعضاء من الجماعة، إضافة إلى صحفيين ومؤيدين للإسلاميين، ومتظاهرين ونشطاء آخرين.
وفي الحقيقة، قضى “الفخراني” و”سلطان” 10 أيام بعيدا عن منازلهم، في محاولة لتجنب موجة الاعتقالات. فبقي كلاهما مع اثنين آخرين: “سمحي مصطفى/رصد”، و”محمد العدلي/أمجاد تي في”، في شقة ظنوا أنها آمنة. وكان “الفخراني” حينها بصدد تجميع لقطات ومعلومات عن عمليات القتل التي وقعت في رابعة العدوية، وذلك لفائدة “الشبكة الأوروبية المتوسطية لحقوق الإنسان”.
إلا أن هروبهم لم يدم طويلا، وذلك بسبب حاجة “سلطان” لملابس داخلية نظيفة. فقد اشترى أصدقاؤه ملابس بينما كانوا في حالة فرار، إلا أنه لم يشتر؛ لأنه لم يكن يعرف مقاسه في مصر؛ بما أنه ترعرع في الولايات المتحدة وزار مصر في الصيف فقط. فاتجه الشّبان الأربعة إلى شقة والدي “سلطان”، لأخذ بعض الملابس النظيفة، إلا أنهم اختاروا توقيتا خاطئا؛ فبينما كانوا في الشقة، اقتحمت الشرطة المكان بحثا عن والد “سلطان”، الذي لم يكن موجودا في المنزل حينها، إلا أنّ الشرطة ألقت القبض على الشبان الأربعة.
عندما رأت صديقة “الفخراني” الخبر في (فيسبوك)، لم تصدق الأمر. فقد كان الاعتقال قبل أسبوع واحد من موعد لقائه بعائلتها. وقالت: “ثم بدأت أفكر، كم من يوم سيستغرق الأمر؟ كنت أفكر، هل ذهب وراء الشمس؟”.
وقد أعطاها “الفخراني”، قبل أيام قليلة من اعتقاله، كلمة السر لكل حساباته على مواقع التواصل الاجتماعي، تحسبا لما قد يحدث. فقامت بإغلاق كل هذه الحسابات؛ لتمنع الشرطة من استخدام التصريحات التي أدلى بها في هذه الصفحات، وأضافت: “ومن ثم بدأت في البكاء إلى أن طلعت الشمس”.
خلف القضبان
عقب ستة أشهر من اعتقال “الفخراني”، كنت أتصفح صفحتي على (فيسبوك)، وما صعقني هو أنني رأيت شيئا نشر على حسابه. فقد كنت أتابع قضيته في وسائل الإعلام، وفي ذلك الوقت كان محتجزا “احتياطيا”. ولذلك تساءلت كيف يمكنه نشر أي شيء على حسابه الخاص به من داخل السجن.
سارعت لإرسال رسالة له، أتساءل فيها عما إذا كان قد تم الإفراج عنه. وبعد ستة أيام أجابني “كلا، لا زلت في السجن” مرفقا جوابه برسم الوجه السعيد، كما أضاف “لدي هاتف ذكي في الزنزانة”. رغم ذلك لم أقتنع أنه هو من يخاطبني، وتساءلت عما إذا كانت أجهزة الأمن المصرية قد اخترقت حسابه. بدأ بعد ذلك بتقديم إثباتات وبراهين، ليؤكد لي أنه هو من يتواصل معي؛ مثل تذكيري بالمقهى الذي كنا نلتقي به، ولكن رغم ذلك لم أقتنع تماما بكلامه، فسألني “ماذا تريدين لتصدقيني؟”. ثم أرسل لي “الحصان في ميدان التحرير، أثناء حرب الجمل”.
وكان يقصد الحادثة التي وقعت في فبراير 2011م؛ حين أرسل النظام رجالا يمتطون الخيول والجمال، لاقتحام ميدان التحرير، في محاولة منهم لإبعاد المتظاهرين، وقد آتت هذه العملية أكلها. وفي اليوم التالي، التقيت بـ”الفخراني” هناك، وفي زقاق مظلم بالقرب من المستشفى الميداني، وجدنا حصانا ترك عقب انتهاء العملية. بدا على الحيوان الإرهاق والتعب، وكان رأسه يتدلى نحو الشارع فقمت أنا و”الفخراني” بمداعبة أنفه، وشعرنا بالأسف عليه.
وأخيرا، اقتنعت بأن “الفخراني” هو من يتحدث معي، ولذلك بدأنا الدردشة، وبدا لي أنه متقبل لوضعه؛ إذ إنه كان يستعمل “رموز المشاعر” ليشير إلى العقوبة المفروضة عليه.
الوصف: “الفخراني” و”سلطان” في زنزانتهما، في “طرة”، في خريف سنة 2013م، قبل أن يدخل “الفخراني” في إضراب عن الطعام.
ووفقا لـ”سلطان” فإن “الفخراني” حافظ على تفاؤله وسخائه طوال الأشهر السبعة الماضية، التي قضاها معه في السجن.
قبضت قوات الأمن على “سلطان”، وفي “حفلات الاستقبال” التي تقيمها الشرطة للمعتقلين الجدد -كما هو معروف في مصر- كُسرت يد “سلطان”، وعندما حاول “الفخراني” حماية صديقه المصاب، تعرض هو بدوره إلى الضرب المبرح.
قال “سلطان”: “كنا ملقيان على الأرض، وكان المساعدون يدوسون علينا ويضربوننا. وفي محاولة منا لحماية أنفسنا كنا تلقائيا نتخذ وضعية الجنين. بعد كسرهم ليدي، كان عبد الله يتنقل هنا وهناك، وذلك ليتلقى الضربات بدلا عني ويحول دون أن يعيدوا ضربي على يدي”.
كان “الفخراني” بارعا في توطيد علاقاته مع المساجين والحراس، على حد سواء، وذلك ليحظى ببعض الراحة هو وأصدقاؤه في الزنزانة. استطاع “الفخراني” الحصول على أحد الهواتف المهربة، كما استطاع حياكة خطة جريئة ليحصل على “كمّاشة”؛ ليجري عملية جراحية لذراع سلطان، للتخفيف من الآلام الشديدة التي كان يشعر بها. ولذلك كان يعرف بترحابه بالمساجين الجدد، وإيجاد سبل لهم، لتوفير حاجياتهم الأساسية.
بعد حوالي شهر من اعتقاله، أرسل “الفخراني” أول رسالة إلى صديقته، حيث كتب لها بعض الأبيات من إحدى الأغنيات الإسلامية القديمة “على الرغم من أن القدر فرقنا، القلب أرضكم، والحب يتوق إليكم”. وفي وقت لاحق من تلك الليلة، اتصل “الفخراني” ب صديقته، ولأول مرة قالت له “اشتقت لك” فضحك “الفخراني”، ورد عليها “هل كان عليّ أن أُعتقل لتقولي بأنك تشتاقين لي”. على الرغم من أنها في ذلك الوقت لم توافق على عرض الزواج، إلا أنها قررت أن تواصل معه المشوار، ومن ثم قررت الزواج به. حيث صرحت لي “إنه خياري”.
في الأشهر الأولى، كان “الفخراني” يتصل بها مرة في الأسبوع، وعندما استأجر -برفقة زملائه في الزنزانة- هاتفا محمولا مهربا من سجين أخر، بمبلغ يقدر بـ45 دولارا لليلة الواحدة، كان يهاتفها باستمرار، وقالت إنه كان دائما يخبرها أنه سيخرج سريعا، خاصة أنه صحفي؛ فلن تسكت كل المنظمات ووسائل الإعلام عن المظلمة التي ارتكبت في حقه.
وبحلول فبراير سنة 2014م، تمكن “الفخراني” وزملاؤه في الزنزانة من الحصول على هاتفين، ومنذ ذلك الوقت أصبح يتواصل مع صديقته بشكل يومي. ولكن كانت هذه الخطوة بمثابة مخاطرة؛ ففي إحدى المرات اكتشف الحراس الهاتف، أمضى “الفخراني” عقبها10 أيام في زنزانة التأديب؛ وهي أن يتم وضع 10 مساجين في زنزانة مخصصة للحبس الانفرادي، كما يتم حرمانهم من الأغطية والملابس والأسرّة.
ووفقا لـ”سلطان”، كان “الفخراني” في الأشهر الأولى من الاعتقال، يصارع من أجل أخذ القرار النهائي المتعلق بمستقبله مع صديقته؛ إما أن يواصل معها، أو أن ينهي العلاقة، فهو يواجه احتمال البقاء عقودا وراء القضبان. كان “الفخراني” على دراية كاملة بأنّ إنهاء العلاقة هو الحل الأنسب والمنطقي، “لكن قلبه لم يطاوعه”، فرغم محاولاته العديدة للحديث معها في الموضوع، إلا أنه لم يستطع، وهي أيضا، كانت حبها له يزيد في كل يوم يمر عليها.
الزج بالصحفيين في السجن
وتعرف قضية “الفخراني” إعلاميا بمحاكمة “غرفة عمليات رابعة”. وبالإضافة إلى “عبد الله”، كان هناك ما يفوق 50 شخصا، ممن لهم خلفيات ومرجعيات مختلفة، وُجهت لهم نفس التهم. كان على الأقل خمسة منهم صحفيين وقادة سابقين من “جماعة الإخوان المسلمين”، مثل “محمد بديع” المرشد العام للجماعة في سنة 2013م.
في الواقع، كان إدراج قيادات “الإخوان” في قضية الصحفيين محاولة جلية من قبل النظام لجعل قضيتهم تتلطخ بجنون مكافحة “الإخوان” التي اجتاحت مصر غداة الانقلاب. وفي هذا الصدد صرحت “ياسمين شرم الرفاعي”، التي كانت لوقت ليس ببعيد تعمل لصالح “لجنة حماية الصحفيين” في الشرق الأوسط وشمال إفريقيا: “إنهم كانوا يحاولون تشكيل الرأي العام وفق رغباتهم. فقد كانوا يريدون الخروج من موجة الصخب التي أعقبت حملة القمع”.
حظرت المحكمة المصرية حركة “جماعة الإخوان المسلمين” في أيلول/سبتمبر2013م. ومنذ ذلك الحين، اعتقلت الحكومة الصحفيين والسياسيين المنتمين للجماعة، وهذا وفقا لـ”لجنة حماية الصحفيين”.
اتهم “الفخراني” بـ”الانتماء إلى منظمة محظورة، ونشر أخبار كاذبة، وحيازة جهاز اتصال لاسلكي، وتشكيل “غرفة عمليات” لتوجيه جماعة “الإخوان المسلمين” للعمل ضد الحكومة أثناء فض اعتصام رابعة”.
وكباقي المحاكمات السياسية المصرية الأخرى، لم يقدم الادعاء إلا بعض الأدلة الواهية، ليدعموا التهم التي وجهوها للصحفيين. وكان الدليل الوحيد المقدم ضد “الفخراني” مجرد محضر استجوابه من قبل ضباط أمن الدولة. وأنشأت المحكمة لجنة فنية من الخبراء، لتقييم الصور ومقاطع الفيديو التي يقول العديد إنها ملفقة، لكن اللجنة خلصت إلى أنها لم تكن كذلك.
كان القاضي الرئيسي الموكل بالبت في القضايا “ناجي شحاتة”، الذي يتمتع بسمعة سيئة؛ إذ إنه حكم بإدانة الصحفيين التابعين لقناة “الجزيرة”، كما أنه حكم بالإعدام على مجموعة من المعارضين في السنوات الأخيرة.
وفي هذا الشأن قالت “الرفاعي” إن المحامين عندما قدموا حججهم للدفاع عن موكليهم “أدلى القاضي بتصريحات، قال فيها بأنه مقتنع بأن المتهمين مذنبون. وهذا يعطيك لمحة عن المظالم التي ترتكب”.
لم ينتظر شحاتة جميع المحامين لينهوا مرافعاتهم وأصدر في نيسان/أبريل 2015م حكما، أدان فيه جميع المتهمين، الذين بلغ عددهم 51 متهما. ومن بينهم 14 متهما، حكم عليهم بالإعدام، ونجد من بينهم “بديع”، ووالد “سلطان” الذي اتهم بالتخطيط لهجمات ضد الدولة. وحكم على الآخرين، بما في ذلك “الفخراني” بالسجن مدى الحياة، وفي مصر يقدر السجن مدى الحياة بـ25 سنة.
بعد صدور الحكم بسجنه مدى الحياة، كَتَبتُ لـ”الفخراني” على (فيسبوك) “على الأقل لا تزال تستطيع الوصول إلى الإنترنت” فأجابني: “أنا لن أتخلى عن المواجهة… وفي النهاية، سأنال حريتي من جديد… سنة أو سنتان أو حتى ثلاث سنوات، في النهاية سأنال حريتي، وذلك لأن تهمتي ملفقة … ليس هناك أي دليل يدينني، وبالتالي، فالحكم سيُلغى عما قريب”.
وعموما، كان “الفخراني” على حق، ففي كانون الأول/ديسمبر2015م، ألغت محكمة الاستئناف الأحكام الصادرة ضده، بسبب عدم كفاية الأدلة، وأمرت بإعادة المحاكمة. وفي المحاكمة الثانية، التي بدأت في شباط/فبراير، قال محامي “الفخراني”، “أحمد حلمي”، إنّ النيابة العامة لم تقدم أي دليل ضد “الفخراني”، ليُحفظ سجل استجوابه.
أفضل سنوات حياتك
يعيش والدا “الفخراني” في شقة في الطابق الخامس من مبنى يقع على هضبة صحراوية خارج القاهرة. عندما زرتهم في شباط/فبراير سنة 2016م، كانت والدته تستعد لزيارته في اليوم التالي. كان المطبخ رأسا على عقب، فأمه أمضت يوما كاملا تطبخ لولدها. إذ إنّ السجناء غالبا ما يعتمدون على الأكل الذي تجلبه لهم عائلاتهم.
عائلة “الفخراني” كانت تحضر له ما يقارب 20 رطلا من اللحم البقري، أو 12 عشرة دجاجة مشوية؛ لإطعام ابنها ورفاقه في الزنزانة. أما والده “أحمد”، فقد كان يرتدى قبعة من الفرو، ويفرك يديه بسبب البرد القارس. وفي آخر زيارة له، أخذ والداه معهما ثيابا شتوية لابنهم ولزملائه، وعندما وقعت الثياب في أيدي الحراس، قال أحدهم: “أوه، هذه الثياب جميلة جدا”. وهو ما يشي بأنهم سيأخذون البعض منها لأنفسهم.
في يناير/كانون الثاني 2016م، كانت حالة “الفخراني” من سيء إلى أسوأ؛ فقد تم نقله من سجن “طرة” إلى سجن “وادي النطرون”؛ ليبعدوه عن رفاقه، وليواجه ظروفا قاسية. رفض الحراس، قطعيا، السماح لوالديه بجلب المواد الغذائية والملابس له، وفي بعض الأحيان حرموهم حتى من رؤيته. كما أكد أنه لم يستطع الحصول على هاتف ليتصل بعائلته وصديقته.
وفي فترة جلسات الاستماع، نُقل “الفخراني” إلى سجن “العقرب”، سيء السمعة، وهو عبارة عن مرفق يخضع لحراسة مشددة، مع ظروف قاسية وبائسة.
وفي “العقرب” تدهورت حالته العاطفية بشكل حاد، وقال والده أنه “في أخر مرتين زرناه فيها كان حزينا جدا، فقد كان يبكي كثيرا. وقال لنا أنه لا يريدنا أن نزوره ونراه وهو تعيس”.
صرح “سلطان”، الذي أفرج عنه سنة 2015م ،عقب دخوله في إضراب عن الطعام وتنازله عن جنسيته المصرية، أنّ السجن “بمثابة مقبرة لأي شخص يقبع فيه”، وحصولك على هاتف يكون بمثابة “حصولك على شريان الحياة”. ومن دونه لجأ “الفخراني” إلى تهريب الرسائل.
وقال “سلطان” إن الجزء الأصعب من السجن “هو مرور أفضل سنوات حياتك أمامك، فتحس بأنها سُلبت منك وأُهدرت، فبدلا من إحراز التقدم في حياتك المهنية، وإقامة علاقات جديدة، والزواج والإنجاب، تجد نفسك بين أربعة جدران. وأظن أن هذا الشعور هو الذي زاد من سوء حالة “عبد الله”. فلم يتوقع أي أحد أنه سيظل كل هذا الوقت في السجن؛ فالكل ظنّ بأنها مجرد حملة وستنقضي”.
في الواقع، تعج سجون مصر بالمساجين، والآلاف منهم من المساجين السياسيين، الذين اعتقلوا منذ الانقلاب الذي حصل سنة 2013م. وفي التقرير الصادر عن “الشبكة العربية لمعلومات حقوق الإنسان” ومقرها القاهرة، فإن قرابة 60 ألف سجين سياسي يقبع حاليا في سجون مصر.
بالتالي، فإن القمع الدموي الذي تمارسه الحكومة يغذي تمرد الجهاديين، وهو ما دفع البعض للتفكير بأن السجن الجماعي للمعارضين مع المتطرفين الإسلاميين، يمكن أن يجعل السجون المصرية أرضا خصبة لظهور موجة جديدة من الجهاديين. ولكن هذه ليست حالة “الفخراني”، ففي الرسالة التي كتبها بخط اليد، والتي تسلمتها في تشرين الأول/أكتوبر الماضي قال “الفخراني” إنّ التغييرات التي يواجهها في السجن ليست واضحة، ولن تكتشف إلا عقب إطلاق سراحه. لكنه مر ببعض “التحولات النوعية”، فالأيام التي قضاها في السجن علمته أنّ “الحرية هي الحياة، وهي تستحق الكفاح من أجل الظفر بها”.
الوصف: الصورة التي أرسلها “الفخراني” لـ”سلطان” من زنزانته في سجن طرة في نيسان/أبريل 2015م، غداة حكم المحكمة عليه بالسجن مدى الحياة.
كما أضاف “تخيل أنك تمر… بهذه التجربة الاجتماعية لثلاث سنوات متتالية، في غرفة صغيرة مع 30 شخصا، يمثلون جميع الأطياف الاجتماعية. والمثير للدهشة هو أن السجن علمني كيف أتعامل مع الأشخاص، بغض النظر عن التسلسل الهرمي الاجتماعي”.
في أيلول/سبتمبر2016م، دخل “الفخراني” في إضراب عن الطعام، وبقي يعيش على الماء والسكر، وذلك احتجاجا على عدم حصوله على العلاج الطبي اللازم، إذ إنه كان يعاني من تورم في ساقه، وهو ما صعّب تحرّكه. وفي رسالة كتبها في أواخر أيلول/سبتمبر قال إن المسؤولين في السجن رفضوا الطلب الذي قدمه بضرورة نقله إلى المستشفى، لتشخيص المرض الذي يعاني منه. وبعد دخوله في إضراب عن الطعام، انخفض وزنه من 175 رطلا إلى حوالي 110 أرطال فقط.
أما في الرسالة التي كتبها لصديقته في أوائل شهر تشرين الثاني/نوفمبر، فقد أخبرها بأنه قد كسر الإضراب جزئيا، وذلك ليأخذ مسكنات الألم، وبسبب تدهور حالته الصحية، أوقف “الفخراني” إضراب الجوع في بداية شهر أيلول/سبتمبر.
كان للسجن تأثير كبير على “الفخراني”، إذ قال لي في الرسالة التي كتبها في تشرين الأول/أكتوبر “قبل ثلاث سنوات، لم يكن الإفراج عني من أولوياتي، بل كنت أطمح في استرداد الشعور العام بالحرية من جهة، وبحرية الرأي والتعبير من جهة أخرى. لكن، بعد ثلاث سنوات من السجن غير القانوني… أكبر آمالي هو أن يطلق سراحي، أن أتحرر من المظالم والظالم، على الرغم من أنني أعلم جيدا أن خروجي من السجن لن يمنحني الحرية التي أطمح إليها، والتي كنت أتمتع بها سابقا”.
من جانب أخر، فإنّ الصراع الذي يخوضه “الفخراني” لم ينقص من حماسته؛ فقد كتب: “بشكل غير متوقع، ورغم كل الصعاب، الثورة المصرية لا تزال سائدة في روح الشباب المصري. إنّ النظام ما زال يشعر بالتهديد؛ فالشباب المصري مستعد في أي لحظة ليقيم انتفاضة جديدة”.
على الرغم من أن اليوم الذي سيسقط فيه النظام في مصر يبدو بعيد المنال، إلا أن “الفخراني” قال بأنه يتطلع إلى المستقبل على أمل أن يحقق انتصارا شخصيا وسياسيا. فخلال فصل الصيف، كتب “الفخراني” شاكرا “سلطان”: “إن القلم غير قادر على وصف مشاعري في هذه اللحظة. فمشاعري مختلطة بالفرح والسعادة. السعادة لأنك حر طليق، وتستطيع الزواج، بينما أنا ما زلت مسجونا. والفرح لأن الله باركك”. كما سأل الله أن “يمن عليه بالحرية في أقرب وقت ممكن، وأن يسمح له بالزواج من الفتاة التي أحبها” وأنهى رسالته برمز الوجه السعيد.
المصدر: فورين بوليسي