وصف البنك الدولي الاقتصاد العراقي بـ”الهش” في آخر تقرير صادر عنه، وذكر أن ديون البلاد زادت إلى نحو 152 مليار دولار، ومزاد بيع العملة التابع للبنك المركزي العراقي تسبب بإعادة توجيه العملة الصعبة إلى السوق الموازية بما أدى إلى خفض قيمة الدينار مقابل الدولار.
أوضح التقرير الصادر أن الاقتصاد العراقي يواصل تعافيه مدفوعًا بالطفرة النفطية، وذلك بعد الركود الحاد الناجم عن جائحة كورونا عام 2020، فيما لا تزال القطاعات غير النفطية تعاني من الكساد، فضلًا عن بروز معوقات النمو مجددًا.
رغم جني العراق إيرادات نفطية قياسية غير متوقعة، وإقرار الموازنة المالية الجديدة التي طال انتظارها، لا يزال العراق عرضة لتفويت فرصة المضي قدمًا في تنفيذ الإصلاحات الملحة التي طال انتظارها، وتعتبر بالغة الأهمية من أجل تعزيز نمو القطاع الخاص، وتوفير ملايين الوظائف المطلوبة على مدى السنوات العشرة القادمة، بحسب التقرير.
مخاطر كبيرة
بين البنك الدولي من خلال بيانات فصلي الربيع والصيف من العام الحاليّ 2023 لتقرير المرصد الاقتصادي للعراق الذي جاء تحت عنوان “الضغوط تعاود الظهور: التعافي في العراق على المحك”، أن إجمالي الناتج المحلي الحقيقي ارتفع بوتيرة متسارعة إلى 7% في عام 2022 مدفوعًا بالطفرة التي شهدها القطاع النفطي، بيد أنه انخفض إلى 2.6% على أساس سنوي في الربع الأول من العام الحاليّ.
أما معدل تضخم أسعار المستهلكين، الذي كان عند مستويات متوسطة في 2022، ارتفع هو الآخر في أوائل العام الحاليّ بسبب انخفاض قيمة الدينار العراقي في السوق الموازية (السوداء)، حيث أدت ديناميكيات سوق النفط المواتية في الأشهر التسع الأولى من عام 2022 إلى ارتفاع إجمالي الاحتياطات، باستثناء الذهب، إلى مستوى قياسي قدره 89 مليار دولار، غير أن هذا الاتجاه شهد تباطؤًا في أوائل عام 2023.
بحسب البنك الدولي أيضًا، فإن موازنة العراق للسنوات 2023-2025 التي تم إقرارها في يونيو/حزيران الماضي، أشارت إلى ازدياد الإنفاق العام بما قد يؤدي إلى استنزاف سريع للعائدات النفطية غير المتوقعة، وبالتالي الضغط على المالية العامة، فضلًا عن أن التوسع في الإنفاق قد يتسبب بإرجاء الإصلاحات الهيكلية المطلوبة منذ وقت طويل واللازمة لتطوير وتنمية اقتصاد حيوي ومستدام في العراق.
وذكر أن “الموازنة السنوية التي أقرتها السلطات العراقية شهدت زيادة مفرطة بحجم النفقات العامة بنسبة 59% مقارنة بالموازنة السابقة، التي تمثّل 74.3% من إجمالي الإنفاق، ما سيؤدي إلى عجز مالي كبير قدره 51.6 تريليون دينار عراقي (39.7 مليار دولار) بما يمثل نحو 14.3% من حجم الواردات العامة، أي أكثر من نصف الاحتياطيات القياسية الأخيرة التي تراكمت في أعقاب الطفرة في أسعار النفط.
بعد 20 عامًا على الغزو الأمريكي للبلاد، لا تزال الحكومة تعتمد على مزاد بيع العملة، رغم أن هذه الآلية غير متبعة في جميع دول العالم
من جانبه، يقول أستاذ الاقتصاد في جامعة المعقل بالبصرة إن هناك العديد من السلبيات التي اعترت الموازنة العامة للبلاد للأعوام (2023-2025)، مشيرًا إلى أنها تتمثل بحجم الموازنة الكبير الذي سجّل العجز الأكبر على الإطلاق، إضافة إلى أن تمويله سيكون عبر الاقتراض الداخلي والخارجي بنسبة 66%، بما سيتسبب بزيادة المديونية المسجلة على الحكومة الحاليّة والحكومات القادمة، وفق المرسومي.
قد لا تكون هذه المشكلة الوحيدة في الموازنة الثلاثية، إذ يضيف المرسومي أن ما وصفه بـ”الأعباء الثابتة” المسجلة تشمل الرواتب واستيراد الغاز والرعاية الاجتماعية وتكاليف جولات التراخيص النفطية التي تناهز 99 مليار دولار، مشيرًا إلى أن المعضلة تتمثل بعدم إمكانية تخفيض هذه الأعباء خلال العامين القادمين، فالموازنة اعتمدت على تصدير النفط بنسبة 90% في ظل القيود المفروضة على البلاد لأجل عدم زيادة الإنتاج وفق الاتفاقيات المبرمة مع مجموعة “أوبك بلس”، وإيقاف تصدير النفط عبر إقليم كردستان إلى ميناء جيهان التركي الذي يقدر بنحو 400 ألف برميل يوميًا.
إفراط في الإنفاق
أشار الخبير الاقتصادي محمد الحمداني إلى أن تكبيل العراق بحجم الإنفاق الضخم يعزى إلى سوء التخطيط الناتج عن الفوائد الاقتصادية الكبيرة التي يجنيها الساسة العراقيون، موضحًا أن الميزانية الثلاثية خصصت للبرلمان 350 مليون دولار سنويًا، بما يزيد على المليار دولار خلال السنوات الثلاثة القادمة 2023-2025، فضلًا عن زيادة عدد موظفي القطاع العام بنحو 600 ألف درجة وظيفية من خلال التعيينات الجديدة والعقود، مما زاد العبء المالي على الموازنة العامة.
وفي حديث حصري ل”الجزيرة نت”، أشار الحمداني إلى أن هذه الزيادة في أعداد الموظفين العموميين تأتي في الوقت الذي تشير فيه المؤشرات الدولية إلى أن معدل عمل الموظف العراقي لا يتجاوز 10 دقائق في اليوم، مبينًا أن المعضلة الأخرى تتمثل بالعدد الهائل من الدرجات الخاصة والمديرين العامين الذي يتجاوز 4500 مدير عام، بما يتسبب بخسائر هائلة للاقتصاد العراقي نتيجة الرواتب الضخمة ومخصصات السيارات المصفحة والحمايات، وفق قوله.
إعلان البنك الدولي ارتفاع ديون العراق إلى 152 مليار دولار يعزى إلى عدم التزام الحكومات المتعاقبة بالخطط والنصائح والتحذيرات بشأن إدارة الملف الاقتصادي
قد لا يكون مزاد بيع العملة بعيدًا عن هذه المؤشرات المنهكة للاقتصاد العراقي، وفق الحمداني الذي أوضح أنه وبعد 20 عامًا على الغزو الأمريكي للبلاد، لا تزال الحكومة تعتمد على مزاد بيع العملة، رغم أن هذه الآلية غير متبعة في جميع دول العالم، لا سيما في الدول المنتجة للنفط.
بين الحمداني كذلك أنه رغم إجراءات البنك المركزي والوعود بالإصلاحات الاقتصادية، لا تزال الحكومة العراقية عاجزة عن بث الطمأنينة للعراقيين من أجل استخدام المصارف وعدم اكتناز الأموال في البيوت والشركات، وهو ما يضطر الحكومة للمضي بمزاد بيع العملة من أجل توفير السيولة النقدية بالدينار العراقي، في الوقت الذي تشير التقارير الاقتصادية إلى أن نحو 80% من حجم الكتلة النقدية العراقية البالغة 83 تريليون دينار عراقي لا تزال خارج النظام المصرفي، وفق قوله.
في السياق، أوضح الخبير الاقتصادي رشيد السعدي، أن إعلان البنك الدولي ارتفاع ديون العراق إلى 152 مليار دولار يعزى إلى عدم التزام الحكومات المتعاقبة بالخطط والنصائح والتحذيرات بشأن إدارة الملف الاقتصادي، ما أدى إلى تراكم تلك الديون وفوائدها الكبيرة.
كما أكد السعدي في حديثه لإحدى وسائل الإعلام أن البنك الدولي وقبيل إقرار الموازنة العامة الثلاثية، أصدر تقريرًا أكد فيه أن ما يقدر بنحو 20 مليار دولار تصرف لنحو 100 ألف عراقي فقط، وأن بينهم من يتقاضون رواتب متعددة تصل إلى 9 رواتب في الشهر الواحد.
مبالغة في الأرقام
بالعودة إلى أستاذ الاقتصاد في جامعة المعقل نبيل المرسومي، ورغم إقراره بالسلبيات التي تضمنتها الموازنة الثلاثية، يرى أن هناك مبالغة في حجم الدين العام على العراق الذي كشفه تقرير البنك الدولي.
ويقول المرسومي – في منشور له على صفحته على الفيسبوك – إن أرقام البنك الدولي غير صحيحة، حيث افترض تقرير البنك الدولي أن الديون الخارجية على العراق تقدر بـ50 مليار دولار، فيما تبلغ قيمة الديون الداخلية نحو 102 مليار دولار، ونسبة الدين العام إلى الناتج المحلي الإجمالي تقدر بـ58.3%.
إجمالي الدين العام في حالة تنفيذ الموازنة بشكل كامل سيبلغ 138 مليار دولار وليس 152 مليار دولار كما يقول البنك الدولي
يأتي رفض المرسومي لبيانات البنك الدولي انطلاقًا من أن هذه الارقام تفترض أن موازنة عام 2023 ستنفذ بالكامل، ما سيترتب عليها إضافة نحو 31 مليار دولار إلى اجمالي الدين العام، مبينًا أن المنطق يبين ألا تُنفذ هذه الموازنة بشكل كامل، لا سيما بعد أن تم تأخير تنفيذها إلى شهر أغسطس/آب الحاليّ، ما يضفي ظلالًا من الشك بشأن مصداقية أرقام البنك الدولي، وفق تعبيره.
لمزيد من التفاصيل عن ديون العراق، أوضح أن الديون الخارجية على العراق مع ديون الخليج المجمدة تبلغ 61 مليار دولار وليس 50 مليار دولار – كما أورد البنك الدولي – وفي حال تنفيذ الموازنة لعام 2023 بالكامل، فإن الديون سترتفع إلى نحو 70 مليار دولار.
أما عن الديون الداخلية، فكشف أنها تبلغ 53 مليار دولار، وفي حال تنفيذ الموازنة سترتفع إلى نحو 77 مليار دولار وليس 102 مليار دولار كما في بيانات البنك الدولي، مشيرًا إلى أن إجمالي الدين العام في حالة تنفيذ الموازنة بشكل كامل سيبلغ 138 مليار دولار وليس 152 مليار دولار كما يقول البنك الدولي، وفق المرسومي.
سواء كانت بيانات البنك الدولي دقيقة أم لا، فإن الوقائع تشير إلى أن العراق مكبل بديون ثقيلة لا تقل عن 138 مليار دولار، مع الإشارة إلى أن الديون الداخلية تعتبر العائق الأكبر على البلاد بسبب نسب الفوائد المرتفعة وفق ما كشفه خبراء اقتصاد عراقيون.