يبدو أن المساعي المستمرة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين لإنهاك حلف شمال الأطلنطي “ناتو”، لن تتوقف عند حد معين بالسيطرة على منطقة البلقان أو الوضع بسوريا والتوسع شرقًا وغربًا عبر تحالفات سلاح واقتصاد مهمة، بل امتدت لدولة أفغانستان التي تعاني توترات داخلية من تبعات حرب طويلة منذ نهاية سبعينيات القرن الماضي، عندما دخلت قوات الاتحاد السوفياتي السابق إلى كابول، لدعم الحكومة الشيوعية.
حدود دولة أفغانستان الملتهبة
اختراق الدولة المنهارة
من وقتها والدولة المسلمة المحاطة بدول طائفية، لا تنفك أن تتدخل في شؤونها الداخلية، تارة عبر إثارة النعرات الطائفية والمذهبية، وأخرى عبر محاولة إشعال فتيل حرب أهلية بين الإثنيات المختلفة التي تسكن فيها، وثالثة بدعم الحركات الجهادية المتطرفة للسيطرة على مقاليد الحكم مثل حركة طالبان.
مخاوف أمريكية
مؤخرًا، أثارت المعلومات عن سعي روسيا لإقامة علاقات قوية مع حركة طالبان في أفغانستان، بدعوى محاربة تنظيم داعش الإرهابي، المخاوف الأمريكية، لا سيما أن موسكو لم تنف هذا التعاون مع حركة لطالما وصفتها بالمتطرفة، بل بررته بأنه تحالف سياسي لمحاربة داعش، متهمة القوات الأمنية الحكومية بأفغانستان والمدعومة بقوات خاصة أمريكية وبضربات جوية، بأنها لم تفعل شيئًا يذكر لوقف تنامي نفوذ تنظيم داعش في أفغانستان، وصرح رئيس قسم الشؤون الأفغانية في وزارة الخارجية الروسية، وممثل الكرملين في أفغانستان زامير كابولوف، مؤخرًا بأن “مصالح روسيا في أفغانستان تلتقي مع أعضاء حركة طالبان، الذين يقاتلون تنظيم داعش”.
ولاية خراسان حجة روسيا للتوغل في أفغانستان
داعش كلمة السر
المتتبع للتحركات الروسية يدرك أن تقاربها مع طالبان ليس وليد اللحظة، ومستمر منذ العام 2007 بعد الحرب الأمريكية في أفغانستان، لكن مع ظهور فرع داعش المتوحشة في أفغانستان، فيما يطلق عليها “ولاية خراسان”، سمح للروس بإعلان هذا التحالف دون مواربة، والتأكيد على استعدادها لدعم الحركة سياسيًا وماليًا وبالسلاح اللازم، لمواجهة متطرفي داعش، ما يسبغ الشرعية على حركة طالبان الإرهابية، ويكمل أضلاع المثلث الإيراني الباكستاني مع روسيا بالطبع، من أصحاب “النفوذ الخبيث” في أفغانستان.
الغزو السوفيتي لأفغانستان
اللعبة الكبرى
وعلى الرغم من أن أفغانستان مسرحًا لمؤامرات وتدخلات دولية عدة على مر السنوات، حيث تبارت كل من بريطانيا وروسيا في فرض سيطرتها عليها خلال “اللعبة الكبرى” في القرن التاسع عشر، كما ساعدت الولايات المتحدة باكستان في تقديم السلاح والمال للمقاتلين الأفغان الذين كانوا يحاربون القوات السوفيتية في الثمانينيات، فإن التوغل الروسي الحالي في أفغانستان ربما له ما يبرره من جانب بعض المحللين، معتبرين أن روسيا تمتلك أسبابًا وجيهة للتقارب مع حركة طالبان، على الرغم من خروجها من أفغانستان، حينما طُرد السوفييت من البلاد في هزيمة كانت أحد أسباب تفكك الاتحاد السوفييتي وقتها.
ومن هذه الأسباب محاولة تطويق حلف الناتو والسعي لتكبيده خسائر فادحة، إلى جانب إخراج الولايات المتحدة من أفغانستان، وخوفًا من تمدد تنظيم داعش “ولاية خراسان”، التي تعتبرها روسيا تهديدًا كبيرًا، لوجودها في مناطق الجوار المباشر، وبإمكانها التمدد لجمهويات آسيا الوسطى في أوزبكستان وتركمانستان وطاجكستان وكازاخستان، وتسعى لإقامة طوق حولها وإثارة الاضطرابات، لذلك تهتم بمنع مرور أفراد من التنظيم إلى جمهوريات آسيا الوسطى، إلى جانب منع المقاتلين الروس الذين التحقوا به بسوريا من العودة.
مداولات روسيا وحلف الناتو المستمرة لم تسفر عن أي تقارب
ترامب والناتو
ما يدعم تحركات بوتين الحالية، وصول الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب إلى السلطة، وتصريحاته بتخفيف الالتزام الأمريكي تجاه التحالفات، ودعوته أعضاء حلف الناتو إلى تعزيز دفاعاتهم وحماية أمنهم بأنفسهم، وعلى الرغم من تراجعه عن هذه التصريحات لاحقًا، فإنها اعتبرت إشارات مقلقة لأعضاء الحلف، ومبشرة لروسيا التي تحاول توظيف أي ورقة من أجل زعزعة تماسك “الناتو”، لأن الظرف التاريخي مواتٍ تمامًا الآن لاستنزاف الناتو عن طريق دعم حركة طالبان، وخوفًا من إمارة “خراسان” الداعشية بالجوار الروسي، والتي تهدد أمنها مباشرة.
نفوذ طالبان في أفغانستان
مكاسب طالبان
أما طالبان التي تتخوف من قوة نفوذ داعش، وجذبه لمقاتليها، وتهديد نفوذها الديني والسياسي في بعض مناطقها، وسحب البساط من تحت قدميها، فهي تبحث عن مثل هكذا تعاون، بالإضافة لعلاقتها بإيران لمحاصرة التنظيم ومحاربته، لمنع تدخل المزيد من القوات الدولية بأفغانستان، والضغط على مناطقها من قبل قوى عدة بحجة محاربة التنظيم، كما أنها ستستغل هذا التقارب في ظروف تفاوضها مع الحكومة الأفغانية، للضغط عليها بكسب دعم سياسي ومادي جديد، منه رفع العقوبات والملاحقات عن بعض قياداتها.
زعيم طالبان الجديد يميل لمفاوضات السلام مع الحكومة الأفغانية
فشل المفاوضات
جانب آخر من المحللين يرى أن التغير في الموقف الروسي تجاه حركة طالبان، يمكن ربطه بدرجة ما بفشل المفاوضات التي رعتها واشنطن بين طالبان والحكومة الرسمية في كابل، في حين أن روسيا ترى أن باستطاعتها لعب دور لإنجاح العملية السياسية في البلاد.
إيران حلقة الوصل بين روسيا وطالبان
الدور الإيراني
بعيدًا عن التحليلات والتأويلات، لا يمكننا تجاهل حقيقة أن أفغانستان تحولت منذ الاحتلال الأمريكي إلى “ساحة حرب بالوكالة”، شأنها شأن سوريا وليبيا والعراق واليمن، وأصبحت مكانًا لتصفية حسابات دول لها مشاكل سياسية وأمنية بعضها مع بعض، فإيران الجارة الغربية لأفغانستان، نجحت في إثبات حضورها السياسي والأمني بها، سواءً كان ذلك عبر التدخل في شؤونها الداخلية من خلال “جماعات الضغط”، التي شكلتها عبر أقلية الهزارة الشيعية.
أو عبر تقديم الدعم المالي لمئات المؤسسات الاجتماعية والإعلامية الناشئة في كابل، وغيرها من المدن كحسينيات لنشر التشيع، وتتقارب مع طالبان بعد وفاة زعيمها المؤسس الملا عمر، بدعوى محاربة داعش، وهو تقارب على هوى الحركة الأفغانية، التي تعاني العزلة، وقلة مواردها المالية، وتبحث عن ممولين جدد، وقد تجد في إيران خير مموّل لأنشطتها العسكرية.
حرب بالوكالة
خلاصة الأمر أن حرب الوكالة في أفغانستان باتت على أوجها، وإن كان الدور الإيراني يعد الأكبر لدول الإقليم فيها، فإن التقارب الروسي مع حركة طالبان سيبقى في حدود ضيقة، وفق رؤى كثيرة للمحللين؛ لأنه محكوم بالتوازنات الإقليمية، وإمكانية انعكاسه سلبا على علاقات روسيا مع حلفائها المنطقة خاصة الهند.
أما طالبان، فشأنها شأن أي من الحركات والتنظيمات المسلحة والجماعات المتمردة، أصبحت ورقة رابحة وجيدة في إنهاك الخصوم، بل تفكيك دولهم كنموذج حزب الله بلبنان، والحوثيين باليمن، وهو ما يبرر التدافع الروسي لاستغلال عدوها الأول سابقًا “طالبان”، من أجل إسقاط خصميها الأكبر والأقوى، وهما الولايات المتحدة والناتو.
فهل ستعود روسيا إلى أفغانستان من جديد عبر بوابة طالبان؟