غطت فضيحة اللوبي الإسرائيلي وسفارة تل أبيب في لندن خلال الأسبوعين الماضيين عناوين الصحف البريطانية الكبرى لعدة أيام، وشمل ذلك غالبية الصحف، بغض النظر عن توجهاتها من اليسار لليمين للوسط؛ لأن تلك الفضيحة تمس الأمن القومي البريطاني، بحسب بيانات حزبي المعارضة الرئيسين: العمال والوطني الأسكتلندي.
استطاع صحفي في وحدة التحقيقات في قناة الجزيرة أن يقيم علاقة مع موظف في سفارة تل أبيب في لندن؛ مدعيا أنه ناشط يريد خدمة اللوبي “الإسرائيلي” في بريطانيا، وتمكن الصحفي من تسجيل عدة لقاءات للمسؤول في السفارة شاي ماسوت خلال ستة أشهر بواسطة كاميرا مخفية. ظهر ماسوت في هذه التسجيلات وهو يتآمر مع سياسيين وحزبيين بريطانيين لإسقاط وزراء وشخصيات عرفت بنقدها للسياسات الإسرائيلية، ومن ضمنهم وزير دولة في وزارة الخارجية.
وبعيدا عن الجدل البريطاني الداخلي حول الفضيحة، فإن الدلالة الأهم عربيا هي أن اللوبي الإسرائيلي في الغرب وإن كان قويا، فإن من الممكن هزيمته، إذ بدا واضحا خلال الأيام الماضية كيف استطاعت وسيلة إعلامية عربية مثل قناة الجزيرة أن تسدد ضربة قوية لهذا اللوبي، ما أضطر الحكومة الإسرائيلية للاعتذار للخارجية البريطانية، كما أدت الفضيحة إلى استقالة المسؤول الإسرائيلي ومساعدة وزيرة التعليم في حكومة تيريزا ماي بعد الكشف عن تورطهما بالتآمر ضد سياسيين بريطانيين.
قوة اللوبي بين الواقع والأسطورة
يمثل اللوبي الإسرائيلي/الصهيوني في الغرب أحد محاور الجدل الكبير في النقاش السياسي والشعبي العربي، بين من يروج لفكرة سيطرة هذا اللوبي بشكل كامل على السياسة الشرق أوسطية للولايات المتحدة وغيرها من الدول الأوروبية الكبرى، وبين أولئك الذين ينفون وجود أي تأثير لهذا اللوبي واعتباره وهما.
ولمعرفة حقيقة دور اللوبي بعيدا عن الأساطير التي تضخم قوته أو تتجاهله تماما؛ فلا بد ابتداء من التأكيد على حقيقة أن النظام السياسي في كثير من الدول الغربية وخصوصا الولايات المتحدة وبريطانيا يتيح لجماعات الضغط “Lobbies” أن تمارس دورا في صناعة السياسات للحكومة. وتستطيع أي جماعة ضغط وفق هذا النظام أن تستخدم الإعلام ومراكز البحث والعلاقات العامة مع صانعي القرار من وزراء ونواب وحكام محليين، وتستطيع أيضا أن تستخدم التظاهر والاعتصام وحث الناخبين على إرسال رسائل ضغط واحتجاج لنوابهم، وكتابة العرائض، والعمل من خلال الأحزاب السياسية الكبرى، بهدف التأثير على قرارات السياسيين بمختلف درجاتهم ومواقعهم.
وبناء على ما سبق فإن عمل جماعات الضغط ومن ضمنها اللوبي الصهيوني لا يفترض أن يندرج في إطار المؤامرات كما يروج أحيانا، بل هو من صميم النظام السياسي الغربي، بشرط أن يلتزم بقواعد اللعبة، ولأن موظف السفارة الإسرائيلية في لندن يعمل لصالح دولة أجنبية، فهو إذن يمارس الضغط خارج قواعد اللعبة، وهو ما دعا كثير من الصحفيين والسياسيين لاعتبار ما تسرب في تسجيلات قناة الجزيرة فضيحة لسفارة تل أبيب ولبعض السياسيين البريطانيين، ومسألة أمن قومي بريطاني.
وخلافا لما هو دارج في النقاش العربي حول المسألة، فإن اللوبي الصهيوني لم يكن يوما اللوبي الأقوى في الولايات المتحدة مثلا، بل هو يأتي عادة في المركز الثالث أو الرابع بعد لوبي المتقاعدين والسلاح وأحيانا تجارة النفط. ولأنه اللوبي “الإثني” (المبني على إثنية معينة) الأقوى، فقد ظن الكثيرون أنه الأقوى على الإطلاق، في مجافاة للواقع.
وبرغم ذلك، يبقى اللوبي الصهيوني قويا ومؤثرا، ولديه الكثير من الوسائل التي يستطيع من خلالها التأثير على صناعة القرار في المتعلق بالشرق الأوسط في الدول الغربية. ويبدو هذا الأمر طبيعيا في ظل الخبرة الكبيرة التي امتلكها اللوبي الصهيوني خلال عقود طويلة من ممارستها للسياسة في الغرب، إضافة لكونه يعمل في بيئة سياسية قريبة منه أيديولوجيا كما وصفها السياسي والباحث المعروف “آرون ديفيد ميلر” الذي عمل مستشارا في وزارة الخارجية الأمريكية لربع قرن، والذي قال في دراسة مهمة عن اللوبي الإسرائيلي أن الأخير يكتسب قوة كبيرة لأن الأمريكيين يعتبرون الإسرائيليين “مثلهم” وبالتالي فإن عمله أسهل بكثير من جماعات الضغط العربية أو المناهضة لإسرائيل.
هزيمة اللوبي “الإسرائيلي” ممكنة
على الرغم من القوة الكبيرة لمنظمات الضغط “الإسرائيلية” في الغرب، إلا أن جماعات ضغط مختلفة استطاعت هزيمتها في عدة مناسبات. في الولايات المتحدة مثلا خسر اللوبي “الإسرائيلي” أمام “لوبي” الأسلحة وبعض منظمات الضغط التي عملت لصالح السعودية عامي 1978 و1981 في النزاع حول صفقات بيع طائرات عسكرية وأسلحة للسعودية وهي الصفقات التي كان اللوبي “الإسرائيلي” يعارضها. كما فشل اللوبي أيضا في صراعه مع إدارة بوش الأب عام 1991 عندما ربط القروض الأمريكية لدولة الاحتلال بوقف الاستيطان في الضفة الغربية.
ولم تقتصر هزائم اللوبي “الإسرائيلي” على صراعاته مع جماعات الضغط التي تعمل لصالح الدول، بل إنه، وهذا الأهم، خسر أمام مؤسسات شعبية عربية وإسلامية وغربية تعمل لصالح قضية فلسطين في الغرب، وخصوصا في أوروبا، حيث لم تكن خسارة هذا “اللوبي” في فضيحة التسجيلات السرية التي نشرتها الجزيرة هي الأولى من نوعها، إذ شهدت السنوات الأخيرة عدة هزائم، أهمها:
أولا: انتصرت مؤسسات خيرية ومنظمات غير حكومية مؤيدة للفلسطينيين في عدة قضايا أمام المحاكم الأوروبية وخصوصا البريطانية، كان الطرف الآخر فيها إما منظمات تنضوي تحت مؤسسات الضغط “الإسرائيلية”، أو جهات متأثرة بهذه المؤسسات.
ثانيا: فشلت مؤسسات الضغط “الإسرائيلية” في منع الاتحاد الأوربي من إصدار قانون يجبر التجار على الإفصاح عن مصدر منتجاتهم؛ في حال كانت مستوردة في المستوطنات المقامة على أراضي الضفة الغربية والقدس، بما يتيح للمستهلكين الراغبين بمقاطعة منتجات المستوطنات من معرفة هذه المنتجات والامتناع عن شرائها.
ثالثا: فشل اللوبي “الإسرائيلي” في الضغط على المجالس البلدية البريطانية التي تقاطع منتجات المستوطنات، وعلى المؤسسات الأكاديمية التي تقاطع دولة الاحتلال أكاديميا، على الرغم من نجاح هذا اللوبي بالتأثير على حكومة ديفيد كاميرون لإصدار تحذيرات للمؤسسات التي تقاطع نظيراتها في دولة الاحتلال.
رابعا: استطاعت المؤسسات المتضامنة مع الفلسطينيين من الانتصار على اللوبي “الإسرائيلي” في المعركة المتعلقة باعتراف كثير من برلمانات الدول الأوروبية بالدولة الفلسطينية، كما هو الحال في بريطانيا وفرنسا وإيطاليا وغيرها من الدول الأوروبية.
خامسا: فشل اللوبي “الإسرائيلي” في منع بعض الحكومات البريطانية من المساهمة في ميزانيات السلطة الفلسطينية، بحجة أن بعض الأموال تذهب “لتشجيع الإرهاب” لأنها تخصص لعائلات الشهداء والأسرى.
قد تبدو هذا الهزائم بسيطة وغير جذرية، وهذا صحيح إلى حد ما، ولكن من الضروري دائما أن ندرك أن الصراع بين المؤسسات الداعمة لإسرائيل وتلك المؤيدة للنضال الفلسطيني هو صراع بالنقاط وليس بالضربة القاضية، ولذلك فإن النجاحات الصغيرة تصبح مهمة ومؤثرة مع تراكمها، خصوصا عندما تنجح أي منظمة شعبية في تفنيد الرواية الصهيونية للصراع التي يعمل لوبي “إسرائيل” على نشرها في الغرب منذ عقود طويلة.
كما أن هذه الانتصارات الصغيرة في المعركة مع “اللوبي الإسرائيلي”؛ تكتسب أهمية كبرى في دحض الفكرة التي تروج بحسن نية أو بسوء نية عن أسطورة اللوبي “الإسرائيلي” الذي لا يمكن هزيمته، فهذا اللوبي قوي، نعم، ولكن هزيمته ممكنة!
المصدر: عربي21