لا نُنكر أبدًا حجم المخاطر السلبية التي أصابت الجغرافية السورية وتأثيرها المُدوي على الجميع بدءًا من التحولات الدولية وصولًا إلى سعة الهوة بين أبناء الشعب الواحد.
فالثورة السورية مرت بعدةٍ مراحل ودخلت في منعطفات خطِرة أدت إلى زيادة التعقيدات بسبب غياب التنظيم الشعبي والحشد الجماهيري الواعي، ولكن هذا لا يعني أبدًا أن الانكسارات الكثيرة ستقودنا إلى تقديم صك استسلام للأطراف المعادية لنا كما نرى اليوم من بعض المتسلقين والمهرولين للعودة إلى حضن الوطن.
لا شك أن مؤتمر الأستانة المزمع عقدُه في 23 من الشهر الحالي هو نتيجة لعجز المجتمع الدولي المتقاعس عن إيجاد أي حل للصراع السوري المستمر منذ ستة أعوام
فعهد أوباما كان مليئًا بالمطبات السياسية التي أغرقت واستنزفت جميع الأطراف المنخرطة بشكل مباشرأو بالوكالة بالميدان السوري مما يُرجح للبعض أن مؤتمر الأستانة قد يأتي كحاجة وضرورة لعزل المصالح المتضاربة بين اللاعبين وعلى رأسها روسيا وإيران وتركيا.
كما أن المناخ السياسي للملف السوري تغير بعد التقارب التركي الروسي الذي حقق مرونة ديناميكية في إنهاء ملف حلب الشرقية وتحقيق تقدم دبلوماسي لكلا البلدين في خلق ثنائية مشتركة تمضي قدمًا لتحقيق المصالح المشتركة مع التنويه أن المعارضة السياسية والعسكرية لم تخلق حلولاً بديلة عن تلك التي أفضت إلى تسليم زمام الأمور لأوامر الحلفاء الداعمين، فكان أجدر لهم أن يُعيدوا ترتيب صفوفهم بعد حلب ليقدموا نموذجًا متحركًا في المحتوى بدلًاعن تلك الطرق القديمة الثابتة في السلوك على مدار أعوام مضت.
يحق لنا اليوم أن نسأل لماذا التطور الحاصل محصور فقط على الدول التي تتحكم بقواعد اللعبة السورية وإلى متى سيبقى السوريون مجرد أداوت متحركة بما يتناسب مع مصالح وأجندات اللاعبين؟ ففي ظل التراجع السلبي للمعارضة الثابتة والتشتت والفرقة المؤكدة في الفصائل العسكرية المُحتكمة لطبيعة سياسيات غربية، نقول لهم إن سلوككم لا يناسب ثوابت الثورة السورية، ولنا أن نوجه كل الأسئلة للقادة السياسيين والعسكريين المجتمعين في أنقرة والموقعين على تأشيرة الذهاب للعاصمة الكازاخستانية لحضور مؤتمر حجب عنهم أجنداته وجدول أعماله ومدته الزمنية وماهيته ولم يُعرف منه إلا الموافقة على الذهاب من غير شروط مسبقة، فالسؤال المباشر على أي شيء ستذهبون؟ وأليست المفاوضات تحتاج إلى امتلاك أوراق قوة تفاوضون بها وتجبرون خصومكم على القليل من التنازلات أم أن التنازلات أصبحت تقدم من طرف واحد؟
إن هدنة وقف إطلاق النار التي جاءت في 29 في أواخر العام الماضي بين الضامنين التركي والروسي أوضحت بشكل مباشر حجم المخاطر المستقبلية الملقاة على عاتقٍ شعبٍ لم يكسب إلى الآن إلا المزيد من المأساة المتصدرة للقرن الواحد والعشرين
وقف النار ارتفع عما كان عليه قبل الهدنة بسبب الخروقات المستمرة من قبل المعارضين لأي حوار أو تسوية أو مفاوضات من المحتمل بحسب مراقبين أنها قد تُقصي مصالحهم في سوريا، ونتكلم هنا عن إيران المنزعجة من التقارب الروسي التركين، فالهدف الإيراني في التوسعة وتطبيق الهلال الشيعي يختلف عن المصالح الروسية، فاجتياحها لوادي بردي بخليط من المليشيات وغض الطرف الروسي لها ما هي إلا رسائل سياسية، وازديادها على المدى البعيد ربما يقود إلى مواجهة أكبر بينهم لتصفية حسابات على الأرض السورية التي باتت مرتعًا لكل الطامعين لها.
الكثير منا يعلم أن نقاط التفاهم بين روسيا وإيران في الوقت الحالي هي أكبر بكثير من نقاط الخلاف، فروسيا تعلم جيدًا أن المليشيات الإيرانية لولاها لما أجهزت على حلب.
ولكن في منظور المستقبل البعيد من المرجح أن تتغير المعادلة لتطفو نقاط الخلاف على نقاط التفاهم، واليوم في سوريا حتى كتابة هذه السطور جميع المؤشرات تشير إلى استمرار في الحسم العسكري حتى روسيا تقصف يوميًا أرياف حلب وإدلب وتسريبات من قاعدة حميميم أفصحت عن استعداد طائرات روسية للبدء في حملة روسية على ريف حلب الغربي.
الخشية من الأستانة بالنسبة للسوريين أن تكون كأوسلو في فلسطين، تنسف تضحيات ست سنوات بسبب المعارضات التي قبلت الذهاب من غير شروط مسبقة، فهم سيذهبون بالتوازي مع خروقات على مدار الساعة للهدنة المذلة، فالطريق للأستانة مجهول وغير سالك ومهما كانت نتائج المؤتمر فمن المؤكد أنها لن تُقبل ولن تطبق على الأرض إلا بما يتناسب مع حجم التضحيات لشعب لا يزال يتطلع إلى الشرفاء المدافعين عن الأوطان والحرية والكرامة، والعار كل العار لمن خان وضحى بالدماء الطاهرة من أجل مناصب مستقبلية زائلة.