ما بين القلق من نتائج سياساته على الخارطة الأمريكية بصورة خاصة، والدولية بصفة عامة، والتفاؤل بإعادة المجد لأمريكا من جديد، ها هو العالم يحبس أنفاسه متابعًا مراسم تنصيب دونالد ترامب، الرئيس الـ45 للولايات المتحدة الأمريكية.
وصل دونالد ترامب، أمس الخميس، إلى واشنطن على متن طائرة حكومية هبطت في قاعدة أندروز الجوية قبل ساعات قليلة من تنصيبه، حيث يعتبر هذا الوصول تتويجاً لفترة انتقال السلطة منذ فوزه في الانتخابات في الثامن من نوفمبر الماضي على منافسته الديمقراطية هيلاري كلينتون.
العديد من التساؤلات باتت تفرض نفسها مع الساعات الأولى لتولي ترامب رئاسة أمريكا رسميًا، خاصة فيما يتعلق بأولى القرارات المتوقع اتخاذها، لاسيما حيال ملفات الشرق الأوسط، فضلًا عن علاقته بروسيا وإيران، والتغير المتوقع في ملامح خارطة التحالفات الإقليمية والدولية.
تنصيب ترامب رسميًا
برنامج تنصيب الرئيس الخامس والأربعين للولايات المتحدة الأمريكية مكتظ بالعديد من الطقوس والاحتفالات، التي تواصلت ولعدة أيام في العاصمة واشنطن، وبعض المدن المجاورة، وتتوج بأدائه اليمين ظهر اليوم الجمعة.
بدأت أولى الحفلات عند نصب “لينكولن” الواقع في منطقة المول التي تجتاز واشنطن قبالة مبنى الكابيتول، بمشاركة مجموعات مختلفة، مثل فرقة طبول رجال الاطفاء في مقاطعة كولومبيا، الاسم الاخر للعاصمة واشنطن، وحركة هندوسية تدعم ترامب هي “ائتلاف الهندوس الجمهوري” ، وفرق أخرى وجوقات مدارس، في هذا الحفل الذي اطلق عليه اسم “أصوات الشعب”.
وبعد هذا الحفل مباشرة توجه ترامب ونائبه “مايك بنس” لوضع إكليل من الزهور على مقبرة ارلينغتون الوطنية تقديرًا لدور قدامى المحاربين، إضافة إلى حضور قداس في كنيسة “القديس يوحنا” الواقعة قرب البيت الأبيض، وبعدها يتم استقبال الرئيس الأسبق باراك اوباما وزوجته ميشيل، لدونالد وميلانيا ترامب في البيت الأبيض لتناول الشاي معًا، وبعدها، يتوجه الرئيسان بنفس الموكب إلى الكابيتول، المبنى الذي يضم الكونجرس.
ترامب وزوجته أثناء وصولهما واشنطن عشية التنصيب
يشارك ترامب وبنس في غداء يقيمه الكونجرس في الكابيتول، يعقبه عرض يسير فيه الرئيس الجديد ونائبه مسافة 2,4 كلم على طول جادة بنسلفانيا التي تربط الكابيتول بالبيت الابيض، ويتبعهما حوالي ثمانية آلاف شخص يمثلون مختلف المجموعات
يبدأ حفل التنصيب أمام الجهة الغربية للكابيتول مع أغان وموسيقى، بحضور عدد من المدعوين من بينهم نواب الكونجرس، وقضاة المحكمة العليا ودبلوماسيون وعموم الشعب، كما سيحضر أيضًا الرؤساء السابقون، جيمي كارتر وجورج دبليو بوش وبيل كلينتون، وكذلك هيلاري كلينتون، وبحسب بعض المصادر لن يحضر الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش الأب بسبب وضعه الصحي، إضافة إلى عدد من النواب الديمقراطيين وبعض المعارضين لسياسات ترامب.
ثم يبدأ الخطاب الافتتاحي لحفل التنصيب بمباركة بعض الشخصيات الكنسية، وبعدها يتم تنصيب نائب الرئيس “مايك بنس”، من قبل قاضي المحكمة العليا “جون روبرتس”، ليؤدي “ترامب” اليمين بعدها مباشرة، ويلقي خطاب التنصيب.
بعد انتهاء الحفل، وبموجب التقليد المتبع في أمريكا، يشارك ترامب وبنس في غداء يقيمه الكونجرس في الكابيتول، يعقبه عرض يسير فيه الرئيس الجديد ونائبه مسافة 2,4 كلم على طول جادة بنسلفانيا التي تربط الكابيتول بالبيت الأبيض، ويتبعهما حوالي ثمانية آلاف شخص يمثلون مختلف المجموعات: مختلف الأسلحة في الجيش وجوقات مدارس وجامعات وفرق خيالة وممثلين عن فرق الانقاذ ومحاربين قدامى.
وفي منتصف ليل اليوم، الجمعة، يختتم ترامب وبنس برفقة زوجتيهما حفل التنصيب بالمشاركة في ثلاث حفلات راقصة، اثنان منها في مركز مؤتمرات والتر اي واشنطن، والثالثة في مبنى المتحف الوطني، ثم العودة إلى البيت الأبيض حيث المقر الرئاسي، ليبدأ ترامب مهامه الجديدة.
تعزيزات أمنية لتأمين الحفل التنصيب
مراسم التنصيب دستوريًا
العديد من تقاليد التنصيب المتعارف عليها الآن، تعود إلى مراسم تنصيب الرئيس جورج واشنطن عام 1789، وقد ظهرت تقاليد أخرى مع مرور الزمن، حيث تشارك في حفل تنصيب الرئيس السلطات الحكومية الثلاث: التنفيذية والتشريعية والقضائية، ويشرف رئيس المحكمة العليا الأميركية على أداء اليمين الدستورية للرئيس في مبنى الكونجرس، بمشاركة الحزبين السياسين الرئيسيين في التخطيط لهذا الحدث.
لا يحدد الدستور الأميركي كيفية تنصيب الرئيس، سوى أنه يتعين على الشخص المنتخب أداء “اليمين الدستورية لتولي المنصب”، ويسمح حتى بإجراء تغيير طفيف على نص القسم: ” أقسم (أو أؤكد) أنني سأنفذ مخلصًا مهام منصب رئيس الولايات المتحدة، وسأعمل بأقصى ما لدي من قدرة على صيانة وحماية دستور الولايات المتحدة والذود عنه.”، وخيار كلمة “أؤكد” بدلاً من “أقسم” توفرت في حال كانت المعتقدات الدينية للشخص تمنع عليه القسم. وفقط رئيس واحد، هو فرانكلين بيرس عام 1853، اختار كلمة “أؤكد” في أداء يمينه بدلاً من كلمة “أقسم”.
وفيما عدا هذا القسم، يبقى الدستور الأصلي صامتًا. لا ينص على متى يتوجب على الرئيس المنتخب تولي المنصب، وأين ينبغي أن يؤدي اليمين الدستورية، ومن يشرف على أداء اليمين، وماذا يحدث في حال انتهت ولاية الرئيس قبل أن يؤدي الرئيس المنتخب اليمين، وما إذا كان بالإمكان إضافة كلمات إلى اليمين، وما إذا كان خطاب التنصيب مفروضًا ونقاط عديدة قد تكون مثيرة للجدل، كما أنه لا يفرض الدستور أداء اليمين على الكتاب المقدس، على الرغم من أن معظم الرؤساء قد اختاروا القيام بذلك، وعلى العكس من ذلك اختار الرئيس جون كوينسي آدامز أداء اليمين على كتاب القانون.
لا يحدد الدستور الأميركي كيفية تنصيب الرئيس، سوى أنه يتعين على الشخص المنتخب أداء “اليمين الدستورية لتولي المنصب”، ويسمح حتى بإجراء تغيير طفيف على نص القسم
ومع مرور الوقت، توسعت قائمة الأحداث والنشاطات والتقاليد المتعلقة بالتنصيب، كما توسع عدد الناس الذين يحضرون الفعاليات والمراسم التي تقام بمناسبة التنصيب، إضافة إلى المستجدات التي تطرأ على تلك المراسم عامًا تلو العام، حيث كان الرئيس المنتهية ولايته يركب نفس السيارة مع الرئيس الجديد إلى مبنى الكونجرس، ثم تطور الأمر، كما كان الرئيس الجديد يسير على قدميه في طريق الاستعراض من مبنى الكونجرس إلى البيت الأبيض، ولكن الهواجس الأمنية لم تشجع الاستمرار في هذا التقليد، وغير ذلك من التطورات والتغيرات التي شهدتها مراسم التنصيب، والتي لم ينص الدستور عليها، ومن ثم باتت تخضع لرغبات وأهواء المنظمين.
الرئيس المنتهية ولايته باراك أوباما يصافح الرئيس الجديد دونالد ترامب
اشتباكات بين المؤيدين والمعارضين
في أول رد فعل جماهيري على تنصيب ترامب، شهدت شوارع العاصمة الأمريكية واشنطن وقوع عدد من الاشتباكات بين أنصار ترامب ومعارضيه، حيث رفع المعارضون لافتات مناهضة للرئيس الجديد، ووصفوه بـ”النازية” و” العنصرية” مادفع شرطة العاصمة للتدخل لتفريق المتظاهرين من خلال رش بعض المواد الكيماوية و”الفلفل” بحسب صحيفة “واشنطن بوست”
يذكر أن واشنطن منذ ليلة أمس الخميس تحولت إلى مايشبه الثكنة العسكرية، في ظل عشرات الآلاف من المتظاهرين ممن خرجوا للتعبير عن استيائهم من إدارة ترامب القادمة، ووفق تقديرات الجهات المنظمة، تدفق مايقرب من 900 ألف مواطن سواء من مؤيدي ترامب أو من معارضيه لحضور مراسم التنصيب وفقا لتقديرات الجهات المنظمة للحدث.
ومن الملاحظ أن عدد الاحتجاجات والاحتشادات المزمعة هذا العام أكبر كثيرا من المعتاد في مثل هذه المراسم، إذ صدر نحو 30 تصريحًا لتجمعات مناهضة لترامب في واشنطن، كما أن هناك تجمعات مزمعة في مدن تمتد من بوسطن إلى لوس أنجلوس وكذلك في مدن بالخارج منها لندن وسيدني.
كما احتشد الآلاف وبينهم العديد من المشاهير الخميس في نيويورك احتجاجا على مواقف الرئيس الأمريكي المنتخب دونالد ترامب في واشنطن في تجمع عند فندق (ترامب إنترناشونال أوتيل آند تاور) ثم ساروا إلى مسافة قريبة جدا من برج (ترامب تاور) حيث يقيم رئيس الولايات المتحدة الجديد
الشرطة الأمريكية تفرق مظاهرة للتنديد بسياسات ترامب في واشنطن
ماذا عن الشرق الأوسط؟
تحت عنوان “نحن محقون في الخوف من تسلم ترامب الرئاسة”، استهلت صحيفة “الأوبزرفر” البريطانية افتتاحيتها تعليقًا على القلق من تولي ترامب رئاسة الولايات المتحدة، وجاء فيها: إذا كانت لحظة الاحتفال بتنصيب الرئيس في الولايات المتحدة تمثل في العادة لحظة أمل عظيمة واحتفالا بالديمقراطية والانتقال السلمي للسلطة وتأكيدا للمثل والقوانين التي وضعت في الدستور الأمريكي عام 1789، فإن الاحتفال بتنصيب ترامب، الرئيس الخامس والاربعين للولايات المتحدة، الجمعة ليست لحظة طبيعية، بل هي لحظة فزع وقلق ونذير شؤم..) حسبما نقل موقع “بي بي سي”.
افتتاحية الصحيفة البريطانية تقول إن ترامب خلال دقائق من تسلمه الرئاسة رسميًا طعن في الوكالات الاستخبارية الأمريكية، وهدد المكسيك وأكد تعهده ببناء جدار على الحدود معها، وهدد الشركات الأمريكية التي تستثمر في الخارج، وضرب بمعول هدم نظام الرعاية الصحية الذي تبناه سلفه الرئيس أوباما، وسخر من المؤسسات الإعلامية، وتفاخر بصفقة تجارية غامضة بقيمة ملياري دولار، وخلصت إلى أن “هذا ليس سلوك رئيس” دولة.
إن كان تنصيب ترامب رئيسأ لأمريكا يحمل تخوفات لدى الأوروبيين ، فإن الوضع في الشرق الأوسط أكثر سخونة، فهناك حالة من القلق والترقب إزاء توجهات الرئيس الجديد حيال عدد من الملفات، أبرزها الملف السوري، والذي يمثل اختبارًا حقيقيًا لسياسة الرئيس الجديد الخارجية، خاصة بعد التصريحات التي أدلى بها خلال حملته الانتخابية والتي فسرها البعض كونها دعمًا للنظام السوري الحالي.
ثم يأتي موقفه من الاتفاق النووي الإيراني والذي وقَعت عليه أمريكا خلال 2015، ليمثل تحديًا جديدًا لإدارة ترامب، خاصة بعد التصريحات التي أدلى بها بشأن “نسف”هذا الاتفاق، وهو ما تسبب في استنكار الدول الخمس الموقعة عليه، إضافة إلى موقفه من موسكو، ومساعيه نحو تقريب وجهات النظر خاصة بعد تصعيد إدارة أوباما الأخير، وطرده لعدد من الدبلوماسيين الروس، فضلا عن تمديدها للعقوبات المفروضة على موسكو.
أما على مستوى الشرق الأوسط فهناك حالة من القلق والترقب إزاء توجهات ترامب حيال عدد من الملفات الخاصة بالشرق الأوسط، أبرزها الملف السوري، والذي يمثل اختبارا حقيقيًا لسياسة الرئيس الجديد الخارجية،خاصة بعد التصريحات التي أدلى بها خلال حملته الانتخابية والتي فسرها البعض كونها دعمًا للنظام السوري الحالي.
كذلك فهناك حالة من القلق والترقب لدى القيادة السعودية بسبب توجهات ترامب الجديدة حيال المملكة والتي كشفت تصريحاته الأخيرة عن بعض ملامحها بصورة كبيرة، فضلا عن موقفه العدائي الواضح إزاء التنين الصيني، وتوجهاته حيال اللاجئين وغير النظاميين العرب والمسلمين، سواء داخل أمريكا أو خارجها، كما يأتي موقفه الداعم دوما للكيان الصهيوني ليمثل تهديدًا واضحًا لعملية السلام في المنطقة، خاصة بعد تعهده العمل على إلغاء القرار الأممي الصادر مؤخرًا بشأن تجريم بناء المستوطنات الصهيونية فوق الأراضي الفلسطينية المحتلة.
ومن ثم وفي ظل هذه الفوضى التي تشهدها منطقة الشرق الأوسط، مابين صراعات سياسية، وأزمات طائفية، وتهديدات أمنية، وتدخلات خارجية وإقليمية، فإن المهام الموكلة على ترامب للتعامل مع هذه الملفات قد تتجاوز قدرته على تحقيق خطوات إيجابية حيالها بما يعيد للولايات المتحدة دورها الشرق أوسطي، الذي نجحت موسكو في سحب بساطه من تحت الأقدام الأمريكية بشكل كبير في السنوات الأخيرة.
لذا وبعد ساعات من تنصيب الرئيس الأمريكي الجديد، يمكن القول أنه لم يرث أي رئيس جديد فوضى مشابهة في الشرق الأوسط، كما ورثها ترامب، كما أنه في الوقت نفسه، لم يسبق لرئيس أن خلق قلقاً مشابهاً في الأوساط الإسلامية والعربية حيال نواياه، كما خلقها ترامب.. وتبقى القرارات الأولى للرئيس الأكثر جدلًا هي الرموز الأولية لفك شفراته وطلاسمه حيال المنطقة، والتي من خلالها يمكن التنبؤ بما سيصبح عليه شكل العالم خلال الأعوام الأربعة القادمة، فهل يترجم ترامب تصريحاته السابقة- العنصرية في معظمها- حيال المنطقة إلى ممارسات عملية، أم أن الضغوط الممارسة عليه لإعادة النظر في تلك التوجهات من جانب، ومقتضيات المنصب الجديد من جانب آخر، جديرة أن تجبر الرجل على التريث قبل إصدار أي تصريح أو إقرار أي قانون؟ هذا ماسيتضح خلال الأيام القادمة.