في السياسة ليس هنالك أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، بل ثمة مصالح دائمة” كما أن “السياسة هي فن الممكن”.
هكذا يجب أن تمارس السياسة، وهكذا يجب أن تتخذ المواقف، ومن وجهة النظر هذه يمكن تفسير التوجه السياسي للخارجية التركية، فإنه لا يجب أن ننظر إلى المواقف التركية الأخيرة على أنها متذبذبة أو أنها مضطربة، فالتوجه نحو الغرب تارة وصوب الشرق تارة أخرى هي ضرورة يفرضها وجوب تعديل دفة التوازن من أجل المحافظة على سيرورة المصالح، لأن التصلب في المواقف والوقوف في نقطة واحدة بالتأكيد لا يخدم مصالح تركيا، ويجمد عملها وعلاقاتها الدولية.
لقد أخطأت تركيا حينما أسقطت الطائرة الروسية، ظنا منها أن عضويتها في حلف الناتو تحصنها من الرد الروسي، لكنها اكتشفت أن تلك المخاطرة كانت أقرب إلى استدراج أمريكي لها للزج بها في حرب مباشرة مع روسيا
ثم أن معاداة الشرق المتهجم – التحالف الروسي الإيراني السوري- والغرب المتآمر، وقطع العلاقات مع الجميع، قد يدخلها في عزلة دولية تزيد من حدة التآمر عليها، ويدفع بالأطراف المستفيدة من غيابها على الساحة، إلى المساهمة في تهميشها والحرص على إبعادها أكثر فأكثر عن كل ملفات المنطقة، التي هي جزء منها بالضرورة، مما يعود سلبا عليها في محصلة التفاهمات والاتفاقات المحتملة.
من أجل ذلك لم يكن لتركيا أن تصطف مع الشرق ولا مع الغرب بوعي أو بدون وعي من تأثير ذلك الاصطفاف على مصالحها سلبا أو إيجابا.
ثم أن التوجه شرقا لتعديل توازن علاقاتها الدولية مع المحيط والفاعلين فيه لا يعني القطيعة مع الغرب، فإصلاح العلاقة مع روسيا وإيران يتيح لتركيا حركية أكثر وفاعلية أكبر من أن تصير رهينة الرغبات الغربية والكيد الأمريكي، كما يحد إصلاح العلاقة هذا من انتشار القوى الفاعلة في المعضلة السورية على حساب المصالح التركية، لأنه ليس في مقدور تركيا أن تواجه عسكريًا تحالف الشرق، ومخابراتيًا تحالف الغرب، وسياسيًا تخاذل العرب.
لقد أخطأت تركيا حينما أسقطت الطائرة الروسية، ظنا منها أن عضويتها في حلف الناتو تحصنها من الرد الروسي، لكنها اكتشفت أن تلك المخاطرة كانت أقرب إلى استدراج أمريكي لها للزج بها في حرب مباشرة مع روسيا، تجعل من الحرب السورية حربا إقليمية بدءا من العراق مرورا بسوريا وربما ليس انتهاء بتركيا، وكادت تقع ضحية التغرير الغربي الأمريكي بها- كالذي راح ضحيته سكاشفيلي في جورجيا- قبل ذلك.
وما زاد تركيا يقينا بذلك الاستدراج هو الانقلاب الذي تجلت فيه أصابع الغرب الخفية، وهو ما دفع بها إلى مراجعة حساباتها وعلاقاتها مع الحليف الغربي بنوع من البراغماتية الذكية التي تحفظ المصالح التركية، دون الاضرار بالتوجه الانساني لسياستها الخارجية، خاصة تجاه المأساة السورية، فكان لابد من الإبقاء على خيط رفيع من العلاقات مع كل الأطراف.
في السياسة ليس هنالك أصدقاء دائمون، ولا أعداء دائمون، بل ثمة مصالح دائمة” كما أن “السياسة هي فن الممكن”
وربما يدخل تصريح الخارجية التركية بضرورة المشاركة الأمريكية في مفاوضات أستانا في 23 من يناير الجاري، في هذا الإطار من محاولة الإبقاء على الحد الأدنى من تقبل الآخر والتنسيق معه، وذلك للضرورة التي يفرضها واقع التأثير الفعلي للولايات المتحدة الأمريكية كلاعب أساسي على مسرح الأحداث في سوريا، مما يقلل من التأثير السلبي لهذا الفاعل على مسار التسوية التي تجتهد كل من تركيا وروسيا إلى المضي بها قدما وإنجاحها.
إن الشجاعة والجرأة على نقد الذات التي تحلى بها أردوغان في تصحيح أخطاء سياسته -التي اتسمت في فترة ما قبل الانقلاب بالثقة المبالغ فيها بالحلفاء الغربيين- مكنته من تحصين المصالح التركية ولو على حساب المواقف السياسية، وجعلت السياسة التركية تتميز بالكثير من المرونة والقدرة على امتصاص ردود الأفعال المقابلة، بل والالتفاف عليها والإبقاء على قطار السياسة والمصالح التركية ثابتا على سكته، وهو ما يحسب للرئيس التركي الذي أثبت أن المصالح العليا للدولة فوق الاعتبارات والمناكفات الشخصية.