تشكل المكتسبات الحقيقية التي تم تحقيقها من خلال عمليات “قادمون يا نينوى” خطوة أولى باتجاه تثبيت أركان الاستقرار والسلم الأهلي داخل محافظة نينوى، أولى هذه المكتسبات تتمثل بتعميق وتوسعة الشرخ الكبير في الحاضنة التي كانت تتوفر عليها مدينة الموصل طول الأعوام السابقة – بسبب الفساد الامني والسياسي – والتي أصبحت اليوم بيئة طاردة نافرة رافضة لهذا الفكر ولمعتنقيه ومناصريه.
ولعل المكتسب الثاني ذو الأهمية الأوسع هو التفاف سكان المدينة حول القوات الأمنية المحررة وارتفاع مستوى احترافية القوات العراقية المقاتلة التي استطاعت أن تعيد ثقة المواطن بها بعد مآسي 10 حزيران 2014، بينما يمثل المكتسب الثالث وهو بروز طبقة كبيرة من نخب ومفكري وإعلاميي المدينة من الذين كسروا تابوه الخوف والرعب الذي كان يشكله التنظيم في المدينة، وهذه بحد ذاتها إشارة إيجابية بأن الموصل وسكانها قد تغيروا وعلموا جيدًا أن مدينتهم لا يمكن أن تنهض إلا بهم وتعلموا من التجربة القاسية التي خاضوها.
معركة رواد الفكر وقادة الرأي واستعادة الحاضرة المدنية
على الرغم من اقتراب انتهاء عمليات تحرير الموصل خلال الأسابيع القادمة، فإن المدينة تنتظرها معركة أخرى لا تقل شراسة وتحديًا عن معارك التحرير وهي معركة العقول والتنوير التي يجب أن يكون سلاحها العقل والرؤية والفكر المستنير والاعتدال الذهني الذي سيكون البوابة الرئيسة باتجاه حسر هذا التنظيم فكريًا ونفيه خارج المدينة ، بيد أن هذه المعركة تحتاج لاستعدادات كبيرة ومسؤوليات أكبر تقع على عاتق نخب وقادة الرأي ومفكري المدينة الذين يجب أن يتصدوا بشكل مباشر لإدارة مدينتهم ولإعادة إعمارها على وفق مبدأ نكون أو لا نكون.
الشيء الذي يدعو للتفاؤل هو توفر لدى حاضرة الموصل المدنية، مقادير كبيرة من العلم والثقافة والمعرفة والأدب والعمارة والتاريخ والعمق الفكري والبُعد الحضاري والرؤية العقلانية الثابتة والتي يمكن من خلالها أن تبحر بالمدينة باتجاه إعادة إعمار كل شيء من الفكر حتى الحجارة
إن الشيء الذي يدعو للتفاؤل هو توفر لدى حاضرة الموصل المدنية، مقادير كبيرة من العلم والثقافة والمعرفة والأدب والعمارة والتاريخ والعمق الفكري والبُعد الحضاري والرؤية العقلانية الثابتة والتي يمكن من خلالها أن تبحر بالمدينة باتجاه إعادة إعمار كل شيء من الفكر حتى الحجارة، لذا إن هذه المقومات والمحفزات كلها معولات يجب أن تعتكز عليها المدينة في مرحلتها القادمة وفي مرحلة معركة إعادة التأهل الفكري الذي ستخوضه المدينة.
بؤرة هذه الحاضرة المدنية يجب أن تعتمد على خيار التعايش كخط أحمر مقدس وكأولوية لا يمكن التنازل عنها أبدًا في ظل تنوع ديمغرافي إثني لا يقبل القسمة أبدًا مهما حاولنا تقسيمه، فشعار نخب نينوى القادم وروادها وقادتها ومثقفيها يجب أن يحوي بقدر كبير على الترويج لفكرة قبول الآخر كما هو دون محاولة تغيره أو إقصائه مهما كان هناك خلاف بين المنطلقات، بالنهاية كلنا موصليون وشركاء في هذه الجغرافية.
انتهاء داعش سيكولوجيًا وسسيولوجيًا ونموذج الاستحضار الذهني
بينما نقف يوميًا على أعتاب انتصارات عسكرية جديدة من معارك تحرير أحياء مدينة الموصل، يستحضر المواطن الموصلي “المحرر حديثًا” ذهنيًا أيام القهر والبطش والإرهاب التي عاشها في ظل احتلال التنظيم للمدينة طول العامين وأربعة أشهر الماضية، مستحضرًا بالصورة الذهنية كيف تمكن هذا التنظيم من العودة بالمدينة وأهلها وتاريخها العظيم إلى عصور ما قبل التنوير، عصور الظلام والتخلف والعنف القهري والتكفير.
وبعد كل ما جرى في هذه المدينة المنكوبة، لعل الفرضية الأبرز في هذه الأثناء والتي أصبحت بحاجة لإثبات حقيقي أو نفي بشكل جزئي أو كامل تتمثل بالسؤال المركزي المتعلق بهل سينتهي تنظيم داعش بشكل كلي من مدينة الموصل؟ لا سيما ونحن نقف على أعتاب انتهاء معارك تحرير الساحل الأيسر بالكامل.
إن أي عملية استعراض ورؤية ميدانية سريعة للواقع السيكلوجي والسسيولوجي “المصلاوي” ستشير بشكل لا يقبل الشك حالة النفور القصوى والرفض التام من قبل المواطنين في المدينة – ذات الحاضرة المدنية الثقافية العميقة عمق التاريخ والبشرية – حيال التنظيم والتي تعيشها المناطق المحررة طول الفترة الماضية على الاحتلال فضلاً عن انتهاء أي مظهر من مظاهر وجود عناصر التنظيم وعوائلهم ومبايعيه في الأحياء المحررة كافة.
لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا أن أولى بوادر وعلامات انتهاء التنظيم في المحافظة تنطلق من الواقع السيكولوجي والسسيولوجي الإيجابي للمواطن الذي تعرض لتجربة قاسية جدًا بكل مقاييس الإنسانية طول المرحلة السابقة
ولعلنا لا نجانب الحقيقة إذا ما قلنا أن أولى بوادر وعلامات انتهاء التنظيم في المحافظة تنطلق من الواقع السيكولوجي والسسيولوجي الإيجابي للمواطن الذي تعرض لتجربة قاسية جدًا بكل مقاييس الإنسانية طول المرحلة السابقة، فمنطلقات الأمن الجديدة التي يجب أن تتبع في المحافظة يجب أن تكون بدايتها من خلال تفعيل وتوظيف دور “أمن المعلومة البشرية” النابعة من البُعد السيكولوجي الرافض للتنظيم من قبل المواطنين في المدينة والتي أثبت سكانها وبتأكيد من قبل قادة العمليات المشتركة في المحافظة أنه لولا تعاون السكان المحليين لما استطعنا تحقيق هذا النصر والتقدم في عمق المدينة (وهي إشارة إيجابية تدلل على نهاية داعش في المدينة على المدى القصير).
موت الحواضن الخصبة
من هذا المنطلق، تبرز ملامح أولية لبداية حقيقية تنبئ بشكل لا يقبل الجدال أن التنظيم رفُض رفضًا قاطعًا داخل المدينة، وهي خطوة إيجابية كبيرة يجب أن توظف بالاتجاه الصحيح من قبل الإدارة العسكرية والمدنية في المحافظة في المرحلة الجديدة، فالمحافظة على هذا المكتسب يحتاج لجهود حثيثة تمنع منابع التنظيم من التدفق من جديد، وهذا يعني كذلك بكل تأكيد انتفاء فكرة الحواضن الخصبة التي كان التنظيم يعيش فيها كخلايا نائمة قبل الاحتلال وصعوبة عودته بعد التحرير لما سببه من دمار طال كل شيء داخل المدينة من ممتلكات فردية دمرها التنظيم أو استولى عليها غصبًا من المواطنين بحجة القتال أو ممتلكات عامة والتي ما فارقها التنظيم وانسحب منها إلا وحرقها أو فجرها أو نقل محتوياتها الثمينة.
احتمالات العودة العكسية وأسبابها
إن فرضية إنهاء داعش في الموصل لا يمكن أن تكون مترامية الانضباط من كل النواحي بسبب أننا نتحدث عن فكر لا يمكن السيطرة عليه وعلى معتنقيه إلا باستراتيجية تدرجية تبدأ منذ أصغر وحدة تربوية في المحافظة حتى أعلاها وبشبكة عريضة من وسائل الإعلام وبإعلام مضاد موجه يلعب دور المصدات الفكرية التي تمنع انتشار هكذا أفكار من جديد وعودته ككيان موازٍ من جديد.
داعش وكما أثبتت التجربة، ولد نتيجة الإهمال والبطش والتخلف والفساد العسكري والأمني المنتشر
كذلك فإن التنظيم وكما أثبتت التجربة، ولد نتيجة الإهمال والبطش والتخلف والفساد العسكري والأمني المنتشر، فإن عدم تجاوز هذه النقطة وعودة الأمور على ما كانت عليه الوضع قبل عام 2014 سيساعد كثيرًا بالعودة التدريجية للخلايا النائمة ومما سيشكل خيبة أمل كبيرة أمام المواطنين وهذه من أخطر عقبات إدارة المرحلة الجديدة القادمة.