بدأت قبل نحو 10 أيام، موجة جديدة من الاحتجاجات وحالة تذمُّر واسعة تعمّ عدة مناطق خاضعة لإدارة نظام الأسد، رافقتها جملة من التحركات المفاجئة، تمثلت في ظهور حركة أسمت نفسها “حركة الضباط العلويين الأحرار” في بيان مصوّر في العاشر من الشهر الجاري، من الجبال المطلّة على مدينة القرداحة بريف اللاذقية، تعلن فيه تمسكها بانتقال سوريا إلى دولة قانون من خلال تأمين فترة حكم انتقالي وضمان بيئة آمنة ومحايدة، من خلال القرار الأممي 2254 والقرارات الشرعية الدولية ذات الصلة.
كما تعهّد بيانها بتسليم كل من أجرم بحق الشعب السوري إلى العدالة المختصة، وشدد على ضرورة إطلاق سراح المعتقلين وسجناء الرأي، وتبييض ما أسماها السجون السورية، والكشف عن مصير المفقودين والمجازر الجماعية، إضافة إلى معالجة كافة أشكال التغيير الديموغرافي وطرد إيران وأدواتها ومحاربة الإرهاب وإخراج القوى الأجنبية.
ويبدو من خلال البيان ارتباط الحركة بمشروع المجلس العسكري السوري الذي أعلن عنه العميد مناف طلاس في حزيران/ يونيو الماضي، إذ نشر المجلس العسكري بيان وفيديو الحركة فيما يلاحَظ غموض واسع لا يزال يكتنف هوية الحركة، إذ إن أسلوب عملها يشبه بدرجة كبيرة عمل التنسيقيات والعمل العسكري السري إبّان انطلاق الثورة عام 2011، فضلًا عن توقيت ظهورها وسببه المباشر بعد أكثر من عقد على اندلاع الانتفاضة السورية.
بالتزامن مع ظهور حركة الضباط العلويين الأحرار، أعلنت مجموعة سورية تحت اسم “حركة 10 آب” عن انطلاق حراك مطلبي داخل مناطق سيطرة النظام، حيث أظهرت مقاطع مصورة في عدد من المدن والبلدات السورية قيام مجموعة من الشبان بنشر قصاصات ورقية تحدد الهدف الذي انطلقت على أساسه الحركة.
كررت الحركة في عدة بيانات مطالبها بالعمل لأجل إحداث تغيير سياسي واجتماعي شامل بشكل سلمي، بهدف إعادة سلطة الشعب للشعب وإنهاء معاناة الشعب السوري من سوء إدارة شؤون البلاد، كرفع الرواتب وتحسين الكهرباء، وإصدار جوازات سفر بمدة أقل من الشهر، وإعادة الدعم للخبز والمازوت والبنزين.
فيما تناولت عبر صفحتها بفيسبوك في 20 أغسطس/ آب الجاري أهدافها التي رفعت من خلالها سقف مطالبها مقارنة ببيانها الأول، وتلخّصت أهدافها التي حملت بعضها مطالب المعارضة السورية في المحافل الدولية بـ:
- الدفع باتجاه تطبيق القرار الأممي 2254 بأسرع وقت.
- العمل على معرفة مصير جميع المعتقلين السياسيين والمطالبة بهم.
- القضاء على الطائفية والعنصرية عبر تكريس مفهوم وحدة المصير.
- تكوين مظلة جامعة لكل السوريين على اختلافهم، نعمل من خلالها على دفع وتوجيه عجلة التغيير في سوريا.
- تشجيع ورعاية أي حوار سوري-سوري حقيقي يمثل جميع أطياف المجتمع.
- انتشال سوريا من مستنقع التخلف والفقر، والعمل على بناء وطن قادر على استيعاب أبنائه جميعهم.
- العمل على توفير بيئة آمنة لعودة جميع أهلنا المهجّرين وإنهاء معاناتهم بالمخيمات.
- تأمين الخلاص للمجندين الشباب بالخدمة العسكرية الإجبارية وإنهاء معاناتهم.
- تصحيح البوصلة الأخلاقية والوطنية لأفراد القوى العسكرية السورية على اختلاف تبعيتهم.
- العمل على محاسبة مجرمي الحرب من جميع أطراف الأزمة السورية.
وتعهّدت الحركة بالالتزام بما أسمتها اللاءات الخمس، وهي: لا للذل، لا للسلاح، لا للدم، لا للتطرف، لا للتقسيم.
وفي الوقت الذي يشكّك فيه البعض بقدرة الحركة على إحداث تغيير فاعل في موقف المجتمع لا سيما الموالي، كون النظام استطاع في ذروة قوة الثورة وامتداد تنظيماتها على مساحات واسعة من الجغرافيا السورية إعادة هيمنته على معظم تلك المساحات، فضلًا عن تشبُّع الذاكرة السورية بمشاهد القتل والتعذيب والإبادة والحرق، فكيف الآن وهو يقابل (النظام) تهافتًا إقليميًّا وعربيًّا للتقارب معه من جهة، ومن جهة أخرى ما نصادفه من احتجاجات هنا وهناك لا تمثّل شيئًا أمام أوج الاحتجاجات الكبيرة في الثلاث سنوات الأولى من عمر الثورة، والتي لم يرتدع النظام عن مواجهتها بالأسلحة الثقيلة.
يختلف الباحث السياسي عبد الكريم العمر مع هذه النظرة، إذ يقول لـ”نون بوست”: “إن أي حراك تمثله أي جهة تمارس حقها في الاحتجاج أو مجرد الكلمة والكتابات الجدرانية هو محل احترام وتقدير، لا سيما إن كان هذا الحراك من داخل الحاضنة الموالية والمناطق الخاضعة للنظام كونها محاطة بقبضة أمنية ومخابرات وحشية، لأنها تدفع في الإسراع بسقوطه وتشكُّل عامل ضغط بالنسبة إليه، بسبب اتساع الرقعة وتفلُّت الأمور وتشجيع باقي الطوائف للاحتجاجات”.
مطالب انتفاضة 2011 تمثلنا
يوسف ونوس، المنسق في “حركة 10 آب”، أشار في حديثه لـ”نون بوست” إلى أن ما فعلته “حركة 10 آب” هو تحريض النقاش السياسي في الداخل مجددًا، و”التحدث بأفكارنا وأفكار من يشبهنا من الناس، لأن المعارضة التقليدية بعيدة كل البُعد عن تمثيل الشارع السوري، والنظام بالطبع هو نظام ديكتاتوري لا يعنيه الشارع على الإطلاق، لأنه المستفيد الوحيد إلى جانب أمراء الحرب لكل الأطراف من تشرذم الشارع السوري”.
ولفت إلى أن مطالب الحركة في بيانها الأول كانت بسقف منخفض كمطالب انتفاضة 2011 التي تمثلنا بحسبه، وهذا ما تعمل الحركة على توضيحه للجميع عبر تكريس مفهوم وحدة المصير، لأن الحاجة ماسّة إلى حل سوري يحصد السوريون نتائجه، فأي حل يفرض علينا من الخارج سيمثل مصالح من فرضه علينا بالدرجة الأولى قبل مصلحة السوريين، حسب تعبيره.
في آخر بيان لها، دعت الحركة جميع أنصار الحركة، أفرادًا وجماعات، إلى ما أسمته عدم تكرار الأخطاء السابقة فيما يخصّ حصر النزول إلى ساحات الاعتصام بيوم الجمعة، كونها سمحت للنظام باتخاذ الإجراءات الأمنية المناسبة لمواجهتها وقمعها، إضافة إلى عدم المخاطرة بالتظاهر في مناطق سيطرة النظام وابتكار آليات كفاح سلمي جديدة ومؤثرة وجامعة لكافة أفراد ومكونات الشعب.
يوضّح ونوس أن “حركة 10 آب” تقف مع أي حراك شعبي سوري، لا سيما أن الأوضاع قابلة للانفجار في أي لحظة نتيجة عقلية النظام الحجرية وإصراره المذهل على أساليبه القمعية ذاتها، وهذا جيد من جهة -حسب ونوس- لأنه يوضّح حقيقة الأمور لكل أبناء الشعب، حتى المغيّبين منهم الذين بدأنا نسمع أصواتهم المعترضة والمحتجة على النظام اليوم.
ويكمل ونوس: “قد تكون الشرارة حادثًا مؤسفًا ينتج عنه هجوم للنظام على المدنيين أو اعتقال أشخاص مؤثرين من منطقة ما، نحن الآن في مرحلة ما قبل ثورية ولا نرغب بدفع الناس إلى الشارع تجنبًا للدخول مجددًا في دوامة العنف، لكن رغبة الشارع تتحكم بنا وليس العكس، وإذا حصل الحراك الشعبي المنشود سنكون جزءًا منه بالتأكيد”.
صرخات في الساحل
يعدّ الساحل السوري معقل الحاضنة الموالية لنظام الأسد، إلا أن ذلك لم يمنع من كسر حالة الصمت والخوف بين التنظيمات الداعية إلى تنفيذ إضرابات سلمية عامة، احتجاجًا على سرقة سلطة النظام أموال وحقوق السوريين، كـ”التجمع الشبابي في حركة الشغل المدني” الناشط في الساحل السوري، إضافة إلى خروج أصوات فردية منتمية لطائفة النظام على مواقع التواصل الاجتماعي، توجّه انتقادات لاذعة لرأس النظام وزوجته أسماء الأخرس التي تهيمن على قطاعات اقتصادية واسعة.
أحد هذه التسجيلات نشرها أيمن فارس من مدينة بانياس الساحلية، انتقد فيه رأس النظام بقوله: “ماذا فعلت أنت وزوجتك يا بشار الأسد؟ أفقرتم الشعب وتهرّبان الأموال للخارج. سوريا كلها عبارة عن أفرع أمنية ورؤسائها يتحدثون بالقصور والمليارات.. وروح بلّط البحر”.
لم تمضِ ساعات على التسجيل حتى تبعه بث مباشر عبر فيسبوك لناشط من محافظة اللاذقية، قائلًا فيه: “أنت يا بشار الأسد أطلقت عام 2011 شعار “الله سوريا شعبي وبس”.. لكنك منافق وكاذب (..) نحن الآن في عام 2023 والبلد تتجه إلى ثورة كرامة جديدة”.
مضيفًا: “لن أصف الثورة الماضية بالعمالة، لكن سأختصر عليك كل التهم التي تم توجيهها لثورة 2011 من عمالة وغيرها، لأنه لا يوجد الآن لا “داعش” ولا جبهة النصرة ولا عرعور آخر في السعودية يستنفر الشعب، الآن هناك حقيقة واحدة فقط هي أن البلد قامت ورح نكسر راسك”، حسب وصفه.
ولا تزال المظاهرات والإضرابات والقصاصات الورقية وحملات التحريض على التظاهر تتصدر المشهد السوري منذ عدة أيام، وسط حالة ترقب واستنفار من النظام تجاه تلك الاحتجاجات، لا سيما في السويداء ذات الأغلبية الدرزية جنوب سوريا، والساحل معقل حاضنته من أبناء الطائفة العلوية التي خاب أملها في تحسن الوضع المعيشي بعد 13 عامًا من حرب طاحنة.
فالغالبية من الطائفة العلوية تعيش على راتب الوظيفة التي لا تتعدى 10 دولارات أمريكية، ومن الزراعة التي تعاني نقصًا في المياه وارتفاعًا في وسائل الزراعة وأدواتها والمبيدات والسماد، هذا غير المعاناة اليومية في تأمين المحروقات لأراضيهم وبيوتهم وتنقلاتهم إلى أراضيهم.
نوّه عيسى إبراهيم، وهو الناطق الرسمي باسم “حركة الضباط العلويين الأحرار”، إلى ملاحظة بدء حراك مدني سلمي في الساحل السوري، وجرت خلال الأيام الماضية عدة محاولات لمنعه بالقوة وتهديد السلاح في جبلة واللاذقية، ومع ذلك فإن قادم الأيام سيكون مبشرًا للتحرك السلمي الذي ندعمه معنويًّا فقط، ونرفض أي حراك غير سلمي.
مضيفًا أن “حركة الضباط العلويين الأحرار” تدعم معنويًّا التظاهرات السلمية للسوريين جميعًا ولا تتدخل بها، بما في ذلك ما يجري حاليًّا من تظاهر مدني سلمي في محافظتَي درعا والسويداء، وهي تدعم معنويًّا جهات مدنية من قبيل “حركة الشغل المدني في سوريا” و”التجمع الشبابي لحركة الشغل المدني – الساحل السوري”، وأي حراك مدني سلمي يجري في أي منطقة من سوريا للوصول إلى دولة القانون، وقد جرى قبلًا مع جبهة الإنقاذ الوطني التي وقّعت معها “حركة الضباط العلويين الأحرار” بتاريخ فبراير/ شباط 2018 ما عُرف لاحقًا بـ”ميثاق باريس”.
وختم إبراهيم حديثه بالقول: “نؤكد أن الدور الذي تسعى إليه الحركة هو منع تداعيات كارثية تعقب سقوط النظام، أو المساعدة بمنع حدوث حرب أهلية يسعى إليها الأسد الابن الآن من أجل استرجاع سيطرته، لا سيما أنه منذ عدة سنوات محمي في قصره من قبل ضباط إيرانيين وروس وليس من قبل ضباط سوريين”.
استثمار الأقلية المعارِضة
منذ الأشهر الأولى لاندلاع الثورة السورية، سارع النظام في إعلامه لبثّ دعاية عن وقوف دعاة الإمارات الإسلامية والسلفية الجهادية وراءها، كما ذهب عبر روايته المسرّبة والموجّهة لمناطق العلويين أن الاحتجاجات مذهبية بحتة، فعملَ على تحشيد بعض العلويين في بعض المناطق ضد المتظاهرين بشكل اجتماعي دون بنى حزبية أو نقابية أو منظمات سياسية (كما حدث في الثمانينيات) حتى يتم اختطاف بقية الطائفة نفسيًّا، بحيث يشعرون بأنهم بعد سقوط النظام لن يبقى لهم مكان للإقامة في هذه القرى أو البلدات أو المدن.
واستمرت منهجية النظام في الاستثمار الطائفي السياسي بأشكال مختلفة، وقد ساعد على تبني فكرته ونجاحها ظهور بعض المعارضين الذين استطاعوا العزف على نفس اللحن القديم المتجدد، وشحن الجو النفسي، وإدخال الأطراف المتصارعة في هذا المزاج.
الباحث السياسي عبد الكريم العمر، رأى أن نظام الأسد مخابراتي من العيار الثقيل، فقد روّج منذ بدايات الحراك السوري عبر وسائل إعلامه أن الحراك متطرف يستهدف الأقليات ويحرض عليهم، وقد قدّم تنظيم “داعش” الخدمة الأكبر للنظام لتسويق هذه الفكرة، بعد أن قدم مقاطع فيديو تتوعّد الأقليات بالذبح والقتل.
وحسب العمر، فإن أي حراك في الساحل وتحديدًا من العلويين يجب أن يستثمَر من قبل المعارضة السورية، لأنه يسرّع من عملية التغيير السياسي الشامل في سوريا، و”قد لاحظنا -يتابع العمر- مقاطع صادرة من الساحل السوري تظهر حالة من التململ لدى الطائفة العلوية، إذ وجدوا أنفسهم أمام مشهد يلخّص خسارة أبنائهم في الحرب على السوريين من جهة وحالة معيشية متدهورة من جهة أخرى، في الوقت الذي يعيش فيه أبناء المسؤولين والمقربين من النظام حياة وردية، فهم باتوا يدركون أن أي تأخر في عملية التغيير يعني المزيد من المآسي”.
ختامًا، اختبر السوريون طوال العقد الماضي وحشية الأسد وآلياته الدموية في التعامل مع أي حراك معارض يسعى لإسقاطه، الأمر الذي يضع المحتجين في هذه الجولة أمام تحدي رسم حدود سقف مطالبهم وتحديد طبيعة حراكهم.