أشرت في مقال سابق إلى أن الدستور التونسي الجديد (دستور 2014) وضع أسسًا جديدة للحكم المحلي من شأنها أن تشرع لتفكيك التحكم المركزي في الدولة كما بنيت في أول الاستقلال ووضعت كل السلطات في يد الرئيس ووضعت كل القرارات والتنفيذ في العاصمة، جاعلة من بقية المناطق أذيالاً ملحقة برأس لا يراها، في حين وضع الدستور بابًا (الباب السابع) أسماه باب الحكم المحلي.
والأمل أن يتحول هذا الباب إلى طريق جديدة لدولة جديدة تتجاوز مخلفات المركزية ومخلفات الزعامة وتعطي سلطة تفكير وقرار لساكني المناطق الطرفية وتشرّكهم في إدارة شؤونهم المحلية بواسطة تكريس الانتخاب والفرز على أساس الكفاءة، وهو من شأنه أن يخلق نخبًا أخرى وأنماط تفكير وأفعال يمكن وصفها بما بعد الأيديولوجيا، ولكن قبل تبيان نجاعة هذا النموذج الجديد يفضل النظر إلى محدودية نمط الحكم المركزي، فمن فشله جاء البديل.
نموذج الدولة الضفدع
كان أنزو فالتو (Enzo Faletto) المؤرخ وعالم الاجتماعي الشيلي المتخصص في نظرية التبعية وفرنادو كردوز (Fernando Cardoso) عالم الاجتماع الذي وصل إلى رئاسة البرازيل، يشبهان نموذج الدول النامية بفرخ الضفدع (الشرغوف) قبل أن يكتمل نموه، ووجه المقارنة هو أن هذا الكائن المتحول من بيضة إلى ضفدعة يولد كسمكة ثم ينمو له رأس كبيرة ويتلاشى ذيله بالتدريج حتى يسقط، حينها يكتمل نمو الضفدع، وكان يطيب لهما تشبيه عواصم الدول النامية بتلك الرأس التي تستولي على الذيل حتى تعدمه.
نمت دول مثل تونس ومصر والجزائر على هذا المنوال، فتحولت العواصم إلى كيانات تلتهم الدواخل وتفقرها ماديًا وثقافيًا حيث تتمركز سلطة القرار الاقتصادي والسياسي والثقافي في العواصم وتعدم فيها كل إمكانية تطور ذاتي
وقد نمت دول مثل تونس ومصر والجزائر على هذا المنوال، فتحولت العواصم إلى كيانات تلتهم الدواخل وتفقرها ماديًا وثقافيًا حيث تتمركز سلطة القرار الاقتصادي والسياسي والثقافي في العواصم وتعدم فيها كل إمكانية تطور ذاتي، فهي ملحقة بالعاصمة إلحاق الذيل بالرأس، لقد كان إعدام الأطراف أيسر لدى الحاكم المركزي من تنميتها، حتى تحول الإلحاق إلى وسيلة حكم تؤبد الحاجة إلى العاصمة وإلى حاكمها الذي ينتقل للفرجة والتجوال في المناطق ويتفضل بمشروع هنا وآخر هناك.
استنفذ هذا النموذج وفقد قدرته على الفعل السياسي والتنموي المنتج والعادل وتحول إلى عبء على الدولة ووسيلة قهر اجتماعي للأطراف، لذلك جاءت الثورة لتكسره وتقترح البديل عبر نموذج الحكم المحلي، ولذلك أيضًا نعيش في تونس هذه الأيام نوعًا من المقاومة الشرسة لاحتمالات المرور إلى تطبيق الحكم المحلي، وذلك من خلال تأجيل إصدار القانون الانتخابي المنظم لذلك، ويسعى المركز (الذي تعبر عنه الأجهزة الإدارية المحافظة والأحزاب الوريثة للمنظومة القديمة) إلى عرقلة كل تقدم في هذا الاتجاه لأنه يعرف ربما أكثر من أنصار الثورة مغبة أن يفقد المركز سلطته، لا حياة للشرغوف إلا بموت الذيل، وهنا تتضح صورة كما رسمها فالتو وكردوزو بشكل دقيق المجتمعات ليست ضفادع، ونموها لا يكون بيولوجيًا بحتًا.
الحكم المحلي نقيض المركزية
رغم أننا لا نزال في مرحلة التصورات الأولى (النظرية وربما الحالمة) ولكن هناك معطيات يجب إبرازها، وأهمها أن نماذج الحكم في دولة مثل تونس (الأمر متطابق في مصر وليبيا وسوريا والجزائر والمغرب) هي نماذج مستحدثة على نمط غربي حديث استلهم (كما سبق القول) نموذج الدولة الفرنسية، وهذا النموذج المركزي (الأوروبي) تعرض لنقد شديد من داخله وأهم طعن كان غياب الفعالية نتيجة سيطرة العواصم على القرار (وداخل ذلك سيطرة الزعيم على كل القرارات وهي خصوصية عربية في نماذج الدول الشرغوف)، ولذلك نتابع هناك عملية تفكيك مستمرة بدأت منذ الثمانينيات ولا تزال متواصلة، كما نتابع صعوبات ذلك في الواقع المحلي ولكن نتابع أيضًا نتائج النجاعة الحاصلة والشفافية المطردة في إدارة الشأن المحلي ضمن الشأن العام.
إذا كان الفساد المالي والسياسي هو أكبر المعضلات التي تعاني منها الدول النامية، فإن نموذج الحكم المحلي هو الوسيلة الأنجع لرفع مستويات الشفافية
وإذا كان الفساد المالي والسياسي هو أكبر المعضلات التي تعاني منها الدول النامية، فإن نموذج الحكم المحلي هو الوسيلة الأنجع لرفع مستويات الشفافية والحكم الرشيد، لما يمنحه من قدرة على المراقبة الموضعية للمال العام وللتصرف في الموارد المشتركة، وإذا كانت العواصم قد اشتغلت دومًا كمغناطيس جاذب للنخب والقدرات ومذوب لها ومفقر للدواخل من كل قدرة على الإبداع فإن احتمالات الحكم المحلي هي إقرار الكفاءات في مجال حركتها الممكن (محليًا) وتمكينها من الفعل عبر التنظيم والمشاركة الانتخابية.
لقد تكالب التونسيون في انتخابات 2011 على الترشح لانتخابات المجلس التأسيسي في قوائم حزبية وأخرى مستقلة، وقد فُسِر بعض ذلك التكالب على أنه تلهف على مغنم سياسي ومالي، ولكن بعض معناه الذي غاب في حينه هو أنه كشف وجود نخب وكفاءات وطموحات محلية كثيرة وكشف رغبة كبيرة في المشاركة في إدارة الشأن العام رغم أن ذلك كان يجري ضمن نموذج المركزية الذي لم يع الناس حينها أنه نموذج مستهدف من الثورة، (في سياق آخر سنعود إليه في موضعه يمكن القول بثقة إن التلهف/ الاستباق الانتخابي الذي تم في حالتي الثورة التونسية والمصرية كان لعبة مركزية متقنة لإنقاذ المركز بإعادة تكريسه سلطة دائمة بعد ثورة وهو من أخطاء النخب الجديدة التي كان من مصلحتها قرصنة الثورة لحساباتها الحزبية).
تلك الرغبة في المشاركة (أو حتى التلهف الغنائمي) لن يجد له متنفسًا دخل النموذج المركزي، فالأماكن محجوزة من زمان لأصحابها، وتعتبر الحالة التونسية نموذجية لجهة توريث المواقع الاجتماعية عبر المحافظة على مركزية السلطة، فالرئيس الحالي ورئيس حكومته المختار وأغلب وزرائه أعلنوا العداء للثورة وللتحولات الاجتماعية التي تنادي بها لكنهم كانوا في وضع تاريخي مكن لهم اعتلاء المنابر وإعادة الحكم إلى طبقتهم وحيهم وثقافتهم المركزية بامتياز، وما كان لهم أن يغنموا من الثورة التي قامت عليهم لو كان الحكم غير مركز في جهة ومنطقة وطبقة.
أفق الحكم المحلي
التبشير بهذا النموذج سهل وإبراز منافعه ممكن في المستوى النظري لكن المرور إلى تطبيقه ليس بالسهولة المتوقعة، ففضلاً عن المقاومة التي تلاقيها من المركز نفسه فإن المناطق (الأقاليم) تحتاج المرور عبر درب طويل حتى تقدر على المشاركة، فالنموذج يقدم صورة أخرى للدولة وللمجتمع ولتوزيع الأدوار داخلها وبناء الثقة بين المحلي والمركزي في مستويات لا يمكن تفكيكها كالسياسات الخارجية والدفاعية هذا فضلاً عن احتمال إيقاظ فتن هاجعة يخشى من إيقاظها كالولاءات القبيلة والعروش التي ذوّبها المركز باسم الولاء للدولة أولاً (وهو من الفزاعات التي يتحجج بها المركز الآن).
لكن قبل الغرق في التفاصيل التنفيذية التي تحتاج فعلاً مدى زمنيًا طويلاً وجهدًا تنظيريًا ثم تشريعيًا طويل النفس، يحتاج التفكير على أسس لا مركزية إلى إعادة بناء تصورات عامة ومؤسسة لنموذج دولة جديدة غير معادية للمركز وغير تفكيكية، منطلق التفكير هو كيف نحافظ على الدولة ونعطي في ذات الوقت سلطة قرار للأهالي على مقدراتهم وبكفاءاتهم الذاتية ضمن الدولة لا ضدها.
أول الخطوات في تفكيك المركز هي وضع التصورات غير الشمولية في بناء صورة العالم والتفكير الإداري غير المركزي في تنمية المجتمع
هذه التجارب قائمة في بعض الدول الغربية وفي بعض الولايات الأمريكية ولم تؤد إلى تفكيك الدول ولكنها أنتجت واقعًا مختلفًا يسمح بمشاركة واسعة ويوظف إمكانيات المجتمع البشرية والمادية، وقد أعاد بناء النماذج النظرية والتطبيقية للدول التي سعت فيه بتؤدة وروية لم تكن خالية من العوائق والصعوبات، ولا نحسب أن تلك الدول خالية من ولاءات أولية (ربما ليست قبلية كما هو الشأن في المجتمع العربي الذي لا تزال القبيلة حية فيه).
إن أول الخطوات في تفكيك المركز هي وضع التصورات غير الشمولية في بناء صورة العالم والتفكير الإداري غير المركزي في تنمية المجتمع بما يمكن لكفاءاته المطمورة بفعل محدودية المشاركة، وثانيها العمل الثقافي الطويل النفس لتحفيز المشاركة ضمن الدولة لا ضدها، بما يجعل الدولة كيانًا ضروريًا ومفيدًا وليس كيانًا غاصبًا وقهريًا مفروضًا، بل بوابة انتماء ومشاركة لا خضوع وطاعة.
إنها نظرية أخرى في الحكم تؤمن بالتعدد والاختلاف ضمن سياق وطني موحد وجامع، وهذا مسار له بداية وله أفق لكنه مليء بالصعوبات والعوائق، تقتضي عدم الرهبة من مواجهتها والتسلح لها بثقافة جديدة أساسها المواطنة الكاملة لا ذيل الشرغوف.