قبل بضعة أيام وبينما كنت أتناول الشاي في أحد المطاعم، منتظرًا وجبة العشاء، منهكًا أتضور جوعًا، جلس اثنان على الطاولة المجاورة لطاولتي، وبعد أن طلب أحدهم الشاي أيضًا، دخلا شيئًا فشيئًا في نقاش غلب عليه الألفة والهدوء، وبكل ودّ يستسمح أحدهم الآخر بالاختلاف ثم يسرد رأيه منهيًا ذلك باعتذار شديد على المقاطعة مانحًا الآخر الفرصة لإكمال ما بدأ بسرده، استمر النقاش بسلاسة وبدأ الاثنان في التنقّل من موضوع لآخر بكل رقي أثار دهشتي!
جائت وجبة العشاء فانشغلت عنهم قليلًا منهمكًا بتركيزٍ عالٍ في الطعام، وأنا في حالة استرخاء ذهني مع الموسيقى الهادئة التي كانت تغمر المكان عذوبة ورقة، وبينما كنت على هذا الحال فجأة تعالت أصوات من الطاولة المجاورة واحتد النقاش فيما بينهما، وبدأ كلّ شخص يحاول أن يبررّ موقفه بقوة الصوت لا بالرأي، متهمًا الآخر في نواياه، مشككًا في شخصه، بعد أن كانا قبيل قليل في حالة من الوئام التام.
أثار هذا الجدل في رأسي الكثير من التساؤلات وأشعل في داخلي الحماسة لمحاولة فهم ما حدث للتو، وكيف يبدأ النقاش بين بعضنا هادئًا ويستمر كذلك إلا أن تحدث حالة من الانفجار والفوضوى الكلامية، وتبادل الاتهامات والتشكيك في النوايا ومحاولة سلب الآخر حقّه في الرد، ثم ما تلبث هذه المجالس حتى تنفضّ، ويُضمِر أحدنا للآخر كل الكره والاحتقار بدلاً من الودّ والاحترام الذي كان غالبًا، فنمضي إلى ديارنا متنابذين، متشبثين تعصبًا بآرائنا!
نحن دائمًا نختلف باختلاف آرائنا ونتفق باتفاق آرائنا التي هي أيضًا غير ثابتة دائمًا، لأنها غير مبينية في الغالب على أساس منطقي بل على أساس الهوى والرغبة
لذلك نحن دائمًا نختلف باختلاف آرائنا ونتفق باتفاق آرائنا التي هي أيضًا غير ثابتة دائمًا، لأنها غير مبينية في الغالب على أساس منطقي بل على أساس الهوى والرغبة، فلذلك هي هشة وقابلة للهدم أمام أدنى ريح قد تعصف بها، وعلى الرغم من ضعف هاته الآراء الآيلة للسقوط في أي لحظة نجدها هي المحرّك الرئيسي لشعوبنا، فنراهم مندفعين ومتحمسين لآرائهم لا يقبلون حتى النقاش أو إعادة النظر في الموضوع على الأقل من زاوية أخرى.
لذلك تنشأ البغضاء والكراهية داخل المجتمعات المتخلفة بسبب هذه الآراء الهشة والجامدة، فهي الشرط المرهون في التعامل مع الآخر أو حتى قبول ورفض ما قد يبديه من رؤى وتصورات في موضوعات أخرى قد تكون بعيدة تمام البعد عن هذا الرأي الجامد، والسبب كما ذكرت لأنها آراء غير مبنية على أساس منطقي وموضوع، وإنما تم إبداؤها لأهواء وأغراض أخرى قد تكون ربما طائفية أو قبلية أو عرقية بحسب طبيعة المجتمع!
الانصياع التام للعواطف والرغبات يؤدي مباشرة لإهمال وإغفال العقل في تكوّن هذه الآراء وتحديد مسارها في التقاطع
فالانصياع التام للعواطف والرغبات يؤدي مباشرة لإهمال وإغفال العقل في تكوّن هذه الآراء وتحديد مسارها في التقاطع مع الآراء الأخرى المبنية على ذات الأساس الهشّ، بسبب خفوت صوت العقل الذي أدى إلى ارتفاع صوت الغضب والاندفاع دون تبرير ضد الآخر، سواء بالعنف اللفظي أو الجسدي أو ما دونهما من نظرات شزر.
في النهاية الموضوع طويل ومتشعّب ومن الصعب إيفائه الحق الكافي في مقال أو اثنين، لكننا لا نملك سوى التحذير من الانجراف خلف فوضى الآراء، والحث على الهدوء والتروي قبل الاندفاع مع رأي أو التصدي له دون تمحيصه، وذلك لا يكون إلا بإعمال العقل وإهمال العاطفة، كي يستيقظ الضمير الذي نادرًا ما يستيقظ.