ارتفعت وتيرة التهديدات الإسرائيلية لحركة المقاومة الإسلامية “حماس” خلال الأيام الأخيرة بشكل لافت، في أعقاب سلسلة العمليات التي شهدتها الضفة الغربية المحتلة، والتي أدّت إلى ارتفاع أعداد القتلى الإسرائيليين منذ بداية العام إلى 36 قتيلًا، من بينهم مستوطنون وجنود.
تركّز التهديدات الإسرائيلية خلال الفترة الحالية على صالح العاروري، نائب رئيس الحركة وقائد ساحتها في الضفة الغربية المحتلة المبعَد إلى الخارج، إذ تتهمه المنظومة الأمنية والعسكرية بأنه وراء بناء البنية التحتية للحركة في الضفة، هو وآخرون من الأسرى المحررين المبعَدين إلى غزة والخارج.
رد العاروري على التهديدات الإسرائيلية بالاغتيال، بعبارة قال فيها: “عمري الافتراضي انتهى”، فيما بعث برسائل ساخنة متعلقة باحتمالية اشتعال حرب شاملة على عدة جبهات.
فلسطينيًّا، يرى البعض أن التهديد بالاغتيال لا يعني بالضرورة عزم المنظومة الأمنية والعسكرية الإسرائيلية تنفيذ هذا التهديد، إلا أن التجارب السابقة تجعل من هذا الرأي أقل واقعية بالنظر إلى تاريخ الاغتيالات سابقة، بدايةً من أبو حسن سلامة مرورًا بصلاح شحادة وأحمد ياسين وخليل الوزير صلاح خلف وبهاء أبو العطا وخليل البهتيني، إذ سبقت عمليات اغتيالهم حملات إعلامية ودعائية إسرائيلية.
لكن، لهذه التهديدات طابع مختلف لا يتمثل في ساحة غزة إنما ساحة الضفة الغربية المحتلة، التي عادت فيها المقاومة بشكل مغاير إلى الحالة التي كانت قائمة في فترة 2007-2014، وبشكل أكثر حدة فترة 2015-2021.
وفق المركز الفلسطيني للمعلومات “معطى”، فقد شهد العام الجاري عمليات نوعية للمقاومة الفلسطينية ضد الاحتلال ومستوطنيه، أسفرت عن مقتل 36 إسرائيليًّا، أعلاها بعدد القتلى عملية الشهيد خيري علقم في القدس، والتي وقعت في 27 يناير/ كانون الثاني، وأسفرت عن 7 قتلى و12 إصابة.
بحسب المركز أيضًا، جاءت عملية الشهيدَين مهند شحادة وخالد صباح قرب مستوطنة عيلي جنوب نابلس في الترتيب الثاني، فقد أسفرت عمليتهما عن 4 قتلى و4 جرحى في صفوف الاحتلال، وذلك في 20 يونيو/ حزيران الماضي، كما أسفرت عملية الدهس في القدس، والتي نفّذها الشهيد حسين قراقع من مخيم الدهيشة في 10 فبراير/ شباط الماضي، عن 3 قتلى و6 جرحى، مثلما أوقعت عملية الشهيدَين حسن قطناني ومعاذ المصري في منطقة الأغوار 3 قتلى، وذلك في 7 أبريل/ نيسان الماضي.
وفي 3 يونيو/ حزيران، نفّذ الشهيد المصري محمد صلاح عملية قرب الحدود المصرية أدّت إلى مقتل 3 جنود إسرائيليين وإصابة اثنين، وفي بلدة حوارة جنوب نابلس نفّذ الشهيد عبد الفتاح خروشة عملية إطلاق نار أدّت إلى مقتل مستوطنَين اثنين في 26 فبراير/ شباط، ولاحقًا لعملية خروشة، في 19 أغسطس/ آب، جاءت عملية حوارة الأخيرة التي انسحب منفّذها بسلام، بعد إطلاق النار صوب مستوطنَين اثنين وقتلهما.
صالح العاروري: المفاوض العنيد والمقاوم الهادئ
ولد صالح العاروري في قرية عارورة قضاء رام الله عام 1966، تلقى تعليمه الابتدائي والإعدادي والثانوي في فلسطين، وحصل على بكالوريوس في الشريعة الإسلامية من جامعة الخليل، التحق بالعمل الإسلامي في سنٍّ مبكرة في المدرسة والمسجد، ثم قاد العمل الطلابي الإسلامي (الكتلة الإسلامية) في الجامعة منذ عام 1985 حتى اعتقاله عام 1992.
يتهم الاحتلال العاروري ونائبه زاهر جبارين بقيادة جبهة الضفة الغربية والوقوف وراء تمويل العمليات الخاصة بالمقاومة الفلسطينية، من خلال غرفة عمليات تدار من غزة والخارج
يعتبر العاروري من القيادات السياسية والعسكرية التي ساهمت بتأسيس الجناح العسكري لحماس في الضفة (كتائب القسام) عامَي 1991-1992، ثم اعتقلته قوات الاحتلال وقضى أكثر من 18 عامًا في السجون وعندما أفرجت عنه في المرة الأخيرة عام 2010، رحلته إلى سوريا لمدة 3 سنوات، ومن ثم غادر إلى تركيا مع اندلاع شرارة الثورة السورية، ويعتقد أنه لعب دورًا محوريًّا في إتمام صفقة شاليط من خلال المشاركة في جلسات المفاوضات غير المباشرة.
أعقاب ذلك، تنقّل العاروري بين عدة دول من بينها قطر وماليزيا، واستقر أخيرًا في الضاحية الجنوبية في لبنان، وخلال عام 2010 اختير عضوًا في المكتب السياسي لحركة حماس حتى أكتوبر/ تشرين الأول 2017، قبل أن يعلن في الشهر نفسه من العام نفسه عن اختياره نائبًا لرئيس المكتب السياسي لحماس إسماعيل هنية.
ومع تطور المقاومة الفلسطينية في الضفة الغربية المحتلة بعد مواجهة “سيف القدس” عام 2021، يتَّهم العاروري ونائبه زاهر جبارين بقيادة جبهة الضفة الغربية والوقوف وراء تمويل العمليات الخاصة بالمقاومة الفلسطينية، من خلال غرفة عمليات تدار من غزة والخارج.
في الفترة الأخيرة، ظهر الرجل في أكثر من مقابلة خلال محاولة الاحتلال اجتياح مخيم جنين، تحدث فيها عن تبنّي الجناح العسكري للحركة محاولات إطلاق الصواريخ من الضفة، إلى جانب التبنّي العلني لسلسلة من العمليات في تحول دراماتيكي في شكل العمل العسكري الذي انتهجته حماس منذ عام 2007.
رسائل النار.. التهديدات العلنية
شكّلت عمليتا الخليل وحوارة اللتان نُفّذتان في الأسبوعَين الأخيرَين عاملًا إضافيًّا لزيادة التوتر العلني في المنطقة، لا سيما مع تبنّي حركة حماس للعمليتَين بشكل مباشر، في الوقت الذي اعتبرت فيه المؤسسة الأمنية والعسكرية أن حماس في غزة ولبنان تعمل على تحريض الضفة.
وهو ما حذا برئيس وزراء الاحتلال الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، للخروج في اجتماع الحكومة والحديث بأنه سيدفع قادة الحركة الثمن، إذ قال في آخر تصريحاته: “لقد استمعت إلى رجل حماس العاروري من مخبئه في لبنان، هو يعرف لماذا يختبئ، لأننا نقاتلهم بكل الوسائل، ومن يمارس الإرهاب ضد “إسرائيل” سيدفع الثمن كاملًا”، بحسب تعبيره.
رفعت وتيرة هذه التهديدات والرسائل الإعلامية من الاعتقاد الفلسطيني بقرب اندلاع مواجهة عسكرية جديدة بين الحركة والاحتلال
كان رد العاروري عليه صامتًا، واكتفت الحركة بتسريب صور للرجل الثاني في الحركة على الصعيد السياسي وهو يجلس داخل قاعة من مكتبه في لبنان بزيّه العسكري وأمامه 3 خطوط هاتفية، وقطعة سلاح يعتقد أنها من طراز إم-16، وهو السلاح الدارج في الضفة الغربية.
لم يقف الأمر عند هذا الحد، إذ خرجت حركة حماس هي الأخرى بتهديد علني من خلال بيان صحافي وزّعته على وسائل الإعلام، وصفت فيه التهديدات للعاروري وقيادات المقاومة الفلسطينية بـ”الجوفاء”، مع التلويح بأن أي مساس بقيادة المقاومة سيواجَه بقوة وحزم.
رفعت وتيرة هذه التهديدات والرسائل الإعلامية من الاعتقاد الفلسطيني بقرب اندلاع مواجهة عسكرية جديدة بين الحركة والاحتلال، بعد المواجهة الأخيرة التي شاركت فيها رسميًّا عام 2021، والتي حملت اسم “سيف القدس”، نتيجة للتهديدات الإسرائيلية بتنفيذ عمليات اغتيال.
وفق معلومات “نون بوست” التي حصل عليها من مصادر خاصة، فإن هناك اتصالات مكثّفة شهدتها الأيام الأخيرة من قبل الوسطاء لاحتواء المشهد، غير أن هذه الاتصالات لم تفضِ إلى أية نتائج في ظل تزايد التهديدات الإسرائيلية، وتأكيد حماس على أن ردّها سيكون غير مسبوق حال تم اغتيال أي من قيادة المقاومة.
هدوء الضفة
لا يوجد أي نفوذ عسكري حقيقي للحركة في ساحة الضفة الغربية المحتلة منذ عام 2007، لعدة اعتبارات، أبرزها خطة الجنرال الأمريكي كيث دايتون، التي نصّت على تفكيك خلايا المقاومة الفلسطينية في الضفة وتأسيس ما يعرَف بـ”الفلسطيني الجديد”.
لكن الحركة استخدمت من أسلوب التجنيد البعيد وسيلة لإعادة العمل المقاوم لضفة الغربية، من خلال الأسرى المحررين في صفقة وفاء الأحرار عام 2011، والذين لعب عدد منهم دورًا في تشكيل الخلايا العسكرية وتمويلها عن بُعد، وهو ما يقرّ به الاحتلال.
نتيجة لهذا الدور، لجأ الاحتلال إلى تنفيذ عمليات اغتيال أملًا منه في وقف تمدد المقاومة جغرافيًّا في الضفة، إذ اغتال الأسير المحرر والقيادي في كتائب القسام مازن الفقهاء عام 2016، من خلال خلية عملت بإشراف من جهاز الشاباك، فقد كان يتهمه بالوقوف وراء مجموعة من العمليات بالضفة، واغتال في مايو/ أيار 2023 القيادي في سرايا القدس، الجناح العسكري للجهاد الإسلامي، طارق عز الدين للسبب ذاته.
لكن الاحتلال، ومنذ انتشار الخلايا العسكرية في الضفة الغربية في سبتمبر/ أيلول 2021، بحث كثيرًا عن سبل وأدوات لاحتواء حالة المقاومة الفلسطينية التي انحصرت في بادئ الأمر في مناطق الشمال بجنين ونابلس وطولكرم، قبل أن تمتدَّ إلى القدس ورام الله وأريحا والخليل.
لا يحمل المنظور القريب أي دلائل على إمكانية نجاح الجهود الإسرائيلية في استئصال العمل المقاوم بالضفة، لاعتبارات تتمثل بتطور المقاومة الفلسطينية
خلال هذه الفترات، تبنّت المنظومة الأمنية الإسرائيلية عدة خيارات، كان أبرزها عمليات التصفية والاغتيال الميداني من خلال ما يعرَف بإجراء “طنجرة الضغط” لمحاصرة المقاومين والمطاردين واغتيالهم في الميدان، فضلًا عن هدم منازلهم واتخاذ إجراءات عقابية بحقّ عوائلهم.
إلى جانب الاغتيالات، فإن الاحتلال يشنّ حملات اعتقال غير مسبوقة في الشهور الأخيرة بالضفة الغربية، أملًا منه في وقف تمدد حالة المقاومة، إذ ارتفعت أعداد المعتقلين إداريًّا إلى أكثر من 1200 أسير من أصل 5 آلاف أسير في السجون والمعتقلات الإسرائيلية.
ومع فشل هذه الخيارات لاحقًا، اضطر الاحتلال اتخاذ المزيد من الإجراءات، لعلّ أبرزها محاولة تفكيك ظاهرة عرين الأسود بالتنسيق الأمني مع السلطة، عبر إغراء المقاومين بالمال والبيوت والوظائف مقابل العفو عنهم، فضلًا عن السعي لتفكيك حالة جنين باجتياحها، وهو ما فشل فيه أيضًا.
بعد كل ذلك، سلك الاحتلال عدة مسارات، كان أبرزها المشاركة في لقاءات أمنية مع السلطة الفلسطينية عُقدت في العقبة بالأردن وشرم الشيخ في مصر بمشاركة من الدولتَين، إلى جانب الولايات المتحدة، للبحث في خطط أمنية تفضي إلى احتواء الحالة القائمة في الضفة.
لا يحمل المنظور القريب أي دلائل على إمكانية نجاح الجهود الإسرائيلية في استئصال العمل المقاوم بالضفة، لاعتبارات ميدانية وجغرافية واجتماعية تتمثل في فشل مشروع التسوية مع السلطة، فضلًا عن تطور المقاومة الفلسطينية كحالة عامة في غزة، يمكن أن تتدخل في أي وقت لوقف المساس بقدراتها العسكرية بالضفة.