بعد فترة قصيرة من اندلاع حرب 15 أبريل/نيسان في السودان بين الجيش وقوات الدعم السريع، اتهمت القوات المسلحة السودانية اثنين من أعضاء لجان مقاومة مدينة بحري “شمال الخرطوم” بالتعاون مع المتمردين، بحسب وصف مكتب المتحدث الرسمي باسم الجيش آنذاك.
لكن الجيش تراجع سريعًا، وسحب البيان بعد أن تعرض لانتقادات لاذعة إثر تصريح ردت به لجان مقاومة بحري على بيان القوات المسلحة، جاء فيه أن محمد أحمد ومحمد جمال، اللذين اعتقلهما الجيش هما “متطوعان في غرفة طوارئ بحري، وأن قوةً من الجيش اعتقلتهما في أثناء عودتهما في عربة إسعاف ظلّا يعملان بها لإيصال الكوادر الطبية في المدينة”.
وقالت القوات المسلحة السودانية في بيان آخر يحمل لهجةً تصالحيةً: “شابات وشباب بلادنا من لجان المقاومة بجميع أنحاء البلاد، تثمن قواتكم المسلحة دوركم الرائد في توجيه طاقاتكم بمد يد العون وذلك بالمساهمة في توفير الخدمات الضرورية للمحتاجين، في ظل هذه الظروف التي يعيشها شعبنا الصابر”.
ودعا الجيش السوداني، أعضاء اللجان إلى الاستمرار في الاضطلاع بهذا الدور بالتنسيق الكامل مع القوات المسلحة السودانية بمختلف أنحاء الخرطوم والولايات.
انتهاكات الدعم السريع بدأت منذ الأيام الأولى للحرب
بعد أيام فقط من اندلاع الحرب بدأت عناصر الدعم السريع بالتعدي على المواطنين ومن بينهم أعضاء بلجان المقاومة والكيانات الثورية مثل الثائر المعروف حسام الصيّاد الذي نشر على صفحته بموقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” قصة إذلاله والتعدي عليه بالضرب من عناصر المليشيا في مدينة أم درمان، في اليوم الثالث من اندلاع الحرب.
حسام الصياد pic.twitter.com/pKxE3L34Sm
— 𝕐𝕒𝕤𝕚𝕣 𝕄𝕠𝕤𝕥𝕒𝕗𝕒 (@YASIR_MOS91) April 17, 2023
يُذكر أن حسام الصياد “21 عامًا” تعرض للاختطاف والاعتقال لمدة عام كامل، هو وعدد من رفاقه، إذ وجّهت إليهم الاستخبارات العسكرية تهمًا بقتل ضابط صف قِيل إنه لقي مصرعه في ظروف غامضة عندما كان يشارك في تأمين القصر الرئاسي بالتزامن مع إحدى المسيرات التي نظمتها الحركة الاحتجاجية “لجان المقاومة” ضد انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول.
دعوة البرهان لحمل السلاح وجدت استنكارًا في البداية
عشية عيد الأضحى الماضي، دعا القائد العام للقوات المسلحة السودانية الجنرال عبد الفتاح البرهان، في رسالة متلفزة، الشباب القادر علي حمل السلاح أن يهبوا للدفاع عن الوطن بنصرة القوات المسلحة، وذلك بالتقدم لأقرب مركز لها لتسليمهم السلاح وتدريبهم عليه.
بادئ الأمر كانت ردة الفعل على خطاب قائد الجيش سلبية إلى حدٍ كبيرٍ، حيث تساءل البعض: كيف يجرؤ البرهان على إطلاق مثل هذه الدعوة وهو الذي سلّط قوات الأمن على شباب الثورة لقمعهم واعتقالهم وتعذيبهم وهم يتظاهرون سلميًا؟ وكيف يطلب من الثوار أنفسهم أن يهبوا لنجدته في معركته مع الدعم السريع – الوحش الذي سمح له بالتمدد خلال السنوات الثلاثة الماضية -؟
وكيف يجرؤ البرهان على ذلك بعد أن استحل دماء الثوار منذ مجزرة فض اعتصام القيادة في يونيو/حزيران 2019 التي خلّفت مئات القتلى والجرحى؟
لكن على ما يبدو أن الانتهاكات المروعة التي ارتكبها عناصر الدعم السريع من جرائم بشعة تتمثل في احتلال منازل المواطنين في الخرطوم ونهب كل ما وجد فيها من ممتلكات ثمينة (أموال، ذهب، سيارات)، إضافة إلى جرائم القتل والاغتصاب والترويع والاغتصاب الجماعي وسبي النساء واستغلالهنّ جنسيًا، كما تواتر في عدد من التقارير الموثوقة وشهادات المواطنين، جعلت العديد من المواطنين ومن بينهم الثوار يستجيبون لنداء التطوع والاستنفار، ليس حبًا في الجيش ولا قائده، بل لحماية أنفسهم وممتلكاتهم بعد فشل الجيش والقوات الأخرى المساندة له في مهمتهم، نسبةً لتفوق المليشيا من حيث العدد وانتشارها في كل مكان بعد أن سمح الجنرال البرهان لنائبه السابق حميدتي بمضاعفة عدد قواته إلى ما يقارب 5 أضعاف العدد الذي كانت عليه قبل سقوط الرئيس المخلوع عمر البشير في 11 أبريل/نيسان 2019.
https://twitter.com/Apollo_ya5/status/1695770896059769254?s=20
كذلك نجد أن المواطنين السودانيين ظلوا يلاحظون منذ بداية الحرب أن المناطق التي تقع تحت سيطرة القوات المسلحة تكون الحياة فيها طبيعيةً، بعكس المناطق التي تتحكم فيها الدعم السريع، إذ تنعدم فيها سلطة الدولة “The absence of state authority” بشكل كامل، ويمكن أن تحدث فيها كل الجرائم من قتل واغتصاب ونهب وطرد وتهجير للسكان بعد إذلالهم وإهانتهم، كأن مليشيا حميدتي حولت حربها مع الجيش إلى حربٍ ضد المواطنين السودانيين العزل.
في الصفوف الأمامية
قبل 4 أيام، نشرت الصفحة الرسمية للجان مقاومة الشجرة الحماداب على منصة التواصل الاجتماعي”إكس”، نعيًا لاثنين من أعضائها (وائل محمد الحسن وأكرم بشرى كامل)، قالت إنهما “استشهدا الأحد 20 أغسطس/آب الحاليّ في سلاح المدرعات بعد تصديهما بكل بسالةٍ وعزةٍ للهجوم الغادر والفاشل من مليشيا الجنجويد المتمردة”.
⛔️نعي أليم ⛔️
قال تعالى في محكمة تنزيله
( ولا تحسبن الذين قتلوا في سبيل الله أمواتا بل أحياء عند ربهم يرْزقون فرحين بما آتاهم الله من فضله ويستبشرون بالذين لم يلحقوا بهم من خلفهم ألا خوف عليهم ولا هم يحزنون . صدق الله العظيم pic.twitter.com/Y3keVSt3uB
— لجان مقاومة الشجرة والحماداب (@alshajararesist) August 20, 2023
وقبل ذلك، نعت الصفحة الرسمية لكيان “غاضبون بلا حدود” على فيسبوك الثائر المصادم ياسر هاشم “أستانباي” إثر إصابته عندما كان يشارك في الدفاع عن المدرعات يوم 5 أغسطس/آب الحاليّ.
جدير بالذكر أن “أستانباي” معروف لجميع المتظاهرين بأنه لم يكن يفوت أي مواكب احتجاجية تعلن عنها لجان المقاومة منذ انقلاب 25 أكتوبر/تشرين الأول 2021، وكان أحد الأعضاء البارزين في كيان “غاضبون” وهو تشكيل ثوري معني بالتصدي لقمع شرطة “الاحتياطي المركزي”.
ندعم الجيش طالما أنه يقوم بدوره الدستوري
تخلص زينب الأمين وهي طبيبة مناهضة للانقلاب معروفة لدى الثوار باسم “دكتورة زينب”- في حديث لـ”نون بوست” أن الخلاف الرئيسي بالنسبة لها مع العسكر هو تدخلهم في السياسة وانشغالهم بها عن مهامهم المؤسسية المتمثلة في حماية الدولة، موكدةً أنها تدعم تمامًا تطوع الثوار للقتال إلى جانب القوات المسلحة.
وأوضحت زينب أن الخرطوم تتعرض لأكبر عملية نهب مسلح شهدها العالم، لافتة إلى أن الخلاف مع الجيش لا يمنع التضامن معه كمؤسسة في الظروف الحاليّة، لأن الدولة السودانية مهددة بشكل كامل، قتل واغتصاب ونهب وترويع وإذلال وتدمير ممنهج للبنية التحتية.
وذكرت لـ”نون بوست” أنه بعد انتهاء الحرب وحسم المليشيا يجب أن يعود العسكر إلى ثكناتهم وإن تدخلوا في السياسة مرة أخرى فلن يجدوا من الثوار إلا المقاومة التي يعرفونها، بحسب وصفها.
من جانبه يرى مصعب كوكي أن الثوار عمومًا سواء من كيان غاضبون أم خارجه يؤمنون تمامًا بأن الجيش رغم التشوهات ومشاركة أفراده في الانتهاكات بحق المتظاهرين، سيظل المؤسسة العسكرية الوحيدة للدولة، والدفاع عن الوطن مهمته الأساسية ولا مانع من التطوع لصالحه.
صخر ..
خطاب ..
صالح كتش ..
الهادي أمريكي ..
( والقائمة تطول وتتمدد )
ويجيك واحد رأسو كبير إنتهازي عفن يقول ليك البحاربو ف الجيش ديل كيزان كلهم ماكلين راسهم الكيزان ..
كوز اليفلقوك بيهو ف نص راسك لو أنت ثوري بالجد وماعارف واحد من ديل لأنو ببساطة ديل من خيرة من وقفو بخط النار… pic.twitter.com/GD9lvQXwzu
— 𓂆 M | K 🇸🇩 (@msab_koke) August 27, 2023
يضيف كوكي وهو أحد الوجوه الإعلامية البارزة في لجان المقاومة أن مشاركة الشباب من مجموعة “غاضبون” في استنفار الجيش غير مستغربة لعلمهم التام أن القوات المسلحة السودانية رغم كل ما لحق بها ستبقى مؤسسة الدولة العسكرية الحقيقية، وأن انضمامهم لها لأجل الدفاع عن الوطن مع رفاقهم من شرفاء الجيش وليس حبًا في قياداته، موضحًا أنهم يدافعون عن الحق سواء في السلم أم الحرب.
أحد المتظاهرين المعروفين ينشر صورة جماعية له ولرفاقه من أحد المقار العسكرية
التخوين ليس جديدة
“نون بوست” سأل كوكي عن كيفية ردهم كثوار على الذين يتهمونهم بالوقوف إلى جانب الإسلاميين المعروفين محليًّا باسم “الكيزان” بسبب تطوع العديد منهم إلى جانب الجيش، فقال: “شباب غاضبون معروفون بحبهم للوطن والعديد منهم حصدتهم آلة العسكر وكثيرًا ما تعرضوا لمضايقات وملاحقات واعتقالات بتهم زور.. لن يستطيع أحد المساس بشرفهم أو ثوريتهم أو تخوينهم لأنهم أكثر الناس الذين عانوا من ويلات النظام ووقفوا دروعًا بسلميتهم.. لن نسمح بتخوين أي فرد من رفاق الثورة”.
وردًا على السؤال السابق نفسه، قالت زينب الأمين لـ”نون بوست”: “التخوين ليس بجديد علينا نحن الثوار، سبق وأن جرى تخويننا عندما كنّا نحتج على أداء حكومة رئيس الوزراء عبد الله حمدوك وعجزها عن تحقيق العدالة لضحايا مجزرة فض الاعتصام، وابتعادها عن خط الثورة.. آنذاك تم اتهامنا بأننا نتبع مدير جهاز المخابرات السابق صلاح قوش”، مضيفةً أنهم لا يأبهون بأي صوت تخويني حتى لو صدر ممن يدعون أنهم يمثلون الثورة.
يُذكر أن زينب الأمين تعرضت هي الأخرى للاعتقال المطول من الشرطة ووجهت إليها تهمة “التستر الجنائي” في قضية مقتل العميد بريمة، إذ اتهمت سلطات الانقلاب مجموعة من الثوار بقتل ضابط الشرطة، وهي تُهم يرى قانونيون أنها ملفقة تمامًا مثل قضية اتهام حسام الصياد ورفاقه بقتل رقيب الاستخبارات العسكرية، وقد أصدرت المحكمة المختصة قرارًا ببراءتهم في نهاية المطاف، حين لم تجد أي دليل على تورطهم.
على الجيش أن يتصالح مع شباب الثورة
بعد انجلاء المعركة، يؤمل أن يتبنى الجيش السوداني رؤية جديدة للتعامل مع الثوار وأن يكف عن التعامل معهم كأعداء، فما فعله هؤلاء الشباب من استجابة لنداء الوطن بالتطوع إلى جانب القوات المسلحة رغم كل ما فعلته بهم الاستخبارات العسكرية وأجهزة الشرطة لشيء يدعو إلى العجب، وينبغي أن تخجل قيادة القوات المسلحة من تصرفاتها المقابلة مع الثوار، ابتداءً من مجزرة فض الاعتصام مرورًا بقمع المسيرات السلمية وانتهاءً بالاعتقالات وتلفيق التهم.
أولى الخطوات التصالحية يجب أن تبدأ بإطلاق سراح الثائر محمد آدم الشهير بـ”توباك” فورًا من سجون ولاية نهر النيل، فيكفي أنه تعرض للاعتقال والتعذيب لأكثر من عام بتهمة ملفقة، كان بإمكان توباك أن يغادر للخارج بسهولة في ظل السيولة الأمنية التي تشهدها البلاد، أو أن يختار الحل الأسهل المتمثل في ارتداء “الكدمول” والظهور في مقطع فيديو يعلن فيه الانضمام لمليشيا حميدتي، لكنه آثر الالتزام بمبادئه وأخلاقه وأن يبقى داخل البلاد لمساعدة أسرته على اكتساب لقمة العيش في ظل الأوضاع الاقتصادية المتردية التي خلفتها الحرب.
رغم الانتشار الواسع لمليشياته، فإن حلم محمد حمدان دقلو في الاستيلاء على السلطة قد انتهى، ووصل الحال بمستشاريه إلى تسول الاحتفاظ بدور سياسي في سودان ما بعد الحرب التي أشعلها قائدهم، فقد نشر الحساب الرسمي له على منصة “إكس” منشورًا مطولًا لما قِيل إنها رؤية المليشيا “للحل الشامل وتأسيس الدولة السودانية الجديدة”.
أخيرًا، مرة أخرى نجح الشباب السوداني الثائر في نيل احترام معظم السودانيين بمواقفهم الواضحة من الحرب التي شنتها الدعم السريع في 15 أبريل/نيسان الماضي، على عكس الأحزاب السياسية خاصة قوى الحرية والتغيير التي ينظر إليها كثيرون على أنها وضعت ثقلها خلف حميدتي حتى قبل اندلاع الحرب.
فقبل شهر بالضبط من نشوب الصراع، صرحت الباحثة السودانية خلود خير، وهي المديرة المؤسِّسة لمركز (Confluence Advisory) في حديث لمجلة الديمقراطية الآن: “قوى الحرية والتغيير تدعم حميدتي لأنها تعتقد أنه دون بعض الدعم العسكري ودون أسلحة لن يتمكنوا من الوصول إلى مبتغاهم”.