لم توفر الحكومة المصرية جهدًا طول الشهور الماضية في توفير الظروف والشروط المناسبة التي تؤهلها للحصول على قرض صندوق النقد الدولي البالغ 12 مليار دولار ضمن برنامج يهدف لتصحيح عجز الموازنة والدين العام في الميزانية المصرية.
فاتخذت الحكومة برئاسة شريف إسماعيل وفريقها الاقتصادي المؤلف من وزيرة الاستثمار داليا خورشيد ووزيرة التعاون الدولي سحر نصر ووزير التجارة والصناعة طارق قابيل ووزير المالية عمرو الجارحي بالإضافة إلى طارق عامر رئيس البنك المركزي المصري، جملة من الإجراءات الاقتصادية لتحقيق شروط الصندوق والحصول على التمويل، رغم أن تلك الشروط بقيت محل تساؤل بسبب عدم إفصاح الحكومة عنها، ومن ثم وافق الصندوق على منح مصر القرض بعد 3 أشهر على الاتفاق الأولي بين الصندوق والحكومة، وبدأت الأزمة تتفاقم في قطاعات عديدة في الاقتصاد المصري.
تجنبت الحكومة الإفصاح عن بنود الاتفاق مع صندوق النقد أمام البرلمان والمواطنين وكان يتوجب على المواطن أن ينتظر الصندوق الذي تأخر شهرين ليفصح عن بنود الاتفاق ليعرف الحقيقة التي جاءت وراء منح الصندوق مصر كل تلك الأموال.
الحكومة المصرية: لا شروط مقابل قرض الصندوق!
حسب ادعاءات الحكومة وفريقها الاقتصادي فإن صندوق النقد لم يشرط عليها شروطًا مقابل القرض، علمًا أن الأصل في كل القروض التي يمنحها الصندوق للدول فرض مجموعة من الشروط على الحكومة لتنفيذها مقابل الحصول على القرض وعليها الالتزام بها.
بينما نسق الصندوق مع الحكومة لتطبيق برنامج الإصلاح الاقتصادي المتفق عليه مقابل القرض والذي يهدف لسد الفجوة التمويلية بالموازنة بحسب وزير المالية المصري عمرو الجارحي، وجذب المستثمرين فى العالم لضخ استثمارات سواء مباشرة أو غير مباشرة، وكما يقول الوزير عمرو الجارحي فإن من أهم شروط برنامج الإصلاح خفض العجز الكلي ورفع الدعم عن الطاقة سواء الوقود أو الكهرباء خلال فترة من 3 – 5 سنوات ووضع نظام ضريبي للمشروعات الصغيرة والالتزام برفع ضريبة القيمة المضافة إلى 14% وزيادة الإيرادات العامة بواقع 0.5%.
وفي 3 من نوفمبر/ تشرين الثاني الماضي عمد البنك المركزي المصري إلى تعويم سعر صرف الجنيه وفي وقت لاحق بدأت الحكومة سلسلة إجراءات تهدف لرفع الدعم بشكل تدريجي عن سلع وخدمات أساسية.
تأخر صندوق النقد في الإفصاح عن الوثائق شهرين علمًا أنه طبقًا لمعايير الصندوق المتعلقة بالشفافية فالمفروض أن تنشر كل الوثائق الخاصة بالإقراض خلال مهلة تمتد بين 14 حتى 28 يوم عمل كحد أقصى
فرضت تلك الإجراءات المفاجئة للسوق حالة من عدم الاستقرار في الاقتصاد تطورت مع الوقت وزادت وتيرتها مع سخط المواطنين، حيث أدى تعويم الجنيه لهبوط قيمته بأكثر من الضعف بشكل غير محسوب مطلقًا، فالجنيه انخفض من 8.88 إلى نحو 19 جنيهًا مقابل الدولار ما أدى لخلق سوق موازية جديدة، بينما كان أحد أهداف التعويم هو القضاء على تلك السوق.
كما أن انخفاض قيمة الجنيه أدى لارتكاسات في قطاعات عديدة في الاقتصاد من بينها الاستثمارات الأجنبية التي أعلنت توقفها عن العمل أو انسحابها من الأسواق بسبب حالة عدم الاستقرار السائدة في الأسواق والناجمة عن أزمة النقد وفقدان الدولار وانخفاض القيمة الشرائية للعملة، كما حصل مع شركة مرسديس ونستلة وجنرال موتورز، ولأن مصر تستورد نحو 90% من احتياجاتها ومن بينها المواد الأولية للصناعات المحلية، أدى التعويم إلى ارتفاع الأسعار بشكل مهول فارتفع معدل التضخم إلى نحو 24% وفُقدت أصناف كثيرة من السلع من السوق بسبب إحجام المنتجين عن الإنتاج لعدم استقرار سعر الصرف وطالت الأزمة الأدوية حيث فقدت مئات الأصناف من الأسواق.
صندوق النقد يكشف تفاصيل اتفاقية القرض
طبقًا لمعايير الصندوق المتعلقة بالشفافية فالمفروض أن تنشر كل الوثائق الخاصة بالإقراض خلال مهلة تمتد بين 14 حتى 28 يوم عمل كحد أقصى منذ الموافقة النهائية على القرض، إلا أن المهلة انتهت قبل أن يعرض الصندوق تلك الوثائق وفي هذه الحالة يصدر بيانًا بالوقائع يشير إلى نوايا السلطات فيما يخص النشر.
وفي يوم الأربعاء 18 من يناير/ كانون الثاني نشر الصندوق الوثائق المتعلقة بالقرض الذي منحه لمصر والتي تشمل تفاصيل الجدول الزمني للإجراءات التي تلتزم الحكومة باتخاذها مقابل الحصول على القرض، وبعدها عقد كريس جارفيس مؤتمرًا صحفيًا للتعليق على تلك الوثائق، وأبقى الصندوق بعض الوثائق التي قد يؤثر كشفها على الأسواق فيما يخص الإجراءات المستقبلية، مما يعني أن هناك إجراءات أخرى من المفترض على الحكومة أن تقوم بها لم يتم الكشف عنها.
كريس جارفيس رئيس بعثة صندوق النقد إلى مصر وعمرو جارحي وزير المالية المصري
كشفت الوثائق المستور الذي حاولت الحكومة التستر عليه وعدم كشفه أمام الشعب، حيث فصلت الإجراءات المزمع تنفيذها من الجانب المصري حتى نهاية يونيو/ حزيران 2017 وفي الواقع لا يوجد مفاجآت في تفاصيل الاتفاق وليست جديدة على من يعرف شروط الصندوق وظروف التعامل معه.
حيث تعتزم الحكومة المصرية خفض دعم الطاقة من 6.5% إلى 1.75% من الناتج المحلي الإجمالي ومن ثم خفضها إلى أقل من 0.5% فيما بعد، مما يعني أن هناك المزيد من رفع الأسعار على الطاقة وهو ما قد يعكس ارتفاعًا على سلع وخدمات كثيرة تعتمد في إنتاجها على الطاقة، واتباع إجراءات تضمن خفض التضخم إلى أقل من 10% خلال سنتين، وعلى الحكومة المصرية بحلول 31 من مارس/ آذار من العام الجاري تبني استراتيجية إعادة هيكلة قطاع الطاقة بناء على تقرير يصدره استشاري خارجي لم تحدده الوثائق، وتجهز الحكومة سجلًا برصيد الضمانات الحكومية القائمة بحلول آخر مارس/ آذار من العام الجاري وهذا البند يتعلق بحجم الدين الحكومي الكبير وديون الهيئات العامة التي تضمنها وزارة المالية.
سعت الحكومة بجميع الطرق لموافقة الصندوق على منح القرض وتعمدت تقديم أرقام وإحصائيات عكس الواقع، واتخذت إجراءات قاسية فوق طاقة المواطن، حتى تنال رضا الصندوق عنها
وتلتزم الحكومة أيضًا بحلول 30من يونيو/ حزيران 2017 بزيادة الإنفاق الاجتماعي على برامج الدعم النقدي والمعاش الاجتماعي ووجبات المدارس والتأمين الصحي والعلاج المجاني للفقراء بمقدار 25 مليار جنيه وإنفاق ربع مليار جنيه لإنشاء حضانات عامة لدعم قدرة المرأة على البحث عن عمل.
وستلتزم مصر بحلول نهاية ديسمبر/ كانون الأول الماضي بتقليص رصيد السحب على المكشوف إلى 75 مليار جنيه عبر إصدار سندات حكومية بقيمة 250 مليار جنيه وموافقة البنك المركزي على قواعد استثمار جديدة لإدارة الاحتياطي النقدي الأجنبي.
ووفقًا للوثائق أيضًا ستلتزم الحكومة بفرض ضريبة على نشاط البورصة إما على الأرباح الرأسمالية أو على شكل ضريبة مقطوعة بحلول آخر مايو/ أيار المقبل، وتلتزم الحكومة بإعداد قانون جديد للتراخيص يشمل التخلص من تراخيص القطاع الصناعي باستثناء الصناعات المضرة بالمصلحة العامة وقصر الموافقات المسبقة من الدفاع المدني والإطفاء على المنشآت عالية الخطورة، وعلى الحكومة إعداد بيان شامل عن المخاطر المالية المتعلقة بمخاطر الاقتصاد الكلي وشركات القطاع العام والديون والمعاش والالتزمات الطارئة.
من تلاعب بالاقتصاد المصري؟
على الرغم من الحسابات الدقيقة التي يجريها الصندوق على الاقتصاد وبياناته قبل القبول بإقراض أي دولة، فإن كريس جارفيس أعلن أنه أخطأ في توقعاته بشأن مدى انخفاض سعر الجنيه عقب قرار التعويم وتوقع أن يسجل الجنيه أمام الدولار قيمة أعلى من أسعاره الحالية وفقًا للعوامل الأساسية التي تم بناءً عليها الموافقة على القرض، لذا يبدو أن هناك خطأ حصل يتحمله الصندوق أو الحكومة المصرية التي يرى محللون أنها جاملت بعثة الصندوق على حساب الشعب للحصول على القرض وادعت أن الصندوق لم يفرض عليها شروطًا مقابل القرض.
وفي كل الأحوال فإن الحكومة بهذه الطريقة تسببت في تأجيج أزمات كبيرة على المستوى الاقتصادي والاجتماعي، وخصوصًا أن إجراءات الحكومة وشروط الصندوق تصب ضد مصلحة الطبقة الفقيرة في مصر وقد توقعت دراسة أن يصل عدد الفقراء في مصر إلى 75 مليون مواطن، بسبب ارتفاع أسعار السلع الاستراتيجية وتراجع معدلات النمو وتحريك أسعار الصرف داخل السوق المحلي.
وفي حديث للخبير الاقتصادي الدكتور وائل النحاس مع أحد المواقع المصرية المحلية، ذكر أن الحكومة “سعت بجميع الطرق لموافقة الصندوق على منح القرض وتعمدت تقديم أرقام وإحصائيات عكس الواقع، واتخذت إجراءات قاسية فوق طاقة المواطن، حتى تنال رضا الصندوق عنها”.
كريس جارفيس أعلن أن قيمة الجنيه المصري انخفضت بأكثر من المتوقع بعد تعويم سعر الصرف
وهذا يشير إلى سيناريوهين إما أن الصندوق كان يعرف بالظروف التي ستودي بالاقتصاد المصري إلى حال أسوأ مما كان عليه قبل أخذ القرض وتعمد إدخال مصر في نفق مظلم يراد ألا تخرج منه وبالتالي مزيد من السيطرة على القرار السياسي والاقتصادي الوطني في مصر من قبل القوى الخارجية، أو أن الحكومة قدمت لبعثة الصندوق فعلاً أرقامًا وحقائق منافية للواقع للحصول على القرض، دون النظر لما قد يؤول له حال المواطن بسبب تفاقم الأوضاع بعد اتخاذها إجراءات صعبة.
مؤتمر صحفي للحكومة المصرية مع بعثة صندوق النقد الدولي
وفي الواقع فإن كلا السيناريوهين يحتملان درجة كبيرة من الصحة، فمن غير الممكن أن يكون صندوق النقد وخبراؤه لا يملكون الأرقام والبيانات الصحيحة التي تبين الوضع المنفجر الذي يقف عليه الاقتصاد المصري والذي لا يحتمل أي ديون خارجية يترتب عليها سداد فوائد وأقساط إلى جانب ديون أخرى في ظل أزمة هيكلية في الاقتصاد المصري يرافقها أزمات خارجية وداخلية، ومن جهة أخرى فإن الصندوق لم يدخل بلدًا إلا وخرب اقتصاده ومن النادر أن ينجح بلد نامٍ جراء قروض الصندوق بل إن الأصح أن قروض الصندوق تعد عقبة كبيرة في نهضة الاقتصادات النامية.
أما السيناريو الآخر وهو وارد جدًا أيضًا، ويعززه الارتفاعات الكبيرة التي أعقبت تعويم الجنيه المصري والأزمات التي أعقبت تلك الخطوة على مستوى الإنتاج والاستثمار الأجنبي والتضخم وعلى مستوى الفقر والبطالة أدخلت البلاد في أزمة أخرى حتى أصبح الاقتصاد بعدها يعاني من أزمات متراكبة، فمن غير الممكن أن تُقدم حكومة إلى هكذا خطوة دون أن تكون قد حسبت عواقبها، والظاهر أن الحكومة كان كل همها تسديد الديون المستحقة في الشهور المقبلة من خلال قرض صتدوق النقد حتى ولو حرّفت بعض الحقائق أمام بعثة الصندوق.
والحقيقة الجليّة التي لم تتلمسها الحكومة هي أن الحل ليس في الحصول على القرض من صندوق النقد بل يكمن في إعادة هيكلة الاقتصاد القومي على نحو صناعي متطور يضمن التنمية المستقلة المعتمدة على الذات أكثر من الاعتماد على الخارج الذي لن يخاف على مصلحة مصر أكثر من أبنائها أنفسهم، ورفض أي خطة تنموية قادمة من الخارح وتصميم سياسات اقتصادية تتلاءم مع الوضع الوطني ومتطلباته ومشاكله، وتدعيم الروابط القوية بين قطاعات الهيكل الاقتصادي من زراعة وصناعة وتجارة وخدمات.