كشف مسؤولون في تونس وليبيا عن وجود مباحثات متقدمة مع الجانب المصري من أجل تدشين خط بحري مباشر بين القاهرة والبلدين، كل على حدة، في إطار مساعي المصريين المستمرة منذ سنوات للتفاهم بشأن هذا المشروع اللوجستي الذي يحقق حزمة من المكاسب المتنوعة على المسارات كافة.
ووُضع ملف تدشين هذا الخط على طاولة المباحثات المصرية التونسية الليبية منذ سنوات لكن دون تحقيق أي خطوات ملموسة بشأنه في ظل الأزمات والتطورات التي شهدتها دول المنطقة خلال تلك السنوات، فضلًا عن تباين وجهات النظر إزاء نظرة كل بلد لهذا المشروع وأبعاده والمكاسب المحتملة من تحقيقه.
إحياء هذا الملف مرة أخرى في هذا التوقيت يتزامن مع تغيرات جيوسياسية تفرض نفسها على الجميع، وهزة عنيفة تعرضت لها خريطة التحالفات الإقليمية والدولية، الأمر الذي أثار الكثير من التساؤلات بشأن هرولة القاهرة لإبرام هذا المشروع في أقرب وقت ودوافع تعاطي نظام قيس سعيد تحديدًا مع تلك الهرولة، بجانب التحديات والتهديدات التي يمكن أن يتضمنها هذا المشروع حال تنفيذه بالشكل المأمول.
هرولة مصرية وتعاطي تونسي ليبي
شهد أغسطس/آب الحاليّ لقاءات على مستويات رفيعة بين الجانب المصري والتونسي في أعقاب زيارة وزير الخارجية المصرية سامح شكري لتونس، ولقائه بالرئيس قيس سعيد ووزير النقل ربيع المجيدي الذي أكد وجود تنسيق كبير مع القاهرة لتعزيز التعاون في قطاع النقل.
المجيدي في تصريحاته أكد أن هناك مباحثات متقدمة مع الجانب المصري من أجل فتح خط بحري مباشر بين البلدين، لافتًا إلى وجود تجارب من أجل إنشاء مناطق لوجستية في مجال نقل البضائع ومعالجتها، متوقعًا أن تكلل تلك التجارب والمباحثات باتفاقيات في هذا المجال.
وفي مارس/آذار 2022 التقى وزير النقل المصري كامل الوزير، نظيره التونسي، عبر تقنية الفيديو كونفرانس، لبحث تدعيم التعاون بين الجانبين في مجالات النقل المختلفة، حيث أشار المجيدي إلى رغبة بلاده في التعاون بين الجانبين في كل قطاعات النقل ومنها السكك الحديدية والموانئ البحرية والنقل البري والمناطق اللوجستية.
واستعرض الجانبان خلال هذا اللقاء الذي حضره قادة الوزارتين في البلدين، العديد من المقترحات الخاصة بالتعاون في مجال النقل البحري منها تسيير خطوط ملاحية بحرية بين مصر وتونس أو بين مصر والدول الأوروبية مرورًا بتونس، كذلك التعاون بين شركات الملاحة في البلدين من أجل تقديم خدمات شحن و الخدمات اللوجستية بين موانئهما بشكل احترافي.
هذا بخلاف التعاون في مجال التدريب البحري من خلال المؤسسات التعليمية المعنية بهذا الأمر في البلدين مثل معهد تدريب الموانئ بالإسكندرية ومعهد التدريب البحري بتونس وكذا تبادل الخبرات في خدمات النقل البحري مثل تشغيل المحطات المينائية المختصة في الحاويات وبضائع الصب وحركه المسافرين والرحلات البحرية السياحية.
وتهتم القاهرة بتدشين جسور بحرية وبرية للربط بينها وبين دول الجوار والدول العربية، فهناك طريق بري بين مصر والأردن والعراق من خلال شركة الجسر العربي، وآخر بين مصر والسودان عن طريق الموانئ الحدودية في أرقين وقسطل، وثالث مع ليبيا عبر منفذ السلوم.
في أبريل/نيسان 2021، أكد رئيس الحكومة المصرية مصطفى مدبولي، عقد اجتماع للجنة العليا المشتركة بين مصر وليبيا في القاهرة، لبحث تدشين مشروع خط ملاحي بحري بين البلدين، على أن يتم تشغيله قريبًا، جاء ذلك على هامش زيارته لمقر الحكومة الليبية في طرابلس، حيث كان في استقباله رئيس حكومة الوحدة الوطنية الليبية عبد الحميد الدبيبة، وعدد من المسؤولين الليبيين.
كما استقبل رئيس الحكومة التونسي – وقتها – هشام المشيشي، السفير المصري بتونس إيهاب فهمي، بقصر الحكومة بالقصبة، في 7 يناير/كانون الثاني 2021، واتفقا على “ضرورة الإسراع بتدشين خط بحري بين مصر وتونس ليكون قاطرة لتعزيز العلاقات التجارية والاستثمارية، وولوج السلع للأسواق الإفريقية”، وفق بيان صادر عن رئاسة الحكومة التونسية.
وفي أكتوبر/تشرين الأول 2016 أكد مسؤول بوزارة النقل المصرية أن تنفيذ الخط الملاحي “الإسكندرية – صفاقس”، مرهون بحجم وكمية التجارة بين البلدين، لافتًا إلى سهولة تدشين هذا المشروع إذا وجدت عمليات استيراد وتصدير كبيرة بالنسبة للبضائع بين البلدين، في رسالة مفادها أن سبب تعطيل مثل تلك المشروعات هو تواضع حجم التجارة بين الدولتين (حجم التبادل التجاري بين مصر وتونس بلغ بنهاية 2015 نحو 235 مليون دولار، منها 160 مليون دولار صادرات مصرية إلى تونس، ونحو 75 مليون دولار واردات من تونس)، بجانب تضرر العديد من الخطوط الملاحية خلال السنوات الأخيرة بسبب تباطؤ نمو التجارة العالمي.
غير أن رئيس مكتب التمثيل التجاري المصري بتونس، إيناس زيدان، قالت حينها إن الجانبين المصري والتونسي اتفقا على عقد لجنة مشتركة للنقل البحري نهاية شهر نوفمبر/تشرين الثاني من نفس العام لبحث تفعيل إنشاء الخط الملاحي الإسكندرية – صفاقس، لافتة إلى أن وجود هذا الخط ربما يفتح المجال لإنعاش حركة التجارة بين البلدين التي وصفتها بالـ”متواضعة ولا تتوافق مع إمكانات البلدين التجارية والاقتصادية”.
وكانت وزارة النقل التونسية قد أعلنت في فبراير/شباط 2013 عن تسيير خط بحري بين تونس ومصر، مشيرة إلى أنه سيكون امتدادًا للخط الذي سيصل تونس بليبيا، حيث اجتمع مدير عام الشركة التونسية للملاحة جمال قمرة مع رئيس الاتحاد العربي لغرف الملاحة حاتم القاضي لبحث خطة عملية من أجل الربط البحري بين الدول العربية، لما لذلك من جدوى اقتصادية كبيرة لدول شمال إفريقيا.
🔴 انشاء خط بحري بين مصر وتونس محور لقاء رئيس الحكومة بسفير جمهورية مصر العربية بتونس
التفاصيل || https://t.co/rz6xOroIX4 pic.twitter.com/nWCgBhdWjD
— Presidency Of The Governmentرئاسة الحكومة التونسية (@Gouvernementtn) January 8, 2021
الدوافع والمحفزات.. لماذا الآن؟
يشترك الثلاثي، مصر وتونس وليبيا، في البعد الاقتصادي كأبرز الدوافع التي دفعت الجميع للتعاطي مع مشروع الخط الملاحي البحري بشكل إيجابي في هذا التوقيت، فالبلدان الثلاث تعاني من واقع اقتصادي مر وأزمات طاحنة وتراجع متدنٍ في مستوى المعيشة بما يهدد أمن واستقرار أنظمة الحكم في تلك البلدان.
فالديون الكارثية التي تثقل كاهل القاهرة وإلى حد ما تونس، وحالة الشلل شبه الكامل التي أصابت مراكز الإنتاج في تلك البلدان بسبب التضخم وقفزات الأسعار الجنونية، فضلًا عن تهاوي سعر وقيمة العملة المحلية، واضطرار الثلاثي لطرق أبواب الاستدانة والاقتراض من الخارج، كل ذلك دفعهم إلى البحث عن أي بارقة أمل لإنقاذ الموقف، وطرق الأبواب القديمة على أمل تحقيق أي مكسب من شأنه تحسين الوضع الداخلي، ومن هنا جاء التفكير في إحياء مشروع الخط الملاحي الذي يربط تلك البلدان رغم ما عاناه من جمود على مدار سنوات طويلة.
فعلى الجانب التونسي والليبي تحديدًا، كلاهما يحاول مغازلة القاهرة من خلال هذا المشروع الذي يسعى الجانب المصري إلى تدشينه منذ سنوات، حيث يحاول نظاما الحكم في البلدين تحقيق أكبر استفادة ممكنة اقتصاديًا من خلال المشروع من جانب، كذلك الاستفادة من علاقات مصر الخارجية من جانب آخر، حيث خريطة تحالفاتها المتشعبة مع دول الخليج ودولة الاحتلال وأوروبا والولايات المتحدة وروسيا والصين.
وعلى مستوى الجانب المصري فتسعى السلطات الحاكمة حاليًّا إلى تحقيق الاستفادة القصوى من إمكاناتها البحرية، سواء على مستوى الموانئ أم الأسطول البحري الذي يعد الأكبر في إفريقيا، وعليه تحاول جني أكبر قدر ممكن من المكاسب الاقتصادية بما يُنعش الخزانة المصرية بالعملات الأجنبية، حين تتحول القاهرة إلى حلقة وصل ملاحية بحرية بين آسيا وإفريقيا، إلى جانب كونها حلقة أكبر بين الغرب والشرق من خلال قناة السويس العالمية.
خريطة النقل البحري.. تفوق مصري
من الواضح أن هناك فرقًا واضحًا في الإمكانات البحرية بين مصر من جانب وتونس وليبيا من جانب آخر، سواء فيما يتعلق بعدد سفن الأسطول البحري في تلك البلدان أم مستوى الخدمات اللوجستية المقدمة عبر موانئها، وهو ما ينعكس بطبيعة الحال على مؤشر الاتصال بالخطوط الملاحية المنتظمة ومؤشر الأداء اللوجستي لدول القارة الذي تتصدره مصر.
ويبلغ عدد سفن الأسطول المصري قرابة 117 سفينة، منها 46 سفينة تعمل على الخطوط الدولية بحمولة كلية تزيد قليلًا على 800 ألف طن، بجانب 13 سفينة لنقل البضائع العامة والناقلات الصب و7 سفن حاويات، فيما بلغ عدد سفن الأسطول الساحلية 71 سفينة بحمولة كلية 99 ألف طن، بجانب 57 سفينة أخرى تابعة لقناة السويس، بينما بلغت ناقلات البترول 12 ناقلة.
اللافت هناك بحسب أستاذ الجغرافيا الاقتصادية المساعد كلية الدراسات الإنسانية بجامعة الأزهر، وعضو مجلس إدارة الجمعية العلمية العربية للنقل، منى نور الدين، أن معظم تلك السفن (74 سفينة) تزيد أعمارها على 20 سنة، في مقابل 15 سفينة فقط يرجع عمرها إلى 10 أعوام، ما يعني ضرورة تحديث بعض السفن وإحلالها وشراء أخرى جديدة، خاصة سفن الحاويات التي من الممكن تأجيرها للخطوط الملاحية.
خبيرة النقل البحري المصرية في دراسة لها أشارت إلى أن مصر تمتلك أكبر شبكة خطوط ملاحية في القارة الإفريقية، ففي البحر الأحمر هناك ميناء العين السخنة الذي تنطلق منه الرحلات إلى موانئ إفريقيا، وهناك ميناء الدخيلة الذي يربط بين مصر وموانئ البحر المتوسط والقارة الإفريقية، مثل: ميناء وهران بالجزائر وميناء سوسة وبزرت بتونس، وعلى الساحل الأطلسي ميناء كازابلانكا وطنجة بالمغرب، وميناء تيما تيما بغانا، وميناء أبيدجان بساحل العاج، وميناء داكار بالسنغال، وموانئ نواكشوط، ونواذيبو بموريتانيا، وميناء تينكد أيلاند بنيجيريا، وموانئ ملايو وباتا بغينيا الاستوائية.
وانعكست تلك الإمكانات على مؤشر الاتصال بالخطوط الملاحية المنتظمة (يتم تحديده وفق عدة معايير هي: الجمارك والبنية التحتية وأسعار الشحن والوقت والجدولة الزمنية وتعقب الشحن) حيث حققت فيه مصر تقدمًا ملحوظًا وصل إلى 66.7 نقطة، نتيجة عدة عوامل أبرزها: تشغيل خدمات النقل العابر وتشغيل الخطوط الملاحية الدولية واعتبار الموانئ محطات رئيسية ومركزية لخطوط الشحن وتحسين مؤشر مدة انتظار السفن الموانئ بمتوسط 34.6 ساعة وتحسين القدرة التنافسية للموانئ من خلال التحول الرقمي لتسهيل الإجراءات الإدارية والتخليص الجمركي ورفع كفاءة العاملين بالموانئ.
أما في تونس فيمثل قطاع النقل البحري في مجمله أهمية اقتصادية كبيرة، إذ تستحوذ الموانئ على 98% من حجم التبادلات التجارية التي تقوم بها البلاد، وتحتضن الدولة التونسية 7 موانئ رئيسية ممتدة على شريط البحر المتوسط، تتقارب من بعضها بمسافة 32 كيلومترًا بين كل ميناء وآخر، هي: ميناء بنزرت – منزل بورقيبة في العاصمة وميناء جرجيس وميناء حلق الوادي وميناء سوسة وميناء صفاقس وميناء رادس وميناء قابس.
ويعد ميناء “رادس” الواقع في جنوب العاصمة، شريان الحركة التجارية في تونس، إذ يمتلك قدرات لوجستية كبيرة في الحاويات والمجرورات، لكنه رغم ذلك يواجه انتقادات حادة بسبب مستوى إنتاجيته المنخفض مقارنة بالمعايير الدولية وما توفره الموانئ المنافسة والمجاورة.
ويضم قطاع النقل البحري التونسي نحو 560 شركة تعمل في المهن البحرية ووكلاء شحن ومهن الموانئ وتوفر ما يقرب من 6 آلاف وظيفة مباشرة، بحسب تصريحات وزير النقل، الذي أكد أن السفن العاملة في المجال مطابقة للمواصفات والمعايير الدولية، وذلك ردًا على وضع الأسطول البحري التجاري التونسي في القائمة السوداء حسب مذكرة تفاهم باريس PARIS-MoU لمراقبة السفن من طرف دولة الميناء.
وتعرض قطاع النقل البحري التونسي لضربات موجعة خلال السنوات الأخيرة، ففي الأعوام العشر الماضية فقط تراجعت تونس 40 مركزًا في الترتيب الدولي الذي وضعه البنك الدولي للإنشاء والتعمير من حيث القدرة التنافسية لخدمات الموانئ، حيث تهاوت من المرتبة الـ30 في عام 2007 إلى المرتبة الـ105 في عام 2018.
وعلى الجانب الليبي، تعد ليبيا من أكثر الدول حضورًا على المستوى العربي والإفريقي في مجال النقل البحري، حيث تمتلك ساحلًا طوله أكثر من 1900 كيلومتر، أي نحو 10% من كامل السواحل العربية، فضلًا عن 15 ميناء موزعًا على طول الساحل ما بين تجاري ونفطي وبشري، هذا بجانب أنها تحتل المرتبة الأولى في الخدمات النفطية، إذ تستحوذ على 80% من الأعمال في هذا القطاع.
وتندرج كل الموانئ الليبية تحت سيطرة وإدارة شركة الموانئ الليبية التي تأسست عام 1986، التي تضع قبضتها على موانئ: الخمس التجاري في العاصمة، ميناء بنغازي البحري، ميناء السدر النفطي، ميناء فروة البحري، ميناء مرسى البريقة النفطي، ميناء مرسى الحريقة النفطي، ميناء مليته النفطي، ميناء مصراته البحري في ليبيا، ميناء رأس لانوف النفطي، ميناء طبرق التجاري، ميناء طرابلس البحري، ميناء الزاوية النفطي، ميناء زويتين النفطي، ميناء درنة التجاري، وميناء سرت التجاري.
ورغم الإمكانات اللوجستية الكبيرة، فإن ليبيا تمتلك أسطولًا بحريًا متوسط المستوى، يشمل 4 سفن سياحية أبرزها: “طليطلة” و”غرناطة” بطاقة نقل 848 راكبًا و300 سيارة و2200 طن من الحمولات في عنابر كل منها، بجانب السفينة “قاريونس” بطاقة نقل 600 راكب وعنابر للبضاعة ومخازن للسيارات، إضافة إلى السفينة “الهناء”.
كما لديها أسطول ناقلات نفطية يبلغ 23 ناقلة، أغلبها ذوي أعمار منخفضة، مابين 4 – 5 سنوات، ما يعني أنها قادرة على العمل لسنوات أخرى قادمة، بجانب 12 سفينة تجارية (بضائع وجافة وشحن أفقي)، لكنها بيعت في أعقاب غرق السفينة ابن حوقل عام 2002 قبالة السواحل الجزائرية ومات جميع أفراد طاقمها، فيما تسعى الدولة الليبية الآن لتجديد هذا الأسطول في أسرع وقت.
المكاسب الاقتصادية.. الهدف الأبرز
تمتلك القارة الإفريقية خريطة من السواحل على بحار متعددة يمكنها أن تكون موردًا اقتصاديًا هائلًا إذا تم استغلاله بشكل جيد، فالقارة التي يصفونها بـ”الفقيرة” تطل على بحرين من أكبر بحار العالم وهما البحر المتوسط والبحر الأحمر، بجانب امتلاكها عدة ممرات بحرية تستحوذ على الجزء الأكبر من حركة التجارة العالمية: قناة السويس ومضيق موزمبيق ومضيق باب المندب ومضيق جبل طارق وخليج عدن وخليج غينيا، إضافة إلى إطلالها على المحيط الأطلسي والهندي، مع الوضع في الاعتبار سلسلة الأنهار المصنفة ضمن أنها الأطول في العالم وعلى رأسها نهر النيل.
كل تلك الإمكانات البحرية والمائية جعلت من تمديد خطوط بحرية بين مختلف الدول مشروعًا لوجستيًا قادرًا على تحقيق مكاسب مؤكدة، كما أنه من الممكن أن يكون حلقة وصل لتسويق المنتجات والبضائع العربية إلى قارات العالم المختلفة من خلال الممرات البحرية التي تطل عليها القارة الإفريقية.
من هنا تحاول كل من تونس وليبيا، على حد سواء، إنعاش حركة التجارة البينية، ثم الانتقال نحو الإقليمية والعالمية، بما يمنح اقتصادات تلك البلدان متنفسًا جديدًا يُنعش أحوالها المتأزمة وينقذها من شبح الهبوط في مستنقع التفاقم الغارقة فيه عامًا بعد الآخر.
أما على الجانب المصري فالأحلام والطموحات أكبر نسبيًا، مقارنة بجيرانها، فالأمر ليس تبادلًا سلعيًا تجاريًا بين بلدان ثلاث فقط، حيث تسعى القاهرة إلى تعزيز حضورها الإفريقي من خلال مد هذا الخط الملاحي الذي يطوق القارة الإفريقية من شمالها، ثم الانتقال إلى عمق القارة عبر الطرق البرية، بما يسمح لمصر بتوسعة دائرة نفوذها الاقتصادي والسياسي داخل القارة بعد سنوات من التراجع لحساب قوى وكيانات أخرى، دفعت مصر بسببه ثمنًا كبيرًا من أمنها المائي والقومي.
أهداف سياسية أخرى.. ليست أقل أهمية
بعد آخر تحاول القاهرة تحقيقه من خلال هذا المشروع، يتعلق بتعزيز العلاقات مع الدول الأوروبية، لا سيما المتضررة من موجات الهجرة غير الشرعية، التي تمثل كابوسًا في رأس حكومات فرنسا وإيطاليا وإسبانيا على وجه الخصوص، وبنسب أقل بقية حكومات القارة العجوز، وهو ما دفعها لتبني خطط تمويلية لوقف تلك التدفقات.
وهنا يسعى الجانب المصري إلى تحقيقه من خلال فرض نفسه كـ”شرطي” إفريقيا بجانب تونس وليبيا، بما يقوي العلاقات مع أوروبا ويحقق مكاسب اقتصادية وسياسية عدة، وقد يسهل هذا الخط الملاحي الممتد من مصر إلى بقية شمال إفريقيا – حال تنفيذه – من تلك المهمة.
وكان الاتحاد الأوروبي قد خصص مساعدات بقيمة 166 مليون دولار لأجل وقف موجات الهجرة القادمة من دول شمال إفريقيا، بجانب مبادرات خاصة أبرمها مع كل دولة على حدة من بلدان الشمال الإفريقي لتضييق الخناق على المهاجرين، أبرزها مع مصر لإدارة الحدود في أكتوبر/تشرين الأول 2022 تقضي بـ”مساعدة حرس الحدود وخفر السواحل في مصر على الحد من الهجرة غير النظامية والاتجار بالبشر على الحدود” نظير مساعدات بقيمة 800 مليون يورو، المبادرات ذاتها أبرمت مع تونس وليبيا.
التصدي للنفوذ التركي في ليبيا أحد الدوافع التي لا يمكن إغفالها وراء الهرولة المصرية لتدشين تلك الممرات والخطوط الملاحية البحرية مع البلدين، لا سيما بعد الحديث عن تفعيل الخط البحري بين مصراتة وإسطنبول في أكتوبر/تشرين الأول 2020 بهدف ضمان سرعة وصول الإمدادات العسكرية التركية لحكومة السراج الليبية المعترف بها دوليًا في مواجهة انتهاكات ميليشيات اللواء المتقاعد خليفة حفتر.
ورغم الهدوء النسبي الذي خيم على الملف الليبي فيما يتعلق بالنزاع المصري التركي، والتنسيق الكبير بين البلدين حاليًّا إزاء تلك القضية، فإن القاهرة لا تزال تنظر للتحركات التركية في المنطقة، لا سيما في دول الجوار، بشيء من القلق والتحفظ، وهي النظرة ذاتها التي تنظرها أنقرة للتحركات المصرية في شرق المتوسط والعلاقات مع قبرص واليونان.
ومن هنا ترى القاهرة أن تفعيل هذا الخط في أقرب وقت يضع الجانب المصري في قلب الحدث أكثر وأكثر، ويجعل كل التحركات التي تتم على طول الشريط الحدودي البحري لليبيا على وجه التحديد في مرمى البصر المصري، الأمر الذي يخدم الأمن القومي المصري في هذا الملف.
مخاوف أمنية
المكاسب الاقتصادية التي تسعى الدول الثلاثة لتحقيقها من وراء هذا المشروع، بجانب الأهداف السياسية الأخرى، ربما تنضوي على مخاوف أمنية استثنائية، مرجعها تلك العلاقة القوية التي تجمع تلك الدول مجتمعة ببعض القوى التي لديها أجندات سياسية في الإقليم، هذا بخلاف الدعم اللافت للنظر الذي قدمته مصر – ولا تزال – لبعض الأطراف المتصارعة في ليبيا الذي قد يجعل تحركاتها مثار شك لدى الآخرين.
هذا الأمر ربما يثير المخاوف بأن يتحول هذا الخط الملاحي الممتد من مصر (صاحبة التفوق الأسطولي البحري في المنطقة) إلى ليبيا ثم تونس، وربما لاحقًا الجزائر وموريتانيا ومنها إلى غرب إفريقيا، إلى أداة لتحقيق أطماع سياسية وأجندات إقليمية ودولية، بما يهدد الأمن والاستقرار في الشمال الإفريقي بصفة عامة، لا سيما أنه مفخخ بقاعدة عريضة من الجماعات المسلحة في خاصرته الجنوبية يمكنها أن تتحول إلى كارثة إذا ما جرى توظيفها أو استغلالها من أصحاب الأجندات.
غير أن هذا لا يقلل من أهمية وقيمة هذا الخط الملاحي حال تنفيذه، الذي قد ينقل البلدان المطلة عليه إلى آفاق أخرى من توسعة حركة التجارة بها، وفتح أسواق لبضائعها في الخارج، وأن تتحول مع الوقت إلى محطات لوجستية مهمة، بما يتعزز معها ثقلها السياسي والاقتصادي، لكن هذا يتوقف على توفير الضمانات التي تحول دون تحويل هذا الخط إلى فخ أمني وسياسي لدول المنطقة.. فهل تنجح البلدان الثلاث في توفير تلك الضمانات؟