كان حلمه أن يغير مهنة بائع البطاطا ويستطيع القراءة والكتابة كأقرانه، إلا أنه كان لابد له من التردد يوميًا على ميدان التحرير، ليبيع البطاطا للمعتصمين والثوار، ذلك من أجل كسب قوت يومه، ومساعدة والدته في إعانة الأسرة التي توفّي فيها الأب، لينتهي مستقبله بجملة قالها في أحد الفيديوهات التي صورها له المعتصمين في ميدان التحرير قبل وفاته ببضعة أيام، “أنا مش من حقي أحلم”، فنال رصاصتين في الرأس والصدر.
“عمر صلاح”، بائع البطاطا المجهول، الطفل ذو الثالثة عشر عامًا، والذي يخلد جرافيتي شارع محمد محمود صورته دامع العينين، تحولت حياته من بائع للبطاطا إلى شهيد رصاص الجيش المصري حامى حما السفارة الأمريكية المتواجدة في محيط ميدان التحرير بالقاهرة، والسبب عدم اكتراث المجند أثناء تنظيفه لسلاحه، فكانت النتيجة رصاصتين في صدر الفتى و أخرى في رأسه أنهت حياته على الفور.
على الرغم من مرور ما يزيد عن الثلاث سنوات على الحادث، وبعد حنق ثوار الفيس بوك حينها، وغضب المسئولين عن منظمات حقوق الإنسان المصرية، لم يبقى من ذكرى “عمر” سوى بيان “اعتذار” من القوات المسلحة واعتراف منها بقتل الطفل دون عمد بعد اتهام قوات الأمن المركزي أولًا بالجريمة ، وصورة مخلدة له على ما تبقى من شهود الثورة الصامتين؛ جرافيتي شارع محمد محمود.
جرافيتي بائع البطاطا في شارع محمد محمود
يعود “عمر” ليُلهم قصة فيلم يشق طريقه نحو لأوسكار، فيظهر فيلم “بائع البطاطا المجهول” مع الممثل المصري خالد أبو النجا يشق طريق أول فيلم سينمائي بتقنية الروتوسكوبينج من القاهرة إلى الأوسكار مرورًا بالمهرجان العالمي للأفلام في دبي، ليُرشح الفيلم لأول عرض عالمي له بعد إنتاجه في مهرجان دبي للأفلام السينيمائية في شهر ديسمبر الماضي، والذي يقام ما بين 7- 14 ديسمبر من كل عام في دبي.
إعلان الفيلم
دراما صدمة ما بعد الثورات بتقنية الروتوسكوبينج
يصور الفيلم قصة فنان يدعى “خالد” يحقق في قضية مقتل الطفل “عمر صلاح”، لتقوده تحقيقاته إلى عالم لم يكن يتخيل بوجوده بالفعل، وتطارده الكوابيس بعد أن يكتشف معلومات عن الجريمة والمسئولين عنها، حيث يتناول الفيلم معاملة النظام الحاكم لكل من شارك في الثورة سواء من الشباب أو الثوار فيما بعد، فيقرر “خالد” البحث عن القاتل بنفسه.
يعد الفيلم من الأفلام القصيرة مدته لا تزيد عن خمسة عشر دقيقة للمخرج الشاب “أحمد رشدي”، يتمركز حول قصة الطفل بائع البطاطا المجهول، كما صوّر رؤوس النظام في صورة خفافيش تطارده ومن ثم تطارد الفنان “خالد” في كوابيسه بعد مقتل الطفل إلا أن ينتهي الأمر بصعوبة اكتشاف هوية القاتل وسط كل تلك الخفافيش أو “قوى الشر”.
يعد فيلم “بائع البطاطا المجهول” من أول الأفلام العربية المستخدم فيها تقنية الـ “روتوسكوبينج” “Rotoscoping
وهي إحدى تقنيات الرسوم المتحركة الصعبة، التي تتبع لقطات الفيلم لقطة لقطة، وتقوم بتحويلها إلى ما يبدو للمشاهد كالرسم المتحرك، فهي تقنية تطلب تصوير الفيلم بالمنهاج الطبيعي المباشر، ومن ثم يتم إعادة رسم المشاهد المصوّرة لقطة لقطة بالتتابع من قِبل رسّام للرسوم المتحركة.
يستخدم الروتوسكوبينج أو ما يعبر عنه صانعو الأفلام بالروتو في تحويل تصوير الأشخاص أو الأشياء الحقيقية إلى ما يسمى بالـ “matte” وهو دمج صورتين أو أكثر في صورة واحدة، وبمساعدة الخلفيات الزرقاء أو الخضراء “الكروما” أثناء تصوير المشاهد الأصلية، يمكن دمج خلفيات مختلفة للصور المدموجة “matte” بعد استخدام تقنية الروتوسكوبينج في المؤثرات البصرية.
الممثل خالد أبو النجا والممثلة تارا عماد في لقطة من لقطات الفيلم
جائزة “المهر القصير” بعيدة المنال
تم ترشيح فيلم “بائع البطاطا المجهول” لجائزة مسابقة “المهر القصير”، حيث يرشح مهرجان دبي السينمائي قائمة بأفضل الأفلام المعروضة في المهرجان من أجل تلك المسابقة، وهي المسابقة التي تعد إحدى أهم المنصات لعرض أهم وأحدث ما تنتجه السينما العربية، لترعى وتموّل المواهب الجديدة، وتجذب المخرجين الجدد، فهي تسمح بمشاركة الأعمال الأولى للمشتركين في المسابقة كذلك، وتتمحور أهميتها في أن الفائزين بها يترشحون مباشرة إلى قائمة الأفلام المرشحة للأوسكار، وعلى الرغم من ترشح فيلم “بائع البطاطا المجهول” القوي من بين الأفلام العربية والشرق أوسطية، إلا أن جائزة “المهر القصير” باتت بعيدة المنال!
اعتذار مهرجان دبي السينمائي
لم ينل الفيلم فرصة الترشح للجائزة من الأساس، وذلك لأنه لم يُعرض في مهرجان دبي السينمائي أصلًا
حيث أعلنت إدارة المهرجان اعتذارها لطاقم عمل الفيلم عن منعه عن العرض لظروف طارئة، وخارجة عن إرادة الطرفين كما وضحت إدارة المهرجان في منشور على صفحتها الرسمية على فيس بوك.
فضّل طاقم الفيلم الصمت عما حدث، لاسيما أن الأسباب كانت غامضة وغير واضحة، كما كان الحدث بمثابة دعاية سلبية للفيلم ولطاقم عمله، لذلك فضل الفريق عدم الحديث، إلى أن خرج مخرج الفيلم مكذبًا استغلال الصحافة المصرية لذلك الصمت.
خرج مخرج الفيلم “أحمد رشدي” عن صمته معلنًا الأسباب الحقيقية وراء منع عرض الفيلم من العرض، فقال في منشور على صفحته الرسمية على فيس بوك، بأن تم إلغاء عرض الفيلم قبل العرض الأصلي بـ24 ساعة فقط، تبعها إلغاء تأشيرات دخول الإمارات العربية المتحدة لطاقم الفيلم لأسباب غير معلنة، كما كذب “أحمد رشدي” تصريحات صحيفة “الأهرام” المصرية بوجود تلف في نسخة الفيلم التي تسلمها المهرجان، حيث أشار “رشدي” بأنه تمت الموافقة على النسخة المستلمة قبل أسبوعين من عرض الفيلم.
توظيف العامل البصري الجذاب في توثيق الأحداث الحقيقية هو أفضل تقنيات الوثائقيات الحديثة باستخدام التكنولوجيا، فعلى الرغم من جودة الفيلم التقنية بالفعل، لكن يبدو أن تلك القصة الحقيقة لهذا الطفل تؤرق بعض الأنظمة قليلًا، حتى بعد دفن جسد الطفل الصغير منذ أكثر من ثلاث سنوات، تبقى ذكراه خالدة على الجدران فحسب، في شارع محمد محمود في القاهرة، في ذلك الوقت الذي شهد فيه ذلك الشارع ثورة يومًا ما.