ما عملت عليه إدارة الرئيس أوباما طوال فترة حكمه لإنجاح اتفاق التبادل الحر أو ما يعرف بتجارة الشراكة عبر المحيط الهادئ التي تكللت بتوقيع الاتفاقية بعد مفاوضات شافة في مطلع العام 2016، أفشله الرئيس الجديد دونالد ترامب عبر توقيع قرار تنفيذي لانسحاب بلاده رسميًا من الاتفاقية. كما وقع قرارًا أيضًا للبدء في إعادة التفاوض على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا) بين الولايات المتحدة وكندا والمكسيك تمهيدًا لتغيير شروط الاتفاقية.
ترامب: أمريكا أولًا
وصف ترامب قرار الانسحاب من الاتفاقية بأنه “شيء عظيم للعامل الأمريكي” وسبق أن ذكر خلال حملته الانتخابية بأنها “رهيبة” ومن شأنها الإضرار بمصالح العمال الأمريكيين.
من المتوقع أن تكون الاتفاقية بدون الولايات المتحدة ذو الوزن الأكبر فيها، بلا معنى، وبعد انسحاب ترامب منها تدرس الدول الأخرى خياراتها لإبقاء الاتفاقية والمحافظة عليها، علمًا أن رئيس الوزراء الياباني شينزو آبي وهو مدافع بشدة عن الاتفاقية كان قد أعلن نهاية 2016 أن معاهدة التبادل الحر عبر المحيط الهادئ بدون الولايات المتحدة “لن يكون لها أي معنى”.
إلا أن أستراليا تحركت مع بعض الدول من بينها اليابان وسنغافورة ونيوزيلندا لإنقاذ الاتفاقية بعد انسحاب ترامب حيث صرح رئيس الوزراء الأسترالي “مالكولم تيرنبول” أن انسحاب الولايات المتحدة هو “خسارة كبيرة” وقال وزير التجارة الأسترالي “ستيفن سيوبو” في إحدى تصريحاته اليوم الثلاثاء أن المضي في اتفاقية الشراكة عبر المحيط الهادي دون الولايات المتحدة هو “خيار ممكن جدا” وهو ما يعني التحرك لإبرام اتفاقية بديلة.
وفورًا تبادر لذهن تلك الدول الصين منافس أمريكا اللدود، حيث باتت فرصها للانضمام لتلك الاتفاقية كبيرة جدًا وهي فرصة ثمينة لها للدفع بأجندتها التجارية في تلك المنطقة وتعزيز مصالحها، وحسب تصريحات لرئيس الوزراء الأسترالي “تيرنبول” ألمح إلى أن الصين قد تأخذ مكان الولايات المتحدة في الشراكة عبر المحيط الهادي، ونقل عن تيرنبول قوله “بالتأكيد هناك إمكانية لانضمام الصين إلى اتفاقية الشراكة”.
الصين وألمانيا أبرز المستفيدين من انسحاب أمريكا من اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادئ
وهناك مستفيد آخر من انسحاب الولايات المتحدة وهي ألمانيا التي صرح “زيغمار غابرييل” نائب المستشارة الألمانية أنجيلا ميركل أمس إن الصناعة الألمانية ستستفيد من أي فرص تجارية في آسيا وأميركا الجنوبية تتيحها سياسات الحمائية الأميركية التي يتبعها ترامب حاليًا وأضاف أنه “يجب على ترامب ببساطة أن يقر بأن اقتصاد الولايات المتحدة ليس تنافسيًا بينما اقتصاد ألمانيا كذلك”.
وكانت الولايات المتحدة وقعت في شباط/فبراير من العام الماضي 2016 على الاتفاقية التي لم تدخل حيز التنفيذ حيث يتعين على الدول الموقعة أن توافق عليها برلماناتها في غضون عامين، وتضم 11 بلدًا إلى جانب الولايات المتحدة هي أستراليا وبروناي وكندا وتشيلي واليابان وماليزيا والمكسيك ونيوزيلندا والبيرو وسنغافورة وفيتنام.
أثناء توقيع الاتفاقية بين الدول 12 مطلع العام 2016
هدفت الاتفاقية إلى كسر الحواجز أمام التجارة والاستثمار بين الـ12 دولة المذكورة والتي تشكل 40% من حجم الاقتصاد العالمي، وذكر أوباما إبان توقيع الاتفاقية أنها ستعزز قيادتنا في الخارج وستدعم الوظائف في الولايات المتحدة.
نصت الاتفاقية على تخفيض أو إلغاء معظم الرسوم الجمركية بنسبة 100% لتصبح 0 جمارك بين تلك الدول، وتشمل المنتجات المصنعة والموارد الطبيعية والمنتجات الزراعية والبحرية إلى جانب لحوم البقر ومنتجات الألبان والنبيذ والسكر والأرز، بالإضافة إلى مجالات تبادل المعلومات والملكية الفكرية التي لم تكن تشملها الاتفاقات السابقة المتعددة الأطراف. وستسمح الاتفاقية لوصول السلع والخدمات لأكثر من 800 مليون شخص في دول الشراكة عبر المحيط الهادئ.
عدت الاتفاقية ذا منفعة تبادلية لجميع من فيها وبالأخص للولايات المتحدة فجميع الدول يعد ميزانها التجاري مائل لصالحها في تبادلها التجاري مع أمريكا، إلا أن نمو الصادرات الأمريكية مع تلك الدول يشكل ميزة لصالح الولايات المتحدة، ومن جهة أخرى لا تُخفي الاتفاقية الصراع التجاري الدائر بين الصين والولايات المتحدة حيث تعتبر الاتفاقية محاولة أمريكية لإعادة التوازن للاقتصاد في آسيا ووقف تعاظم دور الصين هناك، ويأتي إصرار الولايات المتحدة للإسراع في توقيع الاتفاقية آنذاك، بعدما أطلقت الصين مشروع طريق الحرير الجديد الذي يعد أحد أكبر مشروعات البناء والتنمية الاقتصادية في العالم.
الصين تريد تزعم العالم إذا تخلت أمريكا عن ذلك
من شأن خروج الولايات المتحدة من اتفاقية التبادل الحر عبر المحيط الهادئ وتطبيق سياسة الانعزال أن يقوي شوكة الصين في الأسواق الخارجية وتمكينها أكثر لإحياء طريق الحرير القديم ليصبح ممرًا حديثًا للتجارة والاقتصاد يمتد من شنغهاي إلى برلين حيث من المقرر أن يمر الطريق عبر الصين ومنغوليا وروسيا وبيلاروسيا وبولندا وألمانيا بحيث يخلق منطقة اقتصادية تمتد عبر أكثر من ثلث محيط الأرض.
وذكر المدير العام لإدارة الاقتصاد الدولي في وزارة الخارجية الصينية “تشانغ جون” أمس الإثنين أن بلاده لا ترغب في زعامة العالم لكنها قد تضطر للعب هذا الدور إذا تراجع الآخرون، في إشارة إلى الولايات المتحدة التي يسعى رئيسها ترامب لاتباع سياسة “أمريكا أولا”.
وتابع “تشانغ” أن الصين لا تسعى لتكون في المقدمة لكن اللاعبين الرئيسيين تراجعوا تاركين المجال مفتوحًا أمام الصين، وأشارت أن الولايات المتحدة لم تكون قادرة على دفع النمو الاقتصادي العالمي أو تحقيق نمو 4% كما تقول إذا دخلت في نزاعات تجارية مع الصين ودول أخرى.
ويبدو أن كلام الصين يحتمل صحة كبيرة ففي حال التزم ترامب بتنفيذ تعهداته المتعلقة بسياسة الحماية التجارية سيكون ذلك أكبر خطر يهدد نمو الاقتصاد الأمريكي، حسب استطلاع رأي أجرته رويترز مع خبراء اقتصاديين مؤخرًا.
سياسات ترامب الاقتصادية المتمثلة بتعزيز الصناعة المحلية وإعادة الشركات الأمريكية للإنتاج المحلي بدلًا من الإنتاج في الخارج، وفرض ضرائب مرتفعة على السلع والخدمات المستوردة وخصوصًا الصينية منها والانسحاب من اتفاقيات التبادل التجاري الحر مع دول العالم، والدخول في خلافات تجارية مع عدد من دول العالم، لا تصب في مصلحة الاقتصاد الأمريكي أو الاقتصاد العالمي على حد سواء.
إذ ستنعكس ضرر تلك السياسات بحسب العديد من التقارير الاقتصادية على الاقتصاد الأمريكي والعالمي من خلال انخفاض النمو وارتفاع التكاليف الإنتاجية وارتفاع الأسعار وانخفاض التصنيف الإئتماني للولايات المتحدة وانخفاض قيمة الدولار أمام العملات العالمية وأمور أخرى. فترامب سيفرض ضريبة على الواردات ستؤدي إلى تعثر الكثير من الشركات الأمريكية ومن بينها شركات التجزئة وصناعة السيارات والنفطية بشكل خاص لإن مصافي النفط الأمريكية تستورد نحو نصف كميات الخام الذي تستخدمه لإنتاج المحروقات، وسينسحب هذا على أسعار السلع والخدمات التي سترتفع بسبب ارتفاع تكاليف الاستيراد للسلع والخدمات.
الصين لا ترغب في زعامة العالم لكنها قد تضطر للعب هذا الدور إذا تراجع دور الولايات المتحدة التي يسعى ترامب لاتباع سياسة “أمريكا أولا”
إلى جانب أن خطط ترامب في خفض الضرائب قد تهدد التصنيف الائتماني للولايات المتحدة البالغ AAA على المدى المتوسط وحسب مدير التصنيفات الائتمانية لدى وكالة فيتش فإن خطط ترامب لخفض الضرائب بنحو 6.2 ترليونات دولار على مدى السنوات العشر المقبلة قد يضيف نحو 33% إلى الديون الأمريكية الحكومية.
وتشير وكالة موديز للتصنيف الائتماني أن 3.5 ملايين شخص سيخسرون وظائفهم وأن معدل البطالة سيرتفع إلى 7% بدلًا مما هو عليه الآن عند 4.7%، في حال نفذ ترامب وعوده الاقتصادية في السنوات الأربعة المقبلة.
وخفض البنك الدولي توقعاته للنمو العالمي لعام 2017 إلى 2.7% بسبب الشكوك المتزايدة المحيطة بالسياسات الاقتصادية التي قد ينتهجها ترامب، وبالأخص الإجراءات الاقتصادية الانتقامية التي لوح بها والتي قد تؤدي إلى كبح النمو العالمي، وحرب تجارية مع الصين.