عند النظر إلى التحالف السياسي الذي جرى بين حزبي العدالة والتنمية، الحزب الحاكم، والحركة القومية، حزب المعارضة في الترتيب الثاني، التركيين، نلاحظ بأن تحالفهما كان ناجع، وأخذ بتركيا لقطع أول خطوة أساسية نحو الولوج للنظام الرئاسي، حيث تجلت هذه الخطوة في موافقة 339 نائباً برلمانياً على الإصلاحات الدستورية التي ترتكز بشكل أساسي على تغيير وجهة نظام الحكم من برلماني إلى رئاسي.
أما الخطوة الثانية فهي عرض التعديلات الدستورية للاستفتاء الشعبي، وفي حين صوت الشعب بنسبة 50 زائد 1%، فإن التعديلات ستكون سارية، وسيصبح النظام الفاعل في تركيا هو النظام الرئاسي. لقد استنفر حزب العدالة والتنمية كافة جهوده لإرساء النظام الرئاسي بسلاسة عبر الحصول على ثلث أصوات البرلمان، أي صوت 367 نائباً من أصل 550 نائباً، وفقاً للمادة 175 من الدستور، والتي تقتضي بإمكانية تغيير الدستور في حين وافق العدد المذكور، إلا أن المعارضة الشديدة لحزبي الشعب الجمهوري، حزب المعارضة الأساسي، والشعوب الديمقراطية، الحزب الكردي، للتعديلات الدستورية باعتبارها انطلاقة نحو نظام “سلطوي” يركن لحكم الشخص الواحد، حالات دون تحقيق حزب العدالة والتنمية لمسعاه، الأمر الذي أحال الأمر إلى استفتاء شعبي بعد بلوغ نسبة التصويت أكثر من 330 صوتاً.
وعند التعريج إلى المواد الأساسية التي تضمنها التعديل الدستوري، نجد أن أهم النقاط التي ستغير نظام الحكم في تركيا، هي على الشكل التالي:
1ـ فصل السلطات نظريًا:
تحصر المادة 104 من الدستور التركي المصاغ بأيدي عسكرية عام 1982، سلطات الرئيس التركي في نطاق المهام الرمزية البعيدة عن الصلاحيات التنفيذية ذات التأثير في مسار السياسات المتبعة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ومع التعديلات الدستورية الجديدة ستصبح القوة التنفيذية بثقلها الكلي في يد شخص الرئيس الذي سيظفر بشرعيته عبر تصويت شعبي، وفقاً لتعديلات الدستور التي تمت عام 2007.
وتنص ذات المادة في التعديلات الدستورية الجديدة على أن الرئيس هو ممثل الدولة على الصعيدين الداخلي والخارجي، ويقوم بعدة مهام أهمها؛ مراقبة عمل مؤسسات الدولة بشكل منظم ومتناغم مع الدستور، الموافقة على القوانين الصادرة عن البرلمان أو رفضها ليتم تعديلها من قبل البرلمان مرة أخرى، تعيين الوزراء ورؤساء المؤسسات الحكومية الهامة، تعيين السفراء، إبرام الاتفاقيات الدولية وعرضها على البرلمان للموافقة، قيادة الجيش التركي بشكل مباشر.
بنيل الرئيس الصلاحيات، سيستطيع إصدار قرارات سياسية وقانونية دون الرجوع إلى البرلمان في كل مرة، وسيكون له صلاحية في إعلان حالة الطوارئ والتعبئة لمدة 6 شهور دون الرجوع إلى البرلمان، وفقاً للمادة 13
بنيل الرئيس لهذه الصلاحيات، سيستطيع إصدار قرارات سياسية وقانونية دون الرجوع إلى البرلمان في كل مرة، وسيكون له صلاحية في إعلان حالة الطوارئ والتعبئة لمدة 6 شهور دون الرجوع إلى البرلمان، وفقاً للمادة 13، ولكن في جميع الحالات يجب ألا تتعارض القرارات المتخذة من قبله مع الدستور أو القوانين الصادرة عن البرلمان، وبذلك يتضح جلّياً أن البرلمان سيصبح في إطار النظام الجديد، مجرد مؤسسة تشريعية تصدر القوانين وتنظر في تحركات الرئيس، ولا تستطيع معارضته إلا في حين أصدر قرار يعارض الدستور أو القوانين الأخرى، على العكس من الحالة السابقة التي وضعت القوتين التشريعية والتنفيذية في يد البرلمان. الجدير بالذكر أن التعديلات الجديدة تكفل للبرلمان حق عزل الرئيس أو محاسبته في حين ثُبت تواطؤه في عملية فساد أو خيانة، وأيضاً، وفقاً للمادة 87، فإن إصدار القوانين وتغييرها وإلغائها، وإقرار الميزانية، وتصديق الاتفاقيات الدولية، وتشابه هذه المادة الكونغرس الأمريكي الذي يقوم بذات المهام في إطار سلطتها التشريعية الموازنة في بعض النقاط لتحركات السلطة التنفيذية.
وفيما يتعلق بسلطة القضاء، فتتحلى باستقلالية بعيدة عن تدخل السلطتين التشريعية والتنفيذية، وتنحصر صلاحياتها في النظر للخلافات الدستورية التي قد تنشأ بين السلطتين التشريعية، ممثلة بالبرلمان، أو التنفيذية، ممثلة بشخص الرئيس.
2ـ مشاركة السلطة مع الإرادة الشعبية:
وفقاً للمادة 12 من مسودة الدستور الجديد، فإن البرلمان يملك الحق في اتخاذ قرار الذهاب نحو إجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية في حال وافق 5/3 النواب، 360 نائب من مجموع 600 نائب، وكما يحق للرئيس أن يتخذ قرار بإجراء انتخابات رئاسية وبرلمانية جديدة. تم صياغة هذه المادة بذريعة منح الإرادة الشعبية حق المشاركة الحيوية في الحياة السياسية، إلى جانب إيجاد حالة من التوازن بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، أي أنه في حين وصل الطرفان إلى طريق مسدود فيما يتعلق بمخالفة الرئيس لأحد قرارات البرلمان، أو سخط البرلمان من اتخاذ الرئيس لقرار ما، فإن الشعب هو المرجع الرئيسي لفتح تلك الطريق.
3ـ إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، حسب المادة 116، كل خمس سنوات في ذات اليوم.
4ـ يحق لكل مواطن تركي، وفقاً للمادة 101 يبلغ من العمر 40 عاماً فما فوق، وبحوزته شهادة جامعية، أن يرشح نفسه للانتخابات الرئاسية، وفي حال تم انتخابه تستمر دورته الرئاسية لمدة 5 سنوات، ويحق له إعادة الترشح مرة واحدة فقط.
6ـ السماح لمن يبلغ 18 عاماً الترشح كعضو للبرلمان حسب ما تورده المادة 76.
7ـ انعدام مادة تنص على أن الرئيس يُطلع البرلمان على ما يجري من تطورات سياسية واقتصادية بشكل دوري، وإنما يُطلع البرلمان على النقاط المذكورة أعلاه فقط.
ـ مميزات النظام الرئاسي وتقييم النموذج التركي المطروح:
يتميز النظام الرئاسي بأنه ذو في توفير آلية اتخاذ قرارات حل الأزمات، والإجراءات السياسية والاقتصادية بشكل سريع وبدون الرجوع الدائم للبرلمان الذي يحتاج لتطبيق آلية اتخاذ القرار، والتي عادةً ما تستغرق وقتاً طويلاً من الزمن. سرعة اتخاذ القرار تمنح الدولة حالة من الاستقرار السياسي والأمني والاقتصادي الجيد، والنموذج الأمريكي على ذلك من أبرز النماذج البائنة.
يصبح ذلك النظام بمميزاته جيداً بالنسبة لتركيا التي تقاسي بعض الأزمات الأمنية والسياسية والاقتصادية، وبحاجة لآلية استصدار قرارات حاسمة تنفذ سريعاً عبر المؤسسات التابعة للرئاسة، دون التعرض لداء البيروقراطية.
على المدى القريب، يعتبر النظام الرئاسي بالنسبة لتركيا جيد، ولكن على المدى البعيد قد لا يكون النظام في صالح تركيا لعدة نتائج قد تظهر للسطح، ربما أبرزها:
ـ انعدام قوة التوازن الحقيقية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية:
ويُبزغ انعدام التوازن في نقطة إجراء الانتخابات الرئاسية والبرلمانية في اليوم عينه، وهنا سيكون المرشح للرئاسة زعيم أحد الأحزاب في ذات الوقت، ولا شك أن حملته الانتخابية ستستهدف الانتخابات الرئاسية والبرلمانية معًا، وهنا تُبرز احتمالية تحقيق الرئيس أصوات انتخابية عالية على صعيد السلطتين، الأمر الذي يؤدي إلى انعدام قوة التوازن الحقيقية بين السلطتين التشريعية والتنفيذية، فمبينا النظام الأمريكي يسمح للكونغرس أن يوازن سلطة الرئيس من خلال إجراء انتخاباته بعد عامين من انتخاب الرئيس، تنعدم هذه النقطة في النظام التركي الذي يحرم المواطنين من متابعة أداء الطرفين، وموازنتهما عبر الانتخابات المنفصلة. وإن كان هناك حديث عن مشاركة الإرادة الشعبية لموازنة قرار الجهتين، هل ستكون آلية تحكيم الإرادة الشعبية سريعة وفعالة ولصالح المصلحة العامة، أم أنها ستعود بالمردود السيء على تركيا التي قد تحتاج لتحكيم شعبي بين الفينة والأخرى.
ـ الاتجاه نحو الاستقطاب الحاد:
تُثير هذه الخطوة حفيظة الأقليات العرقية والطائفية، إلى جانب الأحزاب السياسية التركية المتعددة وغير القابلة للانصهار في أطر سياسية أساسية كحزبي الديمقراطي والجمهوري في الولايات المتحدة، حيث تشعر بالقلق من افتقارها من أي دور مؤثر في عملية اتخاذ القرار، إذ كانت تحظى بجزء من عملية التمثيل عبر البرلمان، إلا أن النظام الرئاسي الذي يعتمد على انتخاب شخص واحد، قد يؤدي إلى عملية استقطاب حادة في تركيا التي تتنوع بها الشرائح والمكونات المجتمعية من ناحية فكرية سياسية.
ـ الغموض المتكرر:
على المدى البعيد ستخضع تركيا لحالة غموض قاتلة قبيل كل علمية انتخابية، تخوفاً من خلفية الشخص الذي سيتم انتخابه ومدى تأثيره السياسي والاقتصادي والاجتماعي على تركيا في حال تم انتخابه، فليس كل الأشخاص قد يحظون بذات القوة التي يمتلكها الرئيس الحالي “رجب طيب أردوغان”، وتركيا ليست كالولايات المتحدة، يتم بها موازنة شخص الرئيس عبر المؤسسات الفاعلة، كالحزب أو الكونغرس أو وزارة الدفاع أو وزارة الخارجية، فبينما تحظى هذه المؤسسات بدور مؤثر في توجيه سياسات الرئيس الأمريكي، ينعدم الدور المؤثر للمؤسسات التركية، فتركيا دولة شرقية ترتبط بالشخص وأفكاره، وليس بالمؤسسات، وإن دل ذلك فإنما يدل على أن كل رئيس سيكون له تغييرات جذرية في مسار السياسة الداخلية والخارجية التركية، ولن يكون هناك استمرارية مؤسسية.
ـ إسقاط الرئيس لأهواء سياسية:
قد تؤدي أي حالة عدم توافق بين الرئيس أو البرلمان، إلى اتجاه أحدهما لاتخاذ قرار إجراء انتخابات مبكرة بشكل متكرر، أو قد يذهب أحد الأطراف لاتخاذ قرار إجراء انتخابات مبكرة لمجرد وجود عدم تناغم سياسي بين الرئيس ونسبة النواب المنتخبين من حزبه.
ـ سيطرة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية:
من خلال اختيار الرئيس أعضاء المحكمة الدستورية، وإجراء الانتخابات التشريعية مع الانتخابات الرئاسية في نفس الوقت.
ـ سيناريوهات قبول أو رفض التعديل الدستوري:
من المتوقع أن تعرض التعديلات الدستورية للاستفتاء الشعبي في الأول من أبريل القادم، وتحتاج تلك التعديل للحصول على ما نسبته 50 زائد 1% لتصبح فاعلة، ويتحول النظام في تركيا من برلماني إلى رئاسي، وفي ظل عرض التعديل على الشعب، فهناك احتمال للقبول أو الرفض.
أولاً؛ سيناريو الرفض:
قد يرتكز هذا السيناريو على عدة عوامل تؤدي للتوقع باحتمالية رفض الشعب للتعديلات:
التدهور الاقتصادي المتنامي الذي لم تجد له الحكومة حتى الآن، حلاً مناسباً، إلى جانب انخفاض المستوى الأمني
ـ تجربة الماضي التي ظهرت إبان الانتخابات البرلمانية التي جرت في 7 يونيو 2015، وأفضت إلى خسارة حزب العدالة والتنمية ما يقارب 9% من أصواته السابقة، حيث حصل على نسبة 40.8%، وبذلك خسر تربعه على عرش حكومة الحزب الواحد، والتي حافظ عليها لثلاث دورات انتخابية متتالية، وفُسرت تلك الخسارة على أنها استفتاء شعبي يعبر عن رفضه الشديد للنظام الرئاسي الذي سعى حينها الرئيس رجب طيب أردوغان للترويج إليه.
ـ التدهور الاقتصادي المتنامي الذي لم تجد له الحكومة حتى الآن، حلاً مناسباً، إلى جانب انخفاض المستوى الأمني، الأمر الذي قد يراه الشعب تقصيراً من الحكومة
ـ مخالفة منصب الرئيس الجديد لتقاليد الجمهورية التركية التي تكسب رئيس الجمهورية الحياد.
ـ تقييم مجموعة كبيرة من الشعب الأمر على أنه أولى خطوات تحول تركيا نحو الحكم الفردي السلطوي الذي يحرم أطياف الشعب المختلفة من التعبير عن أفكارها وآراءها بشكل فعال.
ثانياً: سيناريو القبول:
يشير هذا السيناريو إلى أن العدالة والتنمية قد يحرز ما يصبو إليه من قبول شعبي وفقاً لعدة عوامل، لعل أهمها:
أن حزب العدالة فقد 9% من أصواته نتيجة طرحه فكرة النظام الرئاسي، فإننا نستطيع القول بأن 40% من الشعب التركي يصوت لصالح حزب العدالة فقط من أجل شعوره بالانتماء إليه
ـ الهوية الأيدولوجية: تُعد الهوية عامل مهم في استقطاب ثلة من الشعب للتصويت لصالح مشروع سياسي معين، فالكثير من الشعب يصوت لصالح حزب سياسي ما دون الرجوع إلى فحوى النقطة المُصوت عليها، لأن ذلك الحزب يحظى بتأثير يحاكي تصورات تلك الفئة الأيدولوجية والفكرية، وبالاستناد إلى ركيزة سيناريو الرفض، والتي تشير إلى أن حزب العدالة فقد 9% من أصواته نتيجة طرحه فكرة النظام الرئاسي، فإننا نستطيع القول بأن 40% من الشعب التركي يصوت لصالح حزب العدالة فقط من أجل شعوره بالانتماء إليه، وبإضافة حزب الحركة القومية الذي حظي بنسبة 11.9% في الانتخابات الأخيرة، بالرغم من الغضب الشديد الذي ناله من المناصرين له جراء رفضه تأسيس حكومة ائتلافية مع حزب العدالة والتنمية، يصبح لدينا ما مجموعة 51% قد يصوتون “بنعم” لصالح التعديلات الدستورية، استناداً إلى الهوية، ومع حملة التعبئة الشعبية التي تحمل اسم “نعم للتعديلات الدستورية”، والتي سيقودها حزبا العدالة والتنمية والحركة القومية بشكل مشترك، قد ترتفع نسبة الأصوات إلى أكثر من 51%، وبالأخص في ظل التأثير الشعبوي الذي تتمتع به شخصيتا أردوغان ودولت باهجلي “قائد حزب الحركة القومية”.
ـ الأداء والعزو: للأداء الاقتصادي والاجتماعي دوره الملموس في استقطاب أصوات الشعب، وللعدالة والتنمية أسلوب ناجح في اللعب على وتر الأداء الاقتصادي والاجتماعي الماضي والمستقبلي، والشخصي والمجتمعي، ورصيده زاخرٌ بالإنجازات الاقتصادية والاجتماعية التي قد ترفع من احتمالية حصول الاستفتاء على قبول شعبي، وحتى بعد التدهور الاقتصادي الأخير، فليس أمام الشعب التركي بديل آخر عن حزب العدالة والتنمية.
ـ وسائل الإعلام: بالاستناد إلى التقارير التي تشير إلى أن حزب العدالة والتنمية يمتلك 70% من مجموع وسائل الإعلام الفاعلة في تركيا، وبالاتكاء على دور وسائل الإعلام في صنع الدعاية السياسية لشخص أو هدف سياسي ما، وتغذيتها أحياناً بجزء من الحرب النفسية “الديماغوجيا” التي تتجلى باستثارة التخوفات المستقبلية للمواطن الذي يخشى من الغموض، نستطيع القول بأن رصيد حزب العدالة والتنمية من إمكانية تحقيق مناه عالي، وقد تركن وسائل الإعلام التركية، كما فعلت سابقاً، إلى توظيف حالة التدهور الأمني والاقتصادي لصالحها، من خلال تصويرها على أنها نتيجة عدم وجود آلية فاعلة في اتخاذ القرارات، والتأكيد على أن النظام الرئيسي هو الحل الأمثل لاتخاذ القرارات المناسبة لوقف حالة التدهور.
ختاماً، يبدو أن عوامل السيناريوهات المذكورة توحي بأن كفة الميزان ترجح لصالح نجاح سيناريو القبول الشعبي للتعديلات الدستورية التي ستجعل النظام في تركيا نظاماً رئيسياً.