ترجمة وتحرير نون بوست
لطالما سعى أعضاء مجلس التعاون الخليجي لإحداث تغيير جذري في صلب المجلس، إلا أن الانخفاض الحاد في أسعار النفط في بعض هذه البلدان، التي تعتمد على النفط بالأساس لتدعيم اقتصادها، وضعها على شفا مأزق اقتصادي.
خلال السنوات الثلاث الماضية، انخفضت عائدات المملكة العربية السعودية من النفط لأكثر من النصف؛ فقد انخفض في سنة 2016 وحدها، من حوالي 302 مليار دولار إلى ما يناهز 147 مليار دولار تقريبا. فضلا عن ذلك، فقد تراجعت الاحتياطيات الأجنبية بحوالي 200 مليار دولار منذ منتصف 2014.
خلال السنة المالية الحالية، ستعلن الكويت، التي تعد أكثر دول مجلس التعاون الخليجي استقرارا، من الناحية المالية، عجز ميزانيتها
وخلال السنة المالية الحالية، ستعلن الكويت، التي تعد أكثر دول مجلس التعاون الخليجي استقرارا، من الناحية المالية، عجز ميزانيتها، وهي تعتبر سابقة من نوعها في الكويت منذ عقد كامل. وفي الوقت نفسه، تواجه جميع الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، تناميا على مستوى الضغط الديمغرافي، في حين أمسكت الأجيال الجديدة بزمام الأمور في هذه البلدان.
وفي الواقع، تسعى دول مجلس التعاون الخليجي لإجراء مبادرات إصلاح هيكلي، لا مثيل لها، حتى تتمكن من التعامل مع الظروف التي طرأت حديثا، وتتجاوز هذه الفترة العصيبة، التي تتسم بانخفاض عائدات النفط، والتي من المرجح أن تتفاقم. وبالإضافة إلى ذلك، قررت دول مجلس التعاون الخليجي اتخاذ التدابير الازمة لمواجهة هذه الأزمة، على غرار خفض دعم الوقود، وخصخصة الشركات، وتنويع الاقتصاد.
وفي الحقيقة، تهدف هذه الإصلاحات، على المدى القريب، للتخفيف من حدة المشاكل الاقتصادية. أما على المدى البعيد، تعكس هذه الإصلاحات تصورا لعقد اجتماعي جديد، بين حكومات دول مجلس التعاون وشعوبها؛ للحفاظ على المكاسب الوطنية في هذه الدول.
عموما، ستغير جهود المملكة العربية السعودية في تأميم القوى العاملة، وتوظيف المزيد من النساء، الهياكل الاجتماعية والسياسية في المملكة، ولو ببطء. ورغم ذلك، فإن إحداث كل هذه التغييرات لن يكون بالأمر الهين أو السهل؛ إذ سيكون على قادة دول مجلس التعاون الخليجي أن يواجهوا العديد من العراقيل التي ستعترض طريقهم.
ومن ناحية أخرى، ستفاقم هذه الإصلاحات، الطائفية بين المجتمعات الشيعية والسنية في اللبلدان ذات الكثافة السكانية الشيعية العالية، مثل البحرين والكويت والمملكة العربية السعودية، وهو ما سيعطي إيران فرصة لكسب المزيد من النفوذ في المنطقة.
التحليل
في الواقع، إن الحملات الإصلاحية التي تدعو لها الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي، ليست الأولى من نوعها، على الرغم من اتساع نطاق حملات الإصلاح. وحتى الآن، لم يُظهر القادة الخليجيون استعجالهم في تحقيق تغيير اقتصادي فعلي.
عموما، عقب الانخفاض الذي شهدته أسعار النفط، في ثمانينات القرن الماضي، استنزفت السعودية احتياطاتها المالية، بغية تجنب تنفيذ الإصلاحات. وفي الوقت نفسه، قدر عجز ميزانيتها بأكثر من 10 بالمائة من الناتج المحلي الإجمالي، منذ ما يقارب عقدا من الزمن.
لم تُقدم المملكة العربية السعودية على تنفيذ بعض الخطوات الإصلاحية، إلا في أواخر تسعينات القرن الماضي، عندما تجاوزت نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي المائة بالمائة
في المقابل، لم تُقدم المملكة العربية السعودية على تنفيذ بعض الخطوات الإصلاحية، إلا في أواخر تسعينات القرن الماضي، عندما تجاوزت نسبة الدَّين إلى الناتج المحلي الإجمالي المائة بالمائة.
آنذاك، اقترحت المملكة إحداث تغييرات جذرية في اقتصادها. وفي سنة 1998، حذر الملك الراحل،عبد الله بن عبد العزيز -وكان في تلك الفترة وليا للعهد- مواطنيه من أن الوقت قد حان ليتكيفوا مع “نمط الحياة الذي لا يعتمد كليا على الدولة”، بيد أن أسعار النفط ارتفعت في عام 1999، مما جعلهم يلغون سياسة التقشف.
وعلى امتداد السنوات الخمس عشرة اللاحقة، تخلت الحكومة السعودية عن الوعود الإصلاحية التي تعهدت بها؛ بسبب المشاكل التي واجهتها، على غرار إدانتها محليا بسبب الحرب التي شنتها الولايات المتحدة الأمريكية على العراق، بالإضافة إلى الزحف المستمر للتطرف الديني داخل الدولة.
لم تعد خيارا بعد الآن
اليوم، لم تعد المملكة العربية السعودية، وبقية دول مجلس التعاون الخليجي، في وضع يسمح لهم بتأجيل الإصلاح الاقتصادي أكثر، خاصة وأن هناك احتمالات ضئيلة لحدوث انتعاش سريع في أسعار النفط. وبالتالي، يجب على دول الخليج أن تستعد لأن تطول فترة انخفاض عائدات النفط. ومن ناحية أخرى، لا بد أن تجد حكومات الدول الأعضاء في المجلس أيضا، وسيلة لاستيعاب الشباب، فعلى سبيل المثال حوالي 60 بالمائة من السعوديين، هم شباب دون سن الخامسة عشرة، مما يستدعي إجراءات عاجلة لتوفير فرص عمل لهم منذ الآن.
في غضون ذلك، أبدت مجموعات مختلفة في المجلس تأييدها لضرورة إحداث تغييرات وإصلاحات؛ على الصعيدين الاقتصادي والاجتماعي، إذ أن الإصلاحات لم تعد خيارا بالنسبة للدول الأعضاء، إنما أمرا محتوما عليهم. وفي الأثناء، من المفترض أن يتابع كل من ولي ولي العهد السعودي، الأمير، محمد بن سلمان، وولي العهد الإماراتي، الشيخ محمد بن زايد آل نهيان، التدابير والإجراءات التي وضعوها.
ومما لا شك فيه، أن إصلاح الهياكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية في دول الخليج، لن يكون بالأمر الهين، خاصة وأن التخفيض في الإنفاق الاجتماعي، الذي تضخم بعد انتفاضات الربيع العربي؛ بسبب محاولات الحكومات قمع المحتجين، سيُقابل بالرفض والمقاومة، كما حدث في الماضي. علاوة على ذلك، فإن حالة عدم اليقين التي اكتسحت مناطق الخليج العربي، ستعطي لإيران الفرصة لبذل مجهود إضافي؛ بغية تعزيز نفوذها في منطقة الخليج.
إيران ودول مجلس التعاون الخليجي: تاريخ متأصل ومتنوع
على الرغم من التنافس الأيديولوجي القائم بين بعض أعضاء التكتل، كانت إيران شريكا تجاريا لدول مجلس التعاون الخليجي، حتى قبل أن يؤسس الاتحاد.
وفي الواقع، ضمت المقترحات الأولى للكتلة إيران كعضو، إذ أن الشاه الإيراني حافظ على علاقة ودية نسبيا مع دول الخليج، من خلال التركيز على المجالات التي يشتركون فيها، مثل انتشار البعثية والاشتراكية والشيوعية في المنطقة، واستمر ذلك حتى اندلاع ثورة 1979 التي أطاحت به.
وبالإضافة إلى ذلك، كانت العلاقة بين الشيعة والسنة في دول الخليج مسالمة، على الرغم من بعض الخلافات التي نشبت فيما بينهم. فلم يكن قادة دول الخليج ينظرون للمجتمعات الشيعية، أو الانقسامات الطائفية داخل بلدانهم، على أنها خطر يهدد استقرارهم الوطني. وخير دليل على ذلك، انتداب العديد من الشيعة، من قِبل شركة النفط العربية الأمريكية، التي تحولت فيما بعد إلى شركة النفط العربية السعودية “أرامكو السعودية”، قبل أن يتم تأميمها في سنة 1980.
علاوة على ذلك، ساهم التفهم الضمني في محافظات المملكة العربية السعودية الشرقية، التي يقطنها الكثير من الشيعة، في تمكين الشيعة من ممارسة شعائرهم الدينية، شريطة أن تمارس في الخفاء.
في الكويت، فقد وجدت عائلة “الصُّباح” الحاكمة، أن المجتمع الشيعي في البلاد، يعد حليفا فعالا ومفيدا، لذلك عملت على توطيد علاقاتها مع التجار الشيعة؛ لمجابهة مطالب نظرائها السنة.
من ناحية أخرى، دمرت الثورة الإيرانية، في سنة 1979، الانسجام النسبي في منطقة الخليج. ففي حين كانت الانتفاضة العربية تسير بخطى ثابتة للأمام، ازدهرت الجماعات الشيعية الناشطة في المنطقة، التي تربطها علاقة بالحركات إيرانية للبعثات الطليعة، وخرجوا للشوارع؛ للتظاهر والاحتجاج، مطالبين بمزيد من الحريات الدينية والاقتصادية.
وفي تلك السنة، نظمت جماعات شيعية، في المنطقة الشرقية، احتجاجات ضخمة، بعد أن استولى المتطرفون السنة على المسجد الحرام في مكة المكرمة. ووسط هذه الاضطرابات، أظهرت الحكومة السعودية انسجاما وفي نفس الوقت ارتيابا من حركات المعارضة الداخلية.
وفي الأثناء، أنشأت الجمهورية الإسلامية الإيرانية مكتب “حركات التحرير الإسلامية”، وهي هيئة حكومية، مكلفة بتصدير الثورة إلى الخارج. وساهمت الجهود التي بذلتها هذه الهيئة في بروز العديد من الجماعات المتشددة في الخليج، مثل “منظمة الثورة الإسلامية” في الجزيرة العربية، و”الجبهة الإسلامية لتحرير البحرين”، والتي قامت في سنة 1981، بمحاولة انقلابية ضد عائلة “آل خليفة”، المالكة في البحرين.
إخماد الثورة
في الواقع، دفع الحذر من التهديد الذي فرضه توسع النفوذ الإيراني، داخل الحدود الخليجية، دول الخليج للتكاتف وتأسيس مجلس التعاون الخليجي في سنة 1981.
وفي ذلك الوقت، انخفض دعم إيران للجماعات الشيعية في الخليج؛ إذ تركت الانقسامات الطائفية السياسيين ورجال الدين، الذين دعموا هذه الجماعات، مثل، محمد الشيرازي وحسين علي منتظري، مهمشين (وفي بعض الحالات، تم إعدامهم أو سجنهم)، وهو ما اضطر الحكومة الإيرانية لإغلاق مكتب الحركات الثورية.
وبحلول أواخر ثمانينات القرن الماضي، فترت العلاقات بين إيران والجماعات الشيعية في الخليج. وفي المقابل، ما زالت طهران تعمل على دعم المتمردين الشيعة الجدد، في دول مجلس التعاون الخليجي، وأبرزهم “حزب الله/الحجاز”، ويحمل الكثيرون هذه المجموعة مسؤولية الهجوم الذي شن سنة 1996، على أحد المجمعات السكنية في “الخُبَر”، بالمملكة العربية السعودية.
السنة التي تلت الثورة الإيرانية، اتخذت حكومات الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي موقفا أكثر صرامة، ضد التشدد الشيعي. (وإثر الاحتجاجات الشعبية في البحرين في سنة 2011، التي كشفت عن قوة الحركات المسلحة الشيعية في البلاد، أصبحت الدول الخليجية أكثر يقظة)
وفي السنة التي تلت الثورة الإيرانية، اتخذت حكومات الدول الأعضاء في مجلس التعاون الخليجي موقفا أكثر صرامة، ضد التشدد الشيعي. (وإثر الاحتجاجات الشعبية في البحرين في سنة 2011، التي كشفت عن قوة الحركات المسلحة الشيعية في البلاد، أصبحت الدول الخليجية أكثر يقظة). وفي الأثناء، وسعت دول الخليج من عملياتها الأمنية، وشنت حملات شرسة على الجماعات المتمردة، وسارعت للعمل على حلها. فضلا عن ذلك، قامت هذه الدول بتفكيك العديد من المنظمات الشيعية المسلحة. وفي أعقاب ذلك، أدركت العديد من الجماعات الشيعية المسلحة أن تحدي النظام بإحداث العنف والشغب، كان إستراتيجية خاسرة، ولم يجلب للشيعة الذين يقطنون في دول الخليج، إلا المتاعب وتضييق الخناق عليهم، وحرمانهم من حقوقهم.
اليوم، وبما أن دول الخليج بصدد إحداث إصلاحات، فإن إيران قد تنتهز الفرصة لتعيد توثيق صلتها بالشيعة هناك، خاصة وأن المجتمعات الشيعية في إيران لا تزال تتشاطر نفس الأيديولوجيا مع الشيعة في دول الخليج.
عموما، ظهور جيل جديد من القادة الشيعيين في مجلس التعاون الخليجي، يمكن أن يعمق أواصر هذه الصلة؛ فطهران لن تواجه الكثير من العقبات في محاولتها لتعزيز نفوذها في منطقة الخليج العربي، وذلك يوعز لسبب واحد؛ ألا وهو إيمان العديد من الشيعة في المنطقة بعقيدة رجل الدين العراقي، آية الله علي السيستاني، عوضا عن تعاليم آية الله الخميني، الذي أشرف على تحويل إيران لجمهورية إسلامية.
ومن ناحية أخرى، لا يمكن أن نتغاضى عن حقيقة أن الشيعة في البحرين والسعودية والكويت، يفتخرون بمقاومتهم للحكومات في هذه الدول، من دون تدخل أو دعم إيران لهم.
ولكن، رغم كل ذلك، قد تكون الظروف مهيأة لإيران، لتعيد تأسيس نفوذها في الخليج.
المصدر: ستراتفور