بدأ تفكيري فى ذلك الموضوع عند سماعي لتسجيل صوتي لآلات موسيقية معزوفة بشكل مفرد (صولو) لأغنية اعتدت على سماعها كثيرا و لكنني لم ألحظ أبدا وجود تلك الآلات فى الخلفية، وفكرت فى الآتي، كل مقطوعة موسيقية لها الة مهيمنة تنجذب اليها الأذن عند الاستماع الى تلك المقطوعة، ولا تلحظ فى الغالب الالات المساعدة لها فى الخلفية، ولكن اذا تم عزف تلك الالة وحيدة دون بقية الالات فسوف تفقد تلك المقطوعة أصالتها، وكذلك الحال فى العمارة.
“عندما أرى العمارة التي تحركني، أسمع صوت الموسيقى فى أذني” فرانك لويد رايت
الأشكال التجريدية للفن مبنية على الرتم، النسبة والتجانس، فنرى أن العمارة والموسيقى تشاركان نفس تلك الخصائص الفنية، فكما قال معماري عصر النهضة ليون باتستا أن تلك الخصائص التي تعجب العين، تعجب أيضًا الأذن، ففي الموسيقى مفهوم الرتم هو نسيج صوتي متكرر يعزف فى المقطوعة، أما فى العمارة فتكرار فى العناصر، الفتحات، الأشكال يكون لنا الرتم بشكل واضح. التركيب الموسيقي أيضًا يبين لنا طبقات الصوت والايقاعات المنشأة بواسطة العديد من الالات، وفى العمارة يظهر التركيب أو “الملمس” فى مختلف الخامات، والتناغم هو توازن فى الصوت أو التوزيع أو توازن الأجزاء سويًا، والنسبة هي العلاقة ما بين الأجزاء، فى الموسيقى هي المسافة بين النوتات أو الفترات، و الديناميكية هي الخاصية الحركية فى الموسيقى أو الظاهرة على وجهة مبنى أو كتلة.
تبرز قيمة الصوت عند وجود الصمت، وتبرز قيمة المكان عند وجود الفراغ، لا يمكن أن نتخيل أنفسنا نعيش وسط أكوام و كتلات ضخمة من المباني دون أن نجد متنفسًا نستطيع التريض فيه أو قضاء الوقت في الهواء الطلق لما في ذلك من بعث للراحة النفسية، كذلك في الموسيقى، أحيانًا تلك الثواني الصامتة التي توجد بين الفقرات الموسيقية المختلفة يكون لها تأثير ومتعة أفضل مما لو تم مواصلة العزف فيها.
“الموسيقى هي عمارة سائلة، والعمارة هي موسيقى متجمدة” جوتة
إن العلاقة بين الأذن والفراغ عميقة أكثر مما نظنها، فكما يقول ستيفن هول أن أي منا خبر سماع صوت قطرات المياه فى ظلام دامس لأطلال مهجورة يستطيع أن ينبهر بقدرة و كفاءة الأذن فوق الخارقة لنحت صوت في فراغ الظلام. هذه المساحة المرسومة بواسطة الأذن تتحول إلى تجويف منحوت داخل عقلنا، ليس الخفاش فقط من يستطيع أن يرى فى الظلام اذا!
“فى المعابد المصرية، تستطيع أن تتخيل صمت الفراعنة، و فى صمت الكاتدرائيات القوطية يأتي إلى أذنك صوت ترنيمة قوطية انتهت، وعلى جدران البانيثون تستطيع أن تسمع صدى صوت خطوات قدم رومانية، الصمت فى العمارة حساس، تذكر الصمت هو خبرة معمارية قوية تجعلك تُسكت كل الضوضاء الخارجية، فهي تركز انتباهنا على وجودنا، و كالحال فى كل الفنون، فإنه يجعلنا على وعي بوحدتنا الأساسية” جوهاني بالاسما.
العمارة ليست ظاهرة مزامنة تظهر كومضة في وقت واحد، بل خبرة تُعاش، تتكشف تدريجيًا، كفتاة حيية لا تكشف لك كل أسرارها مرة واحدة، هي تتكون من سلسلة من اللوح الفنية المتشاركة فى الزمان والفراغ، مثل الموسيقى التي هي وسيلة للعرض فى الزمن، فمتعة العمارة- كمتعة الموسيقى- أحيانًا فى مفاجئتها، أن تنتزع منك الـ”اه”، تدخل بناءًا قد يُبهرك من الخارج ولكن تزداد به انبهارًا عندما تتجول بداخله، شخصيًا تعجبني كثيرًا الأغاني التي عندما أسمعها لأول مرة لا أستطيع توقع لحن الجزء القادم منها، تلك الموسيقى والعمارة هي – بعد الصمت – تكون الأقرب لوصف كل ما هو غير موصوف.