إذا ما عرضنا شريطًا بانوراميًا للأحداث التي مرت علينا كسوريين بفترةٍ شارفت على سبعٍ عجاف من قهر وظلم وانكسار بميزان عدلٍ غير متكافئ اجتمعت إحدى كفتاه بقوى الشر والأخرى قلَّ فيها فاعلو الخير، لرأينا بالمدى البعيد أننا نعيش اليوم ضمن ثنائية صراع الخير والشر تمامًا كما الحياة القائمة على القوانين الناظمة للوجود ضمن نظرية الثنائيات بدليل قوله تعالي {وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ}.
ولو تعمقنا أكثر بجوهر الصراع القائم على تقاطع المصالح بين دول إقليمية من جهة واستغلال لمشاعر الشعوب المضطهدة من جهة أخرى لعلمنا أن حجم التضحيات الهادفة لتحقيق عيش تُشكل في حد ذاتها قدرُ خاص ضمن مفهوم القدر الكلي، إذ لا مجال لمن أدرك البعد المجرد لمفهوم الصراع أن يسمح لليأس أن يسكنَ قلبه الذي هو منبع الإرادة الخالصة المحرّضة على تقديم المزيد من التضحيات لهدفٍ سامٍ يستحق الوصول له أو الموت لأجله.
إن حجم المأساة التي أحاطت بنا كسوريين هي ذاتها تستحق منا أن نتخطاها ولا نقف بمنتصف الطريق وإذا ما أردنا أن نصل إلى بر الأمان علينا العبور على جسور معلقة بحبال من الخوف، فمن يصل للنهاية تصل معه معاناته إلى ذروتها النهائية لتشرق شمس الحرية على الحاضرين الشاهدين على حجم تضحياتهم وعلى من سيأتي لاحقًا من أجيال قد تترعرع على ماضٍ مشرفٍ ينير لها خارطة الطريق.
غير ممكن الوقوف بمنتصف الطريق أو القبول بالخروج بأقل الخسائر لأننا سئمنا الموت فهي الغاية التي أراد أعداؤنا أن نصل إليها
فاليوم وقد بلغ منا الحزن والأسى ما بلغت القلوب الحناجر واستحكم الأعداء بنا من كل جانب، من قتل وتدمير وتهجير واقتلاع للأنسنة باتباع إدارة التحوش المتعطشة لافتراس الإنسانية والرجوع لقانون الغاب، فآن لنا إذًا أن نقف وقفةً ضمير أمام ذواتنا ونراجع الأخطاء التي تجاهلنا لسنيين مضت فمن غير الممكن الوقوف بمنتصف الطريق أو القبول بالخروج بأقل الخسائر لأننا سئمنا الموت، فهي الغاية التي أراد أعداؤنا أن نصل إليها، ليس قدرنا أن نستسلم لليأس فخيارنا نحن بين أيدينا أن نتوج أفعالنا بقدر يليق بنا، فنحن قدمنا الكثير ولم يبق إلا القليل، فبعد كل عسر يسر إلا لمن غرته نفسه أو ضلّ الطريق، فما خرجنا بثورتنا لكي نقف ووقوفنا بالمنتصف نكون قد حكمنا على أنفسنا بموت بطئ.
علينا أن ننظر إلى الجانب الإيجابي من ثورتنا فهو المحفز على المُضي قدمًا لرسم قدر يُشرف كل الأجيال اللاحقة، الثورة السورية من أعظم الثورات على مر التاريخ فمن نتائجها أنها عرت العالم وأظهرته على صورته المجردة فأسقطت أبنائها مجلس الأمن من أي معاير يتحلى بها هذا المجلس القائم على أنقاض الحرب العالمية الثانية الذي استمر بأكذوبة أنه راعي للسلام إلى أن أثبتت الثورة السورية عكس ذلك فهو راعي للقتل وليس للسلام.
وكم من دولٍ سقطت أخلاقيًا كتلك التي تدعي أنها محافظة لحقوق الإنسان وكم من أخرى انهارت اقتصاديًا وهي لا تدري ما يُحاك لها واكتفت بقذف النار إلى خارج دارها خوفًا من نار تأكلها في عقر دارها، هي ذاتها لا تأمن للقدر وتحاول أن تصنع قدرها بنفسها إلا أن القدر المبني على باطل لا يدوم ولا بد من أن يفاجئ صاحبه.
أما نحن السوريين واثقون من قدرنا المبني على حق، فلا حق أقوى من حق العيش ولا عيش كريم إلا مع الحرية والحرية بحاجة إلى صانعيها من أبناء جلدتها ولا أحق من السوريين اليوم من تقرير مصيرهم، أما كل ما يتدبر لنا من تقرير مصير دون مشاركتنا فهو حتمًا لن يدوم، ورأينا فصول جنيف وفيينا تحولت إلى قاعات فارغة لأنها خلت من الخير المفقود للشعوب واستفردت فيها لغة الباطل الهادفة إلى قتل الشعوب.
هذا هو الجو العام المكنون لنا أما عن الحالة الداخلة التي وصلنا لها بسبب ضِعاف النفوس فهي لا تمنع البقية من الشرفاء من الاستمرار والسعي الدؤوب لبث الروح من جديد وانبعاثٍ آخر يفرضُ إرادته على الشارع ويُعيد الكرة من جديد، فحالنا اليوم لا يهتم به أحد أكثر من أنفسنا نحن أبناء القضية ونحن من بدأها ونحن من سينهيها بقدر خيرٍ لأبنائنا.
بعد ست سنوات من التضحيات علينا أن ندرك حجم المخاض، فلم يعد يُخفى على أحد ما حل بنا خصوصًا بعد عسكرة ومذهبية الثورة وتغلغل الأجندة بيننا، فأتضح جِليًَّا لنا فشل معارضتنا السياسية لافتقارها القدرة على استلام قيادة الثورة السياسية وغياب للبرامج المناسبة للواقع الحالي
بعد ست سنوات من التضحيات علينا أن ندرك حجم المخاض فلم يعد يُخفى على أحد ما حل بنا خصوصًا بعد عسكرة ومذهبية الثورة وتغلغل الأجندة بيننا، فأتضح جليًَّا لنا فشل معارضتنا السياسية لافتقارها القدرة على استلام قيادة الثورة السياسية وغياب للبرامج المناسبة للواقع الحالي، وانعدام التطوير بالخطاب الشعبي المستقطب للحاضنة الأكبر من المكونات السورية فبدلًا من إعادة هيكلتها ومراجعة حقيقية لمسيرتها السياسية نراها اليوم متخبطة في البحث عن مخلصٍ لسيل الدماء.
فنحن اليوم بأمس الحاجة لتغير جذري من أسلوبها الثابت ومراعاة لحجم المسؤولية التي كلفت نفسها بها وما أحوجنا اليوم لها لتتصل بجسر دائم مع متصدري المشهد العسكري لتقنعهم بضرورة المراجعة لمشاريعهم والتخلي عن كل المخططات لإسقاط كل الرايات التي سببت بتعددها إزهاق الآلاف من الأرواح البشرية، فرأينا السقوط الدراماتيكي والنكسات العديدة التي مررنا بها على الجغرافية السورية بسبب الارتباط المباشر بسياسية الداعمين العاملين لمشاريعهم على حساب دمائنا، فالصراع والاقتتال الداخلي لا يليق بأخوةٍ السلاح.
وإن فُرض السلاح علينا فيجب أن لا ننسى أنه مخصص للدفاع عن النفس، فعلينا ألا نحيد فوهة البندقية لغير الهدف المخصص لها، وإن الأسئلة المطروحة عن رهن القرار بالخارج هو بسبب تعطش البعض بالاندفاع وتصديقه الخدعة الكبرى أننا معكم فإن أقوى دولة في العالم (الولايات المتحدة) نزعت السلاح الكيماوي من الديكتاتور وتركته يعيث فسادًا وساندته على قتل وتهجير أبناء جلدته، حتى إنها منعت عن بعض الفصائل السلاح لتدافع عن أروحها لينتهي بها المصير بعد الحصار والتجويع إلى التهجير، والخاسر الأكبر الشعب السوري الراهن مصيره بالغير مع عدم التحرك أو التدبير.
إن صراع الفصائل قد زاد بالتفرقة وعزز فينا قناعة اليأس وغاب عنا أن المسبب الأول لهذا الاقتتال إرادات خارجية هدفها زيادة التفرقة وتمزيق النسيج، فلماذا لا نثور على أنفسنا بثورة فكرية تفضي إلى فرض القرار الجمعي على كل دخيل وغريب.
نحن أبناء الثورة لا أحد يعرفنا أكثر من معرفتنا لأنفسنا، فما المانع الذي يمنعنا من أن نعمل سويةً ونوحد المسير، فقد عرفنا اليوم كل غريب من الصغير إلى الكبير، فإذا ما بدأنا بأنفسنا وعدنا من جديد عندها نستطيع توسيع الدائرة فلا غالب لنا إن أعددنا العدة على نهج واقعي جديد على الأقل يخلص ثورتنا من تبعية العسكر ومذهبية المشاريع.
فلا مشروع لنا إلا أن نحيا سويةً ونرمَّم أخطاء السنيين، فهذه الثورة لن تقف أبدًا بنا أو بغيرنا، ستسير بأبناء تُطهر الأرض من الغازين وتطرد كل محتلٍ غاشم اغتصب أرضنا بغير حق أو دين.
إن تطهير ثورتنا من براثين قد أنهكتنا ستكون بدايةً لصناعة أقدارنا المنسجمة مع مفهوم الإنسانية فهم بقدرهم الخاطئ يقتلون إنسانيتنا ونحن بقدرنا نُحي إنسانيتنا ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعًا