واحدة من أبشع المجازر في حق الإنسانية، حين أقدمت سلطات الاحتلال الفرنسي تحت قيادة الدوق دو روفيغو على قتل أكثر من 4 آلاف مصلٍ اعتصموا داخل مسجد كتشاوة في الجزائر دفاعًا عن قدسية المكان، وذلك في 18 ديسمبر/كانون الأول 1832.
تفنن الفرنسيون آنذاك في قتل آلاف الجزائريين داخل المسجد ومحيطه، ومزقوا القرآن الكريم وأحرقوه على الملأ، في مشهد يُحاكي ما حصل في بغداد، عندما أحرق هولاكو مكتبة بغداد إثر احتلالها في القرن الثالث عشر الميلادي، في مسعى منهم لضرب كل ما يمت بصلة للشريعة الإسلامية، والقضاء على مقومات الجزائر.
أما في تشاد، ففي يوم 15 نوفمبر/تشرين الثاني 1917، جمع المستعمر الفرنسي ما يقارب 400 عالم دين وزعيم محلي في مدينة “أبشة” بإقليم “واداي”، وقضى عليهم ذبحًا بدم بارد مرة واحدة، ودفن هؤلاء العلماء في مقبرة جماعية بمنطقة “أم كامل” وهو وادي داخل أبشة والمقبرة موجودة حتى الآن.
كان اللقاء معدًا ظاهريًا للحديث عن إدارة البلاد تحت الحكم الفرنسي وكيفية تصريف شؤونها، إلا أن المستعمر الفرنسي كان يبطن الشر، إذ أراد من خلال هذه المجزرة – التي بقيت راسخة في الذاكرة الجماعية تحت اسم مجزرة كبكب – امتلاك المعرفة والسلطة الروحية في المنطقة وترسيخ سلطته بشكل أفضل، فالنخبة الفكرية والدينية كانت ستكون حجر عثرة أمام مساعيهم لإدخال البعثات المسيحية وفرض نظام الوصاية على سكان البلاد.
هذه لمحة بسيطة عن مجازر سلطات فرنسا الاستعمارية بحق الشعوب الإفريقية التي احتلتها طيلة أكثر من قرن، لكن هذه المجازر لم تكن حكرًا على الفرنسيين فقط، إذ نافستها باقي الإمبراطوريات الاستعمارية في ذلك.
لم تكن المنافسة بين المستعمرين الأوروبيين على مسالك التجارة فقط، وإنما على بشاعة التنكيل بشعوب القارة الإفريقية أيضًا، ولنا في المستعمر الألماني مثال على ذلك، فما من أرض دخلها – وعلى قلّتها – إلا وارتكب فيها مجازر كبرى بقيت خالدة في أذهان الأفارقة إلى الآن.
فرضت ألمانيا نظامًا عنيفًا في مستعمراتها الجديدة من أجل السيطرة على السكان، بما في ذلك سياسة قتل الملوك الذين قاوموا الاحتلال، وأنشأت أنظمة وحشية في كثير من الأحيان لفرض حكمها، دون أن تراعي الأهالي وحقوقهم.
ضرائب واستعباد
عززت ألمانيا قبضتها على العديد من المستعمرات الإفريقية، في ثمانينيات القرن التاسع عشر، من ذلك “شرق إفريقيا الألمانية” (تنزانيا ورواندا وبوروندي وجزء من موزمبيق)، فضلًا عن جنوب غرب إفريقيا الألمانية (ناميبيا الحالية)، والكاميرون وتوغولاند (المقسمة اليوم بين غانا وتوغو).
كانت الحملات العسكرية الألمانية مكلفة في حين أن الدخل المأمول من المستعمرات كان أقل بكثير من التوقعات، ولتغيير ذلك، فرضت السلطات الاستعمارية في شرق إفريقيا الألمانية “ضريبة الكوخ” عام 1898 ثم ضريبة الرأس، كمصدر دائم للدخل.
في حال لم يتمكن الفرد من دفع مبلغ الضريبة، فقد كانت تستغله من خلال العمل القسري في حقول الزراعة التي انتشرت في أماكن واسعة من المنطقة، خاصة في مزارع القطن، من أجل تلبية الحاجة الهائلة للعمال في هذه المزارع الحكومية المخصصة للتصدير، في حين كانت حقول الأهالي بورًا.
قدرت الحكومة الاستعمارية عدد ضحايا عملياتها الإجرامية بـ75 ألف شخص، فيما قدرتها مصادر أخرى بنحو 300 ألف
سخرت ألمانيا عدد كبير من الأهالي في تنزانيا لبناء الطرق والسكك الحديدية وإنجاز مختلف المهام الأخرى، لتلبية حاجيات المستعمر الألماني والمستوطنين في تلك المنطقة، وحتى يحصلوا على العائدات المالية التي من شأنها جاؤوا إلى تلك البقاع.
كان لهذه السياسات الألمانية الاستعمارية آثار خطيرة على حياة السكان الأصليين، إذ بدأ النسيج الاجتماعي للمجتمع يتغير بسرعة، إذ سرعان ما تغيرت الأدوار الاجتماعية للرجال والنساء لمجاراة احتياجات المجتمعات، فقد أُجبر الرجال على ترك منازلهم للعمل في الحقول، ما اضطر النساء لتولي بعض مهامهم لتسديد حاجيات العائلة، لكنهن لم يقدرن على ذلك، ما أثقل كاهلهن وتسبب في ضرر كبير للعائلات، خاصة الأطفال، وهو ما زاد من نقمة الأهالي ضد المستعمر الألماني.
لم يتلق الأهالي أي تعويض عن عملهم في الحقول والطرقات، وإنما تعرضوا للتعذيب بالجلد، ما دفعهم للاعتقاد بأنه سيكون من الأفضل لهم الموت بدلًا من المعاناة في ظل الظروف القاسية التي كانوا يعيشون فيها في أثناء زراعة وحصاد القطن للألمان.
دفعت هذه الأوضاع، الأهالي إلى القيام بالعديد من الانتفاضات، فقد سجلت الفترة بين 1891 و1905 عدة انتفاضات إقليمية في شرق إفريقيا ضد المستعمر الألماني، ووقعت معارك كثيرة بين السكان المحليين وما يسمى “قوة الحماية” في شرق إفريقيا الألمانية.
انتفاضة ماجي ماجي
من أشهر أعمال المقاومة انتفاضة ماجي ماجي التي حدثت في تنزانيا الحديثة (1905-1907)، خلال هذه الانتفاضة، اجتمعت أكثر من 20 مجموعة عرقية إفريقية مختلفة ضد الألمان في محاولة للتخلص من المستعمر واستعادة السيطرة على أراضيهم.
كانت الهجمات الأولى في يوليو/تموز 1905 موجهة ضد جميع ممثلي النظام الاستعماري، خاصة حقول القطن، وبدأها أفراد من شعب ماتومبي، إذ توجهوا حاملين الرماح والسهام إلى سامانغا ودمروا محصول القطن ومركزًا تجاريًا هناك.
نتيجة ذلك، انضمت أعداد كبيرة من السكان من جنوب المستعمرة إلى المقاومة، بغض النظر عن الاختلافات اللغوية والدينية والثقافية والسياسية، وكان هذا الأمر أول مثال مهم للتعاون بين الأعراق في المعركة ضد السيطرة الاستعمارية.
تقول بعض المراجع إن السكان الأصليين لجأوا إلى السحر لطرد المستعمرين الألمان، إذ ادعى أحد السكان يُسمي نفسه بوكيرو (اسمه كينجيكايتل نغوالي) أن لديه شرابًا مقدسًا يفترض أن يصدّ الرصاص الألماني ويحوله إلى ماء، وكان في الواقع عبارة عن ماء (ماجي بلغة السواحلية) مخلوط بزيت الخروع وبذور الدخن.
بدأ أتباع بوكيرو، الذين ازداد عددهم بهذا السائل الجديد، انتفاضة ضدّ المستعمر، أصبحت تُعرف لاحقًا باسم انتفاضة ماجي ماجي، وفي البداية، هاجموا مواقع استيطانية صغيرة وألحقوا أضرارًا بمصانع القطن، وسرعان ما تم القبض على بوكيرو وشنقه بتهمة الخيانة.
شنق “بوكيرو” زاد من قوة الانتفاضة، وتمت مهاجمة الحاميات الألمانية في جميع أنحاء المستعمرة، وتدمير بعضها، ما دفع الكونت غوستاف أدولف فون غوتزن، حاكم شرق إفريقيا الألمانية، لطلب تعزيزات من الجيش.
فعلى عكس توقعاته، لم يكن من السهل قمع الانتفاضة، إذ اعتقد غوستاف أدولف فون غوتزن في البداية أنه كان يتعامل فقط مع الاضطرابات المحلية، التي يمكن قمعها بسرعة بموارد الإدارة الاستعمارية الخاصة.
لكن بعد بضعة أسابيع فقط كان عليه أن يعترف بأن انتفاضة ماجي ماجي اتخذت طابع “النضال الوطني ضد الحكم الأجنبي”، كما كتب في مذكراته عن الفترة التي قضاها في شرق إفريقيا الألمانية، التي نُشرت عام 1909.
كان على الإدارة الاستعمارية – التي كان عدد أفرادها 2300 جندي وضابط شرطة محليين فقط تحت قيادة 200 ضابط وضابط صف ألماني – أن تطلب الدعم العسكري والمالي من الحكومة المركزية في برلين وباقي المستعمرات.
أمر القيصر فيلهلم على الفور بإرسال سفينتين مع ملحقاتهما البحرية إلى المستعمرة المضطربة، كما وصلت تعزيزات من أماكن بعيدة مثل غينيا الجديدة، وعندما وصل 1000 جندي نظامي من ألمانيا في أكتوبر/تشرين الأول 1905، شعر غوتزن أنه يستطيع الهجوم واستعادة النظام في الجنوب.
قمع الثورة
عوضًا عن انتهاج سياسة دبلوماسية والتعامل مع الأهالي الغاضبين بسلمية، فضل الألمان اعتماد سياسة القوة وبطريقة غير محدودة للقضاء على ثورة أهالي الشرق الإفريقي، وما إن وصلت التعزيزات إلى المنطقة، حتى بدأ الهجوم، وقمعت قوات الإمبراطورية الألمانية ثورة ماجي ماجي، وأبادت الثوار واستخدمت القوة النارية بشكل إجرامي لتفريق هجمات سكان البلاد الأصليين.
ودمرت القرى والمحاصيل وصادرت المواد الغذائية الأخرى التي يستخدمها المنتفضون، فقد كان الألمان ومساعدوهم الأفارقة يمتلكون بنادق، بينما كان السكان المحليون يمتلكون على الأكثر رماحًا ومعازق محلية الصنع.
قُتل العديد من السكان الأصليين الذين وقعوا في أيدي القوات الاستعمارية فيما حُكم على عدد كبير منهم بسنوات من الأشغال الشاقة والعمل القسري لدى المصالح الألمانية، وذلك في مسعى للاستفادة منهم وتخويف باقي السكان.
لم تنجح انتفاضة ماجي ماجي في نهاية المطاف، إلا أنها كانت محاولة شجاعة للتحرير
خلال سنة 1906، استعاد الألمان السيطرة الكاملة تقريبًا على المستعمرة بعد إبادة معظم الأهالي الغاضبين على سياسات الاستعمار، وتم الإعلان عن نهاية الحرب رسميًا في 18 فبراير/شباط 1907، وانتهى القتال الأخير في سنة 1908.
قدرت الحكومة الاستعمارية عدد ضحايا عملياته الإجرامية بـ75 ألف شخص، فيما تفترض تقديرات اليوم أن نحو ثلث السكان – ما يقارب 250 ألف إلى 300 ألف شخص – قتلوا نتيجة هذه الحرب وعواقبها المباشرة، غالبيتهم بسبب المجاعة.
سياسة الأرض المحروقة
تسببت القوات الألمانية عمدًا في حدوث مجاعة كبيرة كجزء من قمع انتفاضة السكان الأصليين، فقد اختار غوستاف أدولف فون غوتزن اتباع سياسة تجويع الأهالي للقضاء على انتفاضتهم وبثّ الرعب في باقي سكان المستعمرات الألمانية المنتشرة في أماكن كثيرة من القارة الإفريقية.
في سنة 1905، كتب أحد قادة القوات الألمانية في المستعمرة، الكابتن وانجنهايم، إلى فون غوتزن، قائلًا: “فقط الجوع والعوز يمكن أن يؤدي إلى الاستسلام النهائي، وستظل الأعمال العسكرية وحدها مجرد قطرة في محيط”.
نتجت المجاعة إلى حد كبير عن سياسة الأرض المحروقة التي دعا إليها غوستاف أدولف فون غوتزن، إذ قام الجنود الألمان المدججين بالسلاح، بالقضاء عمدًا على مصادر الغذاء للأهالي الثائرين، وذلك لإضعافهم والحد من تحركاتهم.
وقع شعب تنجانيقا ضحية للأسلحة الحديثة والأعداد الهائلة للقوات الألمانية، وسياسة الأرض المحروقة التي تم اعتمادها في ذلك الوقت، ما أدى إلى إبادة شعوب بأكملها، فبعد عمليات الإبادة هذه وُصف جنوب أوساجارا بأنه غير مأهول بالسكان على الإطلاق، وفقدت أوفيدوندا نصف إجمالي سكانها.
لم يقض الألمان على انتفاضة ماجي ماجي فحسب، بل أدت أعمالهم الوحشية إلى استمرار العنصرية الإمبريالية في السنوات التي تلت الانتفاضة، واستمرت الفظائع التي ارتكبها الألمان حتى القرن العشرين، مع هزيمتهم في الحرب العالمية الأولى.
كما أدت ممارسات الإمبراطورية الاستعمارية الشنيعة والوحشية التي قام بها الألمان لاستغلال موارد شرق إفريقيا الألمانية إلى تطوير الأيديولوجيات العنصرية التي بررت ذبح الرايخ الألماني لمئات الآلاف من الأفارقة في باقي المستعمرات، إلى جانب استغلال الناجين من عمليات الإبادة لخدمة المستوطنين الألمان.
استغلّ الألمان عدم وجود عوامل خارجية في ذلك الوقت لوقف الفظائع الاستعمارية ضدّ سكان البلاد الأصليين، إذ كان يُعتقد على نطاق واسع أن القانون الدولي غير قابل للتطبيق على مجموعة من الأشخاص يعتقد العالم الغربي أنهم “قابلون للاستعباد”، وهو ما أدّى إلى ارتفاع أعداد الضحايا.
الأكثر مأساوية أن الناجين رأوا أراضيهم القديمة تغطيها الغابات والحياة البرية، ودخلت الأفيال لأول مرة المنطقة وجلبت هذه الحيوانات البرية معها المرض، وساهمت، إلى جانب المجاعة، في حدوث وفيات كثيرة، فلم يخسر شعب تنجانيقا معركتهم لاستعادة الاستقلال فحسب، بل خسروا معركتهم الطويلة مع الطبيعة أيضًا.
لم تنجح انتفاضة ماجي ماجي في نهاية المطاف، إلا أنها كانت محاولة شجاعة نحو التحرير، وأصبحت فيما بعد مصدر إلهام للمقاتلين من أجل الحرية في القرن العشرين الذين دعوا إلى وحدة مماثلة بين الأعراق في أثناء نضالهم ضد الحكم الاستعماري الأوروبي.