لا يكاد إسلاميٌّ معاصرٌ، إصلاحيٌّ كان أو جهاديٌّ، إلا ويدعو في حماسٍ، نافرًا عروقه، إلى (الخلافة) و(العالمية) الإسلاميتين، مُجترًّا من حقيبته التاريخيّة نماذج السيادة والقوّة والعدل التي سادت العالم في عصر الإسلام الذهبي، غاضًّا طرفه عن حقب مديدة من الانحطاط والضعف والوهن في التّاريخ الإسلامي، نازعًا عنه إنسانية تجربته، آخذًا بقشور تجربته السياسيّة دون تجربته المعرفيّة التي بُنيت عليه عالميته وحضارته تلك، ليأتي بعد ذلك ساخطًا، ويصبّ جام غضبه على واقع الحضارة الغربية/ الوضعية/ الجاهلية/ الجائرة، داعيًا بيقين المُخلّص لعودة الخلافة الإسلاميّة التي لا يعرف عنها هي الأخرى في الحقيقة شيئًا!
نستعرض في هذه المقالة – بشكلٍ مُقتضَب – دائرتين أو مستويين من الفعل الإسلامي تجاه هذه القضية المُتمظهرة في (العالمية، الخلافة، الأستاذية) كديباجة دعائيّة، وكغاية نهائيّة لكُلّ جُهد إسلامي سواء كان هذا الجهد يصبّ في الفضاء المعرفي الإسلامي أو المجال الحركي الإسلامي العام، مُتخذين (مشروع العالمية الإسلامية الثانية) للمُفكر السوداني الموسوعي محمد أبو القاسم حاج حمد نموذجًا لذلك المجهود المعرفي الفاعل في مستوى الفضاء الأول، و (مشروع الإخوان المسلمين) باعتبارها أم الحركات الإسلامية المعاصرة نموذجًا حركيًا للمستوى الثاني.
النموذج المعرفي: مشروع العالمية الإسلامية الثانية؛
تجربة شخصية مع الكتاب
“العالمية الإسلامية الثانية” ؛ عنوانٌ أثيرٌ وقع أمام عيني، فأمسكتُ بدفتيّ الكتاب، أبحث عمّا فهمتُ أنه كتابٌ سياسيٌّ سوف يتحدث عن ماضينا الغابر، وأحلامنا العالقة التي لا تعلم للواقع سبيلًا. لم يمنعني جهلي بالكاتب أن أتعرّف عمّا كتب، وببحث سريع على الشبكة العنكبوتيّة تكشَّف لي كم جهلي بذلك المُفكّر السودانيّ العبقريّ، محمد أبو القاسم حاج حمد، وإذ بي أبدأ بقراءة مدخله التأسيسي الذي تجاوز الـ 150 صفحة ومن ثمَّ المجلد الأول بكامله دون انقطاع.
إنَّ الواجب الآني على تلك الأُمَّة الوسط الشاهِدة على النَّاس أن تبدأ رحلة طويلة من التأسيس المعرفي، مُنطلقةً من النص القُرآني والسُنّة الصحيحة، وباستيعاب كامل وتام لأدوات المعرفة الإنسانية
لقد تفتّحت عيني على فضاء آخر، أكثر رحابة من ضيق الأيدولوجيا والقوالب المعرفيّة سابقة الصّب، فعلمتُ لماذا وضع له عنوانًا فرعيًّا (جدلية الغيب والإنسان والطبيعة)؛ فالكتاب يُمثل الجانب الفلسفي/النظري لمشروع ضخم بنفس العنوان، ينطلق من (جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) ومن خلال (الجمع بين القراءتين) – أي القراءة الإلهية الغيبية من جهة والقراءة الإنسانية الموضوعية من جهة أخرى – ، وبأسلوب (منهجي ومعرفي) يعتمد على (التحليل والتركيب)، ومن هنا يُصنّف الكتاب وكذلك مشروع العالمية الثانية في دائرة (الفلسفة) أو (علم الكلام).
مشروع العالمية الإسلامية الثانية
لقد استطاع “حاج حمد” أن يؤسس لمنهجيّة قُرآنية جديدة تتعامل مع الاسترجاع النقدي التحليلي (القرآن بين التصديق والهيمنة)، أي باعتباره الكتاب الخاتم المُصدِّق لما قبله، والمُهيّمن عليه كذلك ليضبط كل الانحرافات العقديَّة/الفكريَّة/الإجتماعيَّة/السياسيَّة/الإقتصاديَّة التي طرأت علي حالة التناسق الكوني بين الإنسان والطبيعة، يرجو “حاج حمد” تحقيق ذلك من خلال إعادة قراءة ومن ثمَّ كتابة (المعرفة الإنسانية) وفق المنهجية القرآنية، والجمع بين القراءتين بمنطق (التحليل) لا (التفسير) أي الصعود بالواقع إلى النص، لا إسقاط وتأويل النص على الواقع. فهو لا يدعو إلي تفسيرٍ (عصراني) للقُرآن، يأوِّل النص لصالح النظريات العلميَّة المُهيمنة الآن علي شتى مجالات المعرفة الإنسانيَّة، وإنَّما يدعو إلي عملية مُكابدة طويلة وعميقة للنص القُرآني، لتحليله تحليلًا دقيقًا يصل إلي تحليل أدقّ تركيباته اللفظية؛ فكل لفظة في القرآن الكريم عند “حاج حمد” هي مقصودة بذاتها، ولها دلالتها التي تختلف لو تم استخدام لفظة أخرى.
لتعبير (العالمية الإسلامية الثانية) دلالة مُهمَّة عند “حاج حمد” حيث يطرح تنامي ما أسماها (الدورات الدينية الأربعة)، بدايةً بالدورة العائلية (آدم) ثم الدورة القبلية (بنو إسرائيل) ثم الدورة الأُمّيَّة (العالمية الإسلامية الأولى) التي شملت غير الكتابيين، ما بين المحيطين: الأطلسي غربًا والهادي شرقًا. ثم الدورة العالمية الشاملة (العالمية الإسلامية الثانية) حيث يظهر الهُدى ودين الحقّ على مستوى العالم كله؛ فيستوعب كافة الأنساق الحضارية والدينية، وهذه هي الأُطروحة التبشيريَّة لحاج حمد لعملية (الخروج العربي) كما أسماه وسط حالة (تدافع) مُستمرَّة مع المشروع الإسرائيلي.
وبشكلٍ عامٍ؛ يُمكننا القول بأنَّ مشروع العالمية الثانية لـ “حاج حمد” يتقاطع في مداه المعرفي مع مشروع صديقه الدكتور طه جابر العلواني؛ آخذًا الأول (الفلسفة) كمدخل، والثاني (التاريخ) كمدخل، منطلقين من منهجية واحدة هي (الجمع بين القراءتين).
لا يخفَ على عاقلٍ بأنَّ كُل الحركات الإسلامية المعاصرة، أو بمعنى أشمل الحالة الإسلامية بشكلٍ عامٍ تُعاني من إشكال ومأزق حقيقيين يتمثلان في فقرها المعرفي الشديد في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية
ليست أطروحات “العلواني” وحدها من تُشارك مشروع العالمية الثانية؛ فـ الدكتور خليل أحمد خليل في كتابه (جدلية القرآن) يُقدِّم مدخلًا مُهمًا للغاية حيث ينطلق من القرآن كجذر في تكويننا الحضاري، صاعدًا إليه تحليلًا بوعي علمي، يعرف حدود وكيفية استخدامه للعقل الأوروبي في تشخيص القرآن. كذلك مع تجاوزه (التفسير) إلى بدايات (التحليل) ليس بهدف (العصرنة) خلافًا لمصطفى محمود وغيره، ولكن بهدف الفهم من خلال التركيب نفسه.. حتى يمكننا القول بأنَّ “خليل” قد صعد إلى القرن السابع وهو يحمل معه كل أدوات القرن العشرين، كما وصفه “حاج حمد” في كتابه.
وفي جانب فلسفي آخر، يأتي مشروع الدكتور عبد الوهَّاب المسيري – رحمه اللّه – ليملأ فراغاً وجانبًا كبيرين ومُهمين كذلك من خلال عملية التفكيك والتركيب للفلسفة الغربية المُرتكزة على جوهر علماني استطاع “المسيري” باستخدام أدوات مدرسة فرانكفورت النقدية أن يُفككها ويُركبها في مجلديّ (العلمانية الجزئية والعلمانية الشاملة) بشكلٍ خاص، وكتاباته الأخرى بشكل عام.
وحتى لا ينفلت جوهر المقال من بين أيدينا؛ نُريد القول بأنَّ مشروع العالمية الثانية، وغيره من المشاريع الأخرى التي تتقاطع معه في الفضاء المعرفي الإسلامي تُحاول أن تُعالج الجانب النظري من (جدلية الغيب والإنسان والطبيعة) انطلاقًا من (الجمع بين القراءتين) كرؤية كونية تُحقق مُطلق الإنسان بالاستناد إلى (منهجية القرآن المعرفية) والوحي القرآني (كمعادل موضوعي ومطلق للوجود الإنساني وحركته)، وذلك في مقابل (الخصائص الوضعية للحضارة العالمية الراهنة وأزمتها). مأكدًا ضرورة (الاستيعاب والتجاوز) لمختلف المناهج المعرفية والأنساق الحضارية بمنطق تحليلي ونقدي وفق ذات الرؤية الكونية. وهو هم معرفي لازال يحتاج لمجهودات ضخمة كي تستطيع اللِحاق بفجوة قرنين من الزمان أو أكثر.
مستوى الحركة: الإخوان المسلمون نموذجًا؛
الفرد المُسلم، الأسرة المُسلمة، المجتمع المُسلم، الدولة المُسلمة، الخلافة وأستاذية العالم؛ بهذه التراتبية الحسابية والصعود المنطقي أرسى الإمام حسن البنا مشروعه – أو بمعنًى أدقّ – هكذا فهِم من أتوا بعده وفي هذا تفصيل ليس هذا مقاله، مُكتفيًّا ومُعتمدًا في عصره على ما قدّمه (الإصلاحيّون الروّاد) من تنظيرات وتصورات فكريّة ومعرفيّة أمثال الأفغاني وعبده ورشيد رضا، صارفًا جُلّ همه وحركته لهمّ (التعريف) و (التكوين) و(التنفيذ)، وِفق منظومة وماكينة (تكتيل) أكبر عدد ممكن من المسلمين على فكرته المُبسّطة، بتنظيرات حركية مُركزة وسهلة الفهم عن طريق رسائله المُقتضبة.
وطِوال عمرها المديد لما يربو من التسعين عامًا؛ لم تُوفِّر جماعة الإخوان المُسلمين – نظرًا لطبيعة تكوينها الحركي وضعف كودارها الفكريَّة – أيّة مساحة جادة لعملية تأسيس معرفي، وتأصيل شرعي/فكري لقضايا الحُكم والسياسة والمجتمع، مقابل تعاظم الهم الحركي في جانبه السياسي (الإجرائي) من انتخابات وخلافه بشكلٍ خاص.
يُمكننا القول بأنَّ مشروع العالمية الثانية لـ “حاج حمد” يتقاطع في مداه المعرفي مع مشروع صديقه الدكتور طه جابر العلواني؛ آخذًا الأول (الفلسفة) كمدخل، والثاني (التاريخ) كمدخل، منطلقين من منهجية واحدة هي (الجمع بين القراءتين)
فمنذ تأسيسها وحتى الآن؛ لم نجد كتابًا واحدًا لمُنظريها القلائل يتحدث فيه عن مفهوم (الأستاذية) كرؤية كونيّة، ونسق معرفي، ومنظومة حضاريّة، بل كانت جلها تنظيرات (أدبية) تقترب من كونها ديباجات طوباويًّة عن خصائص الدعوة من كونها ربانيّة، وعالميّة، وشاملة.. إلخ من تلك الخصائص التي توجد بأي مشروع أيدلوجي ذي طابع عالمي.
حتى أنَّ تلك التحولات المنهجيّة التي مسَّت صميم أطروحاتها الفكريّة والحركيّة، وتحوُّلها من جماعةٍ أُمميَّةٍ إلي جماعات قُطريَّة منذ السبعينات، ظلَّت تعمل في حدود النطاق الجُغرافي والمُتاح السياسي كأيّ حزب سياسي، مُتخليةً بشكلٍ عملىٍ عن دورها العالمي والإقليمي، الجدير بالدراسة هنا أنَّ هذه التحولات كانت لها سمة مُميّزة في كونها تحولات فكريّة (لاحقة) للتحرُّك السياسي للجماعة، أيّ أنها كانت (ناتجة) و(مُبرِّرة) للحركة، غير (مُنتِجة) و(مُنشِئة) لها، وذلك نظرًا لطبيعة المسلكية الإخوانية – إن صحّ التعبير – في التعاطي السياسي مع السياقات السياسيّة/الإجتماعية/الإقتصادية للمجتمع والدولة على السواء.
الإشكالية الأساسيّة في مسلكية الجماعة تلك – والتي تتشارك معها فيها كل الحركات الإسلامية المعاصرة – أنها تؤدي بالنهاية لتحول منهجي (غير مقصود) يخضع لمصلحة سياسية، قد يكون لها وجهاتها في فترة ما، ولم تكُ أصلًا في منهج الجماعة؛ فتحل المصلحة المتغيرة محل الغاية المنضبطة بالوحي ورؤيته الكونية التي على أساسها انبنت الجماعة ابتداءً.
لقد استطاع “حاج حمد” أن يؤسس لمنهجيّة قُرآنية جديدة تتعامل مع الاسترجاع النقدي التحليلي (القرآن بين التصديق والهيمنة)
لا يخفَ على عاقلٍ بأنَّ كُل الحركات الإسلامية المعاصرة، أو بمعنى أشمل الحالة الإسلامية بشكلٍ عامٍ تُعاني من إشكال ومأزق حقيقيين يتمثلان في فقرها المعرفي الشديد في مجال العلوم الطبيعية والإنسانية وجمودها وقصورها في مجال العلوم الشرعيَّة لدرجة أنّها لم تعُد قادرة على تعريف الإسلام إبتداءً ولا أولويّة عملها برؤية كونية شاملة.
فمن خلال النموذجين المعرفي والحركي الذين استعرضناهما بشكلٍ سريع، يتضح لنا ذلك الهم التنظيري المهول الذي يحاول أن يسد ثغره منظِّرون قلائل، والذي يقع في مستوى ودائرة تعمل في فضاء أعلى بكثير من مستوى ودائرة الهم الحركي والفعل السياسي، مع اتساع حجم الفجوَّة بينهما، كل ذلك يؤدي بالنهاية لتخبُّط وفقدان وجهة الفعل السياسي، في حين تقبع الأطروحات الكونية تلك بين دفّات الكُتب وحيز ندوات المثقفين.
إنَّ الواجب الآني على تلك الأُمَّة الوسط الشاهِدة على النَّاس أن تبدأ رحلة طويلة من التأسيس المعرفي، مُنطلقةً من النص القُرآني والسُنّة الصحيحة، وباستيعاب كامل وتام لأدوات المعرفة الإنسانية، ثم تجاوزها وِفق رؤية كونية واحدة قبل ولوج عمليات جديدة من الفعل الحركي دون تحديد أولويات المرحلة في كلا الجانبين المعرفي والفكري من جهة والحركي المجتمعي من جهة أخرى.
وأخيرًا؛ على الإسلاميين المُشتغلين بقشور السياسة أن يعرفوا ومن ثم يُعرّفوا أنفسهم ابتداءً، وعلى أساس من نحن؟ تخرج إجابة ماذا نريد؟ وإلا ستذهب أجيالٌ وراء أجيال دون مردودٍ يليق بحجم التضحيات الهادِرة، ودون أي تأثير حقيقي في حركة التاريخ.