لا يستطيع أحد إنكار حجم وتأثير جماعة بثقل الإخوان المسلمين التي تمتد عبر عشرات الدول وفقًا لتصريحات قادتها، هذا التأثير الذي لا يمكن إغفاله في إرهاصات ثورات الربيع العربي أو في إخفاقات تلك الثورات ووأد الحلم الوليد، وعلى سبيل المثال في مصر فقد كانت الجماعة تمثل المعارضة الحقيقية أيام مبارك التي كانت تسبب له إزعاجًا عبر مجلس النواب بتكوينها تكتل نيابي قارب على ربع المجلس عام 2005، أو عبر المظاهرات المساندة لقضايا عربية مثل فلسطين والعراق، وقد كانت الجماعة تعمل في المساحة المسموح لها به عبر اتفاقات ضمنية مع النظام الحاكم فإذا تعدت تلك المساحة كانت المعتقلات والسجون والمحاكمات العسكرية كفيلة بإعادتها للمربع الأخضر.
امتلك قادة الإخوان الطاقات البشرية الهائلة وحركتها بسوط “السمع والطاعة” و”الثقة” المفروضة غير القابلة للمناقشة، وأحدثت بالفعل تغييرًا داخل المجتمع كان له أثرًا ايجابيًا في رفض نظام مبارك، وجاءت الثورة واتخذت الجماعة خلالها قرارات مصيرية منذ بدايتها وحتى الانقلاب العسكري في يوليو 2013، وما تلاه من أحداث ومذابح ومن المعروف بداهة أن القرارات السياسية تخضع لحسابات آنية تتغير وفق محددات ومتغيرات كل حادثة، وليس من الإنصاف الحكم على قرار ما بالصحة أو الخطأ إلا وفق شفافية تبين كيف تم اتخاذ هذا القرار، وهذا ما لم يحدث ولا أظنه يحدث، على الرغم من الدماء التي سالت والألوف الذين يدفعون ثمن تلك القرارات من حريتهم ومستقبلهم.
فشل القناة المملوكة للجماعة قبل بدايتها ليس في اختيار اسم استهلك إعلاميًا لا يحمل إبداعًا ولا جديدًا فقط، بل لأنها صدمت أفراد الجماعة بتعاقدها مع من سبوا الاخوان والرئيس مرسي وباركوا الاعتداء على مقراتها
فقد ظل زعماء الإخوان الذين نجوا من الاعتقال والقتل بعيدين كل البعد عن تلك المحاسبة من قبل جموعهم التي تدفع الثمن، بل ظلوا في مواقع القيادة يشكلون هم محاكم التفتيش لمن يسألهم أو ينتقد قراراتهم كما حدث في الأزمة التي شهدتها الجماعة منذ بداية عام 2015، وإذا افترضنا صحة جميع قرارات تلك القيادة، ألم يعلموا أنه لا يوجد في علم السياسة أو علم الإدارة بالزعيم الذي يصلح في حالة السلم وحالة الحرب معًا، أو يصلح في حالة الانفتاح على المجتمع ونقيضها، أو يكون في مرحلة قيادة الدولة وكذا في مرحلة التيه والمطاردة.
فالتاريخ الحديث يذكر لنا حالات لاستقالة زعماء فقط لتغير الموقف السياسي فهذا رئيس وزراء بريطانيا ديفيد كاميرون يتنحى عن مهمته بعدما تم التصويت من قبل الشعب بالموافقة على الانفصال عن الاتحاد الأوروبي، وها هو تشرشل الزعيم الذي جلب النصر لبلاده في الحرب العالمية الثانية ضد النازية يسقط في الانتخابات، والأمثلة على ذلك كثيرة.
والقيادة التي تحصل على صك الثقة العمياء تتعامل بكل أريحية في مقدرات الجماعة البشرية والمالية لأنها تضمن عدم المساءلة وتنال ثناء الذين تربوا على الفهم الخاطئ للثقة والطاعة، وعلى أن التفكير جريمة تحتاج للفصل والإبعاد فتراهم يصمتون على أخطاء تسببت في دماء أطفال ونساء كما فعلوا بعد علمهم بنية الدولة لفض الاعتصام السلمي في رابعة ولم تحاول القيادة إجلاء الأطفال والنساء بل كان خطابهم يجرم من يفعل ذلك.
فكانت المناظر المفجعة للأطفال الذين شاهدوا مقتل أبائهم وأمهاتهم على يدي العسكر في مذبحة ستظل في أذهان هؤلاء الأطفال ولم يحاسب أحد من ساهم في ذلك بسبب سوء الإدارة، كما تهدر تلك القيادات للملايين من الدولارات على مسمع ومرأى من أفرادها دون محاسبة أو حتى اعتراض، ولنا في إنشاء قناة وطن التي بنيت على أنقاض قناة “مصر الآن” خير مثال على ذلك، فقد ولدت تلك القناة في مارس 2016 ميتة لأسباب ظهرت قبل بثها وصنعت حاجزًا أمام انتشارها، حتى إن الكاتب سليم عزوز قال “إننا لا نعلم ما هو موعد بداية بث القناة الجديدة ولكننا نعلم نهايتها”، فالكل كان يعلم أن الإصرار على بث القناة وإنفاق الأموال التي تأتي من جيوب شباب الإخوان ومن مصادر أخرى تحتفظ بها تلك القيادة هو جريمة مكتملة الأركان مع سبق الإصرار والترصد، وهذه الجريمة يشارك فيها كل القيادات التي وافقت أو صمتت وروجت لها، وستنتهي القناة وستغلق قريبًا بعدما فشلت في الوصول حتى لأفراد الجماعة وسيغلق الملف كما تم إغلاق كل الملفات السابقة ولن يتحمل أحد المسؤولية.
أما أسباب فشل القناة المملوكة للجماعة قبل بدايتها ليس في اختيار اسم استهلك إعلاميًا لا يحمل إبداعًا ولا جديدًا فقط، بل لأنها صدمت أفراد الجماعة بتعاقدها مع من سبوا الاخوان والرئيس مرسي وباركوا الاعتداء على مقراتها وسفك دماء أبنائها مثل الفنان هشام عبد الله الذي كتبت زوجته عضو حركة “تمرد” السابقة، غادة نجيب، أنهم وافقوا على عمل هشام بالقناة بعد تطمينات واتفاقات بعدم الكلام عن عودة الرئيس مرسي للحكم مرة أخرى، وقالت عبر صفحتها على موقع التواصل الاجتماعي “فيس بوك”: “جوزى بيقبض من شغله وشغله ده وافق عليه بعد محايلات وتطمينات أن مفيش مرسى يا… وأنهم مش هيتدخلوا فى شغله يا… هما مشترطوش علينا حاجه دا إحنا اللي أخدنا تطمينات كتير عشان نرضى نشتغل معاهم”، وكتبت أيضًا ردًا على من هاجم شغل زوجها في القناة “وهو الإخوان لو كان عندهم دم وكرامة كانوا شغلوا حد قال عليهم كده (…) أنتم مرتزقة ولا دين ولا مبدأ ولا أخلاق”، وذلك الاختيار يظهر مدى استهانة القيادة بأفراد الجماعة فهم لا وزن لهم بالضبط كما يفعل السيسي مع الشعب، فقيادة الإخوان التي تنشر بين صفوفها وفي العلن تمسكها بعودة الرئيس مرسي وجعلت الشباب يقدمون دمائهم ثمنًا لذلك تعطي الطمأنية والمال بإن (مفيش مرسي).
ظل زعماء الإخوان الذين نجوا من الاعتقال والقتل بعيدين كل البعد عن المحاسبة من قبل جموعهم التي تدفع الثمن، بل ظلوا في مواقع القيادة يشكلون هم محاكم التفتيش لمن يسألهم أو ينتقد قراراتهم كما حدث في الأزمة التي شهدتها الجماعة منذ بداية عام 2015
لا شك إن إصدار القناة في فترة الشقاق داخل الجماعة كان نوعًا من المكايدة السياسية ومحاولة بسط النفوذ بتدشين خطاب إعلامي يتبنى وجهة نظر الفصيل الذي يملك المال ولمحاولة سحب البساط من القنوات التي حققت نجاحًا ولكنها تستضيف من ينتقد القيادة كقناة “مكملين” والتي تفوقت على قنوات كبيرة في نسبة المشاهدة وجاءت ضمن قائمة أعلى 10 قنوات فضائية في مصر وفقًا لتقرير شركة إبسوس للأبحاث.
يبقى السؤال: متى يتحلى القادة التاريخيين بالشجاعة اللازمة للاعتراف بالأخطاء وترك المواقع القيادية؟ ومتى يتوافر لدى الجماعة آليات حقيقية لا شكلية للمساءلة؟ ومتى تتغير أساليب التربية لدى الجماعة التي تدعو للقنوع والطاعة دون تفكير والتسليم بصحة كل ما يصدر عن القيادة؟ ومتى نرى نموذج القائد الفذ مهدي عاكف الذي ترك القيادة بعدما حقق نجاحًا وقفز بالجماعة خطوات للأمام؟ وهل يظل نموذج عاكف هو الاستثناء الذي يثبت القاعدة؟ ومتى تعلم قيادات الجماعة أن أخطائها يدفع ثمنها الشعب وليس أفراد الجماعة فقط؟