يكرر نظام الأسد الترويج لروايته القديمة المتجددة التي تحمل مسؤولية تردي الأوضاع الإنسانية التي يعيشها السوريون، والانهيار الاقتصادي للعقوبات الاقتصادية الغربية، ويتهرب من الاعتراف بالإخفاق أو المسؤولية تجاه ما يحدث، ويحاول التملص من النهوض بالواقع الاقتصادي، بعد عجزه عن تقديم أي حلول تجاه حالة الانهيار الاقتصادي، بعد تجييره موارد البلد لصالح عملياته العسكرية والأمنية، وإصراره على الحل العسكري الصفري، وإخضاع سوريا لقائمة ضخمة من العقوبات التي سرعت وتيرة الانهيارات الاقتصادية وأثرت سلبًا على الوضع المعيشي السوري، وغير ذلك من السياسات التي تواصل إفقار السوريين وتدمير اقتصاد سوريا ورهن مستقبله.
وفي مقابلة رأس النظام مع قناة سكاي نيوز عربية، التي حملت رسائل عديدة حاول تمريرها إلى مختلف القوى الإقليمية والدولية، أشار إلى “الصعوبات والضغوطات والعوائق والمخاطر التي تواجه الشركات التي عبّرت عن رغبتها في المشاركة بعملية الإعمار، بسبب العقوبات الاقتصادية الغربية”، معتبرًا أن “الظرف السياسي والأمني والاقتصادي الحالي لا يسمح بإعادة الإعمار بالمعنى الواسع”.
سلاح العقوبات
تمثل العقوبات الأمريكية، إضافة إلى الأوروبية، عصب العقوبات المفروضة على النظام وأشدها تأثيرًا، وتستمد هذا التأثير من حيث القدرة الأمريكية على عرقلة الحلول السياسية وخنق الفرص الاقتصادية أمام طموحات النظام وحلفائه، ونسف فكرة مشروع إعادة الإعمار دون التوصل لحل سياسي شامل وفق القرارات الدولية، وحرمانهم من ترجمة مكاسبهم العسكرية إلى مكاسب اقتصادية وسياسية، من خلال منع جهود إعادة تعويم النظام وإخراجه من عزلته السياسية والاقتصادية، التي قد تفتح الباب أمام تدفق أموال إعادة الإعمار للنظام، واستئثار حلفائه باستجلاب عقود إعادة الإعمار إلى سوريا.
واتخذت الولايات المتحدة سلسلة تحركات بهدف التضييق الاقتصادي على نظام الأسد، وإتمام حصاره اقتصاديًا وسياسيًا، وتحديدًا بعد إقرار قانون قيصر أواخر عام ٢٠١٩، وتضمين الولايات المتحدة جهودها في مكافحة تجارة مخدرات النظام في ميزانية الدفاع لعام ٢٠٢٣، وإقرار لجنة العلاقات الخارجية في مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة مشروع قانون لمكافحة التطبيع مع النظام.
فمع دخول قانون قيصر أو “قانون قيصر لحماية المدنيين في سوريا لعام ٢٠١٩” حيز التطبيق مطلع العام ٢٠٢٠ تسارع التدهور الكبير للاقتصاد السوري، ورسخ من القطيعة السياسية مع النظام، وأسهم في تقييد حركة الدول والبنوك والشركات والأفراد المتعاملة مع النظام، والمرتبطة به، أو الراغبة في الدخول في عملية إعادة الإعمار والاستثمار فيها.
وسعى “قيصر” للضغط على نظام الأسد للانخراط في العملية السياسية، واستهدف قطاعات مختلفة أهمها الطاقة والطيران والاتصالات، وأثر بشكل سلبي على الدول والكيانات الداعمة للنظام، حيث حد من قدرة حلفائه الإيرانيين والروس على تقديم الدعم المالي للنظام وإمداده بالنفط والغاز كسابق عهدهم، بالتزامن مع أزمة اقتصادية سياسية اجتماعية تضربها.
وضمن هذا الإطار، من الملاحظ أن الموقف الولايات المتحدة في سوريا يتسم بالغموض، ففي الوقت الذي بدى موقفها متناقضًا ومواربًا تجاه عودة نظام الأسد إلى الجامعة العربية قبل تحقيق شرط الحل السياسي؛ زادت من حضورها في الملف السوري، من حيث استمرار سياستها الرافضة للتمدد الروسي والإيراني شرقي الفرات، وتمسكها بحقول النفط في المنطقة، ورفع تواجدها في قواعدها المنتشرة في سوريا، فضلًا عن تصليب موقفها تجاه رفع العقوبات الاقتصادية عن نظام الأسد، حيث أصدرت قانونًا جديدًا لمكافحة مخدرات النظام، بعدما باتت تُشكّل مصدر تهديد عالمي، وضمّنت الحراك ضد مخدرات نظام الأسد في ميزانية الدفاع لعام 2023.
ويهدف القانون الجديد الخاص إلى مواجهة تجارة المخدرات التي يقوم بها نظام الأسد، وتفكيكها بوصفها خطرًا عابرًا للحدود، بحكم تهديده أمن الدول الأخرى المحيطة بسوريا، والبعيدة عنها كأوروبا والولايات المتحدة، وهو ما يشكل عائقًا حقيقيًا أمام القوى الراغبة في تمهيد الطريق أمام نظام الأسد لاستجلاب أموال إعادة الإعمار، والبدء فيها.
وقد باتت هذه التجارة فعليًا سلاحًا بيد النظام للالتفاف على العقوبات الاقتصادية وكسب العملة الصعبة، حيث قدرت عدة صحف أجنبية ومراكز أبحاث اقتصاد المخدرات في سوريا بأكثر من ٥ مليار دولار سنويًا، وبالتالي فهي المصدر الأساسي الاقتصادي لدى النظام، في حين أشارت تقارير صادرة عن مركز التحليلات العملياتية والأبحاث (COAR) إلى أن أوروبا ومنطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا صادرت ما لا يقل عن 173مليون حبة كبتاغون، و12.1 طن من الحشيش المصدرة من سوريا عام ٢٠٢٠.
وفي المجمل، يمثل ملف العقوبات الاقتصادية العصا الأهم بيد الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي، وأحد أهم أدواتها ومقاربتها للمسألة السورية، لإخضاع النظام وحلفائه، والضغط عليهم لتقديم تنازلات معينة، والانخراط في حل سياسي حقيقي، يسبق عملية إعادة الإعمار، وهو ما كان واضحًا من التشبث بملف العقوبات والتجديد المتكرر لها، واستحداث عقوبات جديدة وفقًا لطبيعة المرحلة، وتطورات الموقف السياسي تجاه الملف السوري.
إضافة إلى ذلك، أقرت لجنة الشؤون الخارجية في مجلس النواب الأمريكي بأغلبية ساحقة قانونًا تحت مسمى “مكافحة التطبيع مع الأسد لعام 2023″، يحظر على الحكومة الأمريكية الاعتراف بأي حكومة تحت سلطة بشار الأسد، والتطبيع معه، كما يوسع نطاق عقوبات قيصر، ويمددها حتى عام ٢٠٣٢.
ويبدو أن طرح الولايات المتحدة القانون الجديد يحمل في طياته رسائل إلى الدول المطبعة مع نظام الأسد، ويقطع الطريق أمامها لتقديم الأموال للنظام والشروع في عملية الإعمار، وتجاوز القرارات الدولية، لاسيما وأن القانون تزامن مع استضافة بشار الأسد في مدينة جدة للمشاركة في القمة العربية بعد قرار الجامعة العربية منحه مقعد سوريا.
تحايل نظام الأسد على العقوبات
ادعى رأس النظام صراحة في مقابلته الأخيرة مع قناة سكاي نيوز عربية تمكن نظامه من الالتفاف على عقوبات قانون قيصر، ما دفع بالولايات المتحدة إلى الرد، والتأكيد أن النظام يحاول التقليل من تأثير العقوبات المفروضة عليه، مشددة على أنها ستظل قائمة حتى تحقيق حل سياسي وفق قرار مجلس الأمن الدولي رقم ٢٢٥٤، الذي يدعو إلى وقف إطلاق النار والتسوية السياسية في سوريا.
في العموم، يبرع النظام في التحايل على العقوبات الاقتصادية والالتفاف عليها، وتكيف مع التهرب منها، مستندًا على الخبرة الروسية والإيرانية في هذا المجال، فضلًا عن توثيق علاقاته الاقتصادية مع دول لا تلتزم نسبيًا بالعقوبات كإيران ولبنان والعراق والصين وروسيا، ويتكئ على روسيا وإيران لتقديم دعم مادي وعسكري يكون متنفس له، وبوابة لتأمين المواد الرئيسة كالنفط والقمح.
كما يستغل نظام الأسد الفجوات والثغرات التي تخلقها تقلبات المواقف السياسية للدول التي تفرض عقوبات عليه، وتحديدًا الولايات المتحدة، حيث استطاع النظام من تجاوز بعض العقوبات المفروضة ضمن قانون قيصر، بدعم من قبل القوى الإقليمية المنخرطة معه في مسار التطبيع، إذ سعى الأردن مؤخرًا إلى إعادة نظام الأسد إلى الجامعة العربية ورفع العقوبات عنه، بموافقة وتنسيق وغض طرفٍ أمريكي.
ومع تآكل موارد النظام وشح الدعم المقدم له نتيجة أسباب دولية عامة، وأخرى خاصة بالقوى الداعمة له، توجه النظام نحو إنتاج المخدرات وتهريبها إلى الدول المحيطة والبعيدة، في محاولة لزيادة موارده، والالتفاف على العقوبات للحصول على أصول مالية إضافية ضخمة، برعاية مؤسساته العسكرية والأمنية، وبالتنسيق مع إيران وحزب الله اللبناني، فضلًا عن استغلاله ملف المساعدات الإنسانية الدولية والأممية المقدمة من المنظمات الدولية إلى سوريا، ومصادرتها، والتلاعب بها، وما إلى ذلك من أدوات تساعده على التهرب من العقوبات كتحويل الأموال والحوالات وإنشاء شركات وهمية، والاضلاع بصفقات غير رسمية لتبيض أموال عبر شركات عابرة للحدود.
ويبدو الأمر مختلف نوعًا ما فيما يتعلق بالتعاون الاستثماري والشروع بعملية إعمار شاملة، يقودها نظام الأسد وحلفائه، إذ إن هناك تحديات حقيقية تمنع تدفق الاستثمارات والتمويل الضروري لإعادة الإعمار، بسبب التقييدات المفروضة على حركة التجارة والاستثمار، وتحديات أمنية وسياسية، لا تغري المانحين الدوليين بالبدء بمشاريع الإعمار، وعلى رأسها غياب الأمن والاستقرار، وعدم الوصول إلى حل سياسي وفقًا للقرارات الدولية، واستمرار حالة التوتر الداخلي، من مناوشات عسكرية متكررة، أو احتجاجات شعبية، فضلًا عن انعدام الثقة الدولية في النظام نتيجة لانتهاكات حقوق الإنسان الجسيمة التي اقترفها.
عمومًا، لم تغير العقوبات الاقتصادية سلوك نظام الأسد على مدى أكثر من عقد على عمر الثورة السورية، ولن تغيّره، لاسيما وأنها لم تنجح تاريخيًا في إخضاع إي دولة استبدادية سلطوية عسكرية كروسيا وإيران وفنزويلا، فضلًا عن إتقان النظام كيفية التحايل على العقوبات مستفيدًا من الخبرة الروسية والإيرانية في هذا المجال.
ولكن الواضح أن العقوبات الاقتصادية والضغوطات المالية تخلق أمام نظام الأسد عوائق وصعوبات تُضعف قدرته وتضيّق هامش مناورته السياسية، على المستوى الدولي، لاسيما فيما يتعلق بمحاولاته استجلاب أموال إعادة الإعمار، وقد تساهم في انهياره على المدى الطويل في حال أضيفت لها عوامل أخرى، خارجية أو داخلية، كحالة التململ الشعبي الداخلي في مناطق سيطرته، والتي شملت مظاهرات واحتجاجات في مناطق عدة على رأسها السويداء، وامتدت حتى حاضنة النظام في الساحل السوري.