الباحث المعلوماتي/ محمد حسني
مساعد باحث ومنسق الملف من جانب نون بوست/ أسامة الصياد
“وهذا حتى لا يخدش السطح”.. تلك عبارة استعملها منفذ عروض سحرية في بداية تحليله وكشفه لطرق خداع الذين يعرفون بالوسطاء الروحيين أو خبراء التنويم المغناطيسي أو أصحاب القدرات الخارقة، ولكننا نجد العبارة هي الأكثر ملاءمة لوصف هذه البداية في تقصي شبكات علاقات الجيش والاقتصاد في أول وجه منها، وهي علاقة الجيش ورأس المال، فكلما تبحث أكثر في هذا المبحث، يتكشف لك الجديد الذي يجعلك تدرك أن ما يجري على السطح هو فعلاً قمة جبل جليد غاطس، ولكن بالنهاية هناك المزيد والمزيد أكثر عمقًا لمن يريد البحث أكثر.
وننوه بداية إلى أن علاقة الجيش والاقتصاد لها عدة أوجه منها علاقته بالاقتصاد الدولي، وعلاقته بالمجتمع وبالتنافسية المحلية داخل قطاعات الدولة المصرية، وشبكات الولاء له وكذلك اقتصاد الجيش العسكري، ونحن في هذه الدراسة نتناول جانبًا واحدًا منها وهو كما أوضحنا أعلاه علاقة الجيش ورأس المال.
إن قصة الجيش في مصر والاقتصاد تمثل بعمقها قصة الحكم بمصرعمومًا، ليس منذ 23 يوليو وإنما إن شئت قل منذ تأسيس الدولة المصرية وهو مرتبط بفلسفتها وغاية وجودها.
فإن كان تعريف كارل شميت للدولة بأنها سلطة الاستثناء، أي أن السلطة التي تستطيع الدولة أن تمارسها بالحالات الاستثنائية هي ما تعبر عن جوهرها حقًا وما تعنيه تلك الدولة من الأصل، فبالإمكان بكثير من التجاوز القول بأن ما يمارسه الجيش من عمل ربحي وتقاطعه مع الاقتصاد هو ما يعبر حقًا عما تعنيه سلطته وماهية دولته حقًا.
من وجهة نظرنا، هناك قصور دائم في الدراسات المتعلقة بالاقتصاد العسكري في مصر لأنها تنظر للقطاع العسكري على أنه منافس على حصته من الموازنة العامة مع قطاع التعليم والصحة والبنية التحتية وغيرها، وتغفل هذه الدراسات بناء تصورات أكثر وضوحًا تراعي مسألة بديهية وهي أن الجيش وغيره من الأجهزة الأمنية لديهم سيطرة مهيمنة (overwhelming) على بقية القطاعات الأخرى، ومع تحدي غياب المعلومات المتعلقة بموضوع السيطرة على الاقتصاد، يبرز هنا تساؤل: هل يمكن إيجاد نموذج قادر على قياس وتفسير هذه السيطرة؟
لنضع بداية التصورات السائدة أو النماذج التفسيرية والتحليلية الأشهر لدخول الجيش بالعملية الاقتصادية ومن ثم نقترح معالم النموذج الذي يمكن أن يكون أكثر تفسيرًا.
أولاً، هناك نموذج شانا مارشال في دراستها الشهيرة عما أسمته “الشركة العسكرية” وهي بتلك الدراسة التي تعد تأسيسية رصدت بالفعل جوانب مهمة من شراكات الجيش المصري الدولية، وتحديدًا في القطاع البحري، ولكنها بالنهاية خلصت لوضع تصور أو نموذج لاقتصاد الجيش في غاية البساطة، وهو أن تدخل الجيش بالاقتصاد غرضه ربحي بحت أو لتعميق المنافع المالية والاقتصادية للجيش فحسب، وبالتالي فإن تعامله مع الاقتصاد بحسب نموذجه هو بالنهاية تعامل براغماتي مصلحي.
ثانيًا، نموذج يزيد الصايغ بدراسته “جمهورية الضباط” والذي يدور أيضًا في فلك النموذج البراغماتي المصلحي في التفسير، ولكنه يضيف مصطلحًا صكه يزيد وهو “التنافسية العسكرية البينية”، وهو جزء من تصور رائج في تحليل قطاع الدفاع والأمن في مصر، وقد عبر عنه الدكتور أشرف الشريف بمصطلح “ملوك الطوائف”، يعبر هذا المصطلح عن أن قطاع الدفاع والأمن في مصر مكون من طوائف كملوك الطوائف بالأندلس قديمًا، أي طائفة المخابرات العامة والجيش والداخلية والقضاء وبينهم تنافس مصلحي شرس، وبالتالي يبني يزيد الصايغ في نموذجه على هذا ويضيف بوجود تنافس بيني داخل كل قطاع، فهناك شبكات مصالح متقاطعة ومتنافسة داخل المؤسسة العسكرية وينعكس هذا التنافس على حصصها من الوظائف المدنية، وعلى الرغم من عظم الجهود التي وضعت في هذه الدراسة وكونها تضمنت جهدًا هائلاً في تحديد وجود الضباط المتقاعدين والحاليين في الجهاز المدني، ولكن ما يمكن استخلاصه منها عن مسألة “السيطرة” قليل.
قصة الجيش في مصر والاقتصاد تمثل بعمقها قصة الحكم بمصرعمومًا، ليس منذ 23 يوليو وإنما إن شئت قل منذ تأسيس الدولة المصرية وهو مرتبط بفلسفتها وغاية وجودها
ثالثًا، هناك من يقترح أن الأمر في النهاية وظيفة بيروقراطية محضة، فوسام فؤاد مثلاً في دراسته عن أدوار وزارة الإنتاج الحربي “وزارة الإنتاج الحربي: خصوصية الدور والمستقبل” يقترح أن وظيفة الجيش في الاقتصاد المدني وجدت منذ تأسيس دولة يوليو، ثم توسعت خلال السبعينيات، ووصلت الآن لأطوار توسعها الجديدة عبر إطار التدافع البيروقراطي بشكل آلي أو لأداء الوظيفة المطلوبة منها، فهي لها خط مرسوم منذ بداية تكونها وما يتم هو مجرد استئناف لهذا الخط المرسوم، وقد استخدمنا ما دلل عليه هذا النموذج من أدوار لوزارة الإنتاج الحربي، خاصة بقطاع الصحة، لكي نتحقق من قدرة هذا النموذج على التفسير أم أن الأمر في الواقع أكثر تركيبًا.
رابعًا، في مقابلة شخصية مع صاحب شركة استيراد وتصدير متداخل مع نشاط الجيش بهذا المجال وكذلك مقابلة مع باحث اقتصادي متخصص في اقتصاد الجيش، كانت وجهة نظرهم وتحليلهم هو أن الجيش ببساطة يتغول على ما يستطيع أن تصل إليه يده في تلك المرحلة، فهو لديه إشكاليات حادة مع قطاع المال والأعمال، وبالتالي يستهدف الحلقات الأضعف منها حتى يخرجها من السوق المصري ويحل محلها، ويتجاوز الأمر ذلك ليطال شركات في القطاع العام.
فالجيش الآن في ذروة قوته و”سلطانيته” وبالتالي هذا هو الظرف الاستثنائي الأمثل حتى يزحف سريعًا على كل ما تطاله يده، وحتى ما لا يقدر على مباشرته بنفسه، ويُحدث تخارج لكل من كان يتولى تلك القطاعات أو ينافسه بها، ولعل هذا هو سبب أن كثيرًا من التقديرات المبالغة في حجم اقتصاد الجيش المدني تأتي من رجال أعمال كتصريح نجيب ساويرس أن اقتصاد الجيش يمثل 40% من حجم الاقتصاد المصري حسبما نقل عنه تقرير نشر على ميدل إيست آي في مارس الماضي لباحثين منتمين للمدرسة الليبرالية، تحققنا في دراستنا من بعض الأمثلة التي أوردتها تلك المصادر من تخارجات لرجال أعمال أو زحف وتغول للجيش، ومجددًا لم نجد هذا النموذج قادرًا على التفسير بالقدر المناسب.
في المقابل، يقترح باحثون في الاقتصاد السياسي في أطروحاتهم نموذجًا خامسًا مناقضًا مفاده أن الجيش لا يتصادم أصلاً مع “رأس المال الكبير” mega big business وإنما يخرجه من مساحة السياسة فقط، وكمثال على هذا دراسة الباحث عمرو عدلي “مستقبل رأس المال الكبير في مصر السيسي”.
وذلك لأسباب عديدة منها ارتباط رأس المال الكبير بالاقتصاد العالمي مباشرة، خاصة أن الدولة تمر الآن بمرحلة تحول اقتصادي دقيقة من حيث تبني أجندة “إصلاح” اقتصادي نيوليبرالي تهدف لدمج الاقتصاد عالميًا، فبالإضافة إلى أن رأس المال الكبير في الدول العسكرية عمومًا وفي الدول الإفريقية والعربية خصوصًا مرتبط بشكل مباشر بالاقتصاد العالمي، فإن حجمه مساوٍ لصافي إجمالي الناتج القومي للدولة بأكملها أو يتعداه، وما يعنيه هذا الأمر أن رأس المال الكبير هو القادر على منع الاقتصاد من الانهيار وخلق الوظائف وضخ السيولة بالاقتصاد وهو ما لا يستطيع الجيش عمله حتى ولو سيطر على الاقتصاد بشكل كامل، وإذا خرجنا من النموذج المصري سنجد تكرارًا له بالدول العربية والإفريقية العسكرية.
يدلل الباحثون في نموذجهم بعدة ظواهر مثل التصالح مع رجال أعمال نظام مبارك كأحمد عز وقانون الاستثمار الجديد الذي صدر العام الماضي والذي حل للمستثمرين مشكلة إمكانية تعطيل اتفاقاتهم مع الحكومة المصرية من المراحل العليا في القضاء كما كان يحدث في نظام مبارك، ولعل أبرز دلالة تجعل لهذا الطرح وجاهة فعلية هو أن نجيب ساويرس نفسه تراجع عن تصريحه السابق وأشار بعدها بشهر واحد فقط أن اقتصاد الجيش المصري لا يتعدى 10 إلى 20% فقط، وهناك من يتعمد المبالغة والتضخيم وأن الجيش محرك للاقتصاد وليس المهيمن! ولكن مجددًا عند بحث علاقة رأس المال الكبير بالجيش وجدنا أن الأمر أكثر تركيبًا.
وفي بداية بحثنا عندما كنا بصدد البدء بهذه الدراسة، كان التصور الافتراضي لدينا هو أن الجيش يتحرك فقط لإزاحة نخبة رجال الأعمال المرتبطة بجمال مبارك فيما كان يعرف بلجنة سياسات الحزب الوطني وأن يحل محلها، وبتجمع السلطة والبطش الذي لديه مع لحظة الاستثناء تلك، يستطيع الجيش أن يمضي في خطة الإصلاح الاقتصادي والتحول النيوليبرالي التي تردد نظام مبارك لمدة عشر سنوات في إتمامها، ولكن بعد مراجعة جزء من مفاوضات صندوق النقد، على الرغم من أن هذا المبحث بعيد قليلاً عن أصل البحث الذي بين أيدينا، وكذلك مراجعة نخبة رجال الأعمال التي أعادت تجميع نفسها في مجلس الأعمال المصري الأمريكي وجدنا أن الأمر أيضًا أكثر تركيبًا.
علاقة الجيش والاقتصاد لها عدة أوجه منها علاقته بالاقتصاد الدولي، وعلاقته بالمجتمع وبالتنافسية المحلية داخل قطاعات الدولة المصرية، وشبكات الولاء له وكذلك اقتصاد الجيش العسكري
سادسًا، هناك كذلك رؤية أخرى للاقتصاد العسكري مفادها السعي لتأمين حصص بكل قطاع بغرض السيطرة السياسية المجردة، وهي الرؤية التي يتبناها مثلاً الباحث الاقتصادي عبد الفتاح برايز في مقاله “المال ليس كل شيء: إعادة النظر في الاقتصاد العسكري في مصر“، وقد تناولنا كمثال علاقة القوات المسلحة بشركات مثل أوراسكوم والسويدي التي تناولها الباحث عبد الفتاح برايز في مقاله لنرى من خلال استعراض هذه الحلقات إن كانت تصلح تلك الرؤية بدورها كنموذج تفسيري أم أن الأمر أكثر تركيبًا من هذا.
سابعًا وأخيرًا، هناك من يحلل اقتصاد الجيش من منطلق دوره البنيوي في تكوين الدولة المصرية وأن الجيش في مصر والعالم العربي عمومًا هو مكون الدولة الصلب وأن لديه أدوارًا تتعدى دوره المباشر، أي الأمن والدفاع، إلى أدوار تعتبر من أساس وظيفة الدولة متعلقة بتحديث وتغيير المجتمع نفسه وإعادة تشكيل هذا المجتمع وتكوين ولاءاته للدولة، بالطبع، تعد أطروحة الدكتور أنور عبد الملك “المجتمع المصري والجيش” أبرز أطروحة تصف النموذج السابع بل ومن الممكن اعتبارها الأطروحة الأكاديمية الرسمية للدولة المصرية.
يضاف إليها أطروحته بكتابه الآخر “مصر مجتمع عسكري”، بالتالي من يحلل أدوار الجيش الاقتصادية وفقًا لهذا النموذج يفترض أن العقل المحرك للجيش المصري لديه وعي بأن الجيش لديه أدوار من أدوار الدولة نفسها يتقدمها تلك الأدوار المتعلقة بصياغة وتشكيل المجتمع المصري، وعليه فإن تحركه بالاقتصاد المصري ما هو إلا تفعيل لهذا الدور.
في مقابلة مبكرة لرأس النظام المصري الحالي عبد الفتاح السيسي مع الصحفي ياسر رزق من المصري اليوم، عبر السيسي عن هذا التصور/ النموذج بتعبير أبسط من لغة الأكاديميا حينما قال إنه يأتيه في الجيش فئات مختلفة من الشعب ويخرج منهم جميعًا “منتج” واحد بنفس المواصفات – استخدم بالفعل تعبير منتج بنصه! – فبالتالي هو يرى دوره في الدولة أن يعيد صياغة المجتمع مثلما يفعل في الجيش مع المجندين.
الفيديو التعريفي بكيفية استكشاف شبكة جنرالات الذهب
ولعل هذا المنظور بالنهاية يعتبر فعلاً الأكثر وجاهة، ولكن ليس وفق الأطروحة الكلاسيكية للدكتور أنور عبد الملك وإنما وفق تحليل منظور المكون العسكري ورؤيته لمفهوم الدولة والأمن القومي والمخاطر التي تحيق بالدولة، والتي شكلت نهج الجيوش العربية في التعامل مع تحدي ظاهرة الربيع العربي بحسب دراسة البروفيسير روبرت سبرينجبورج الباحث في معهد الشرق الأوسط، وبالتالي فإن تدخل الجيش في الاقتصاد بعد ثورة 25 يناير هو فرع عن أصل تصوره لتحدي الثورة، وهذا التصور مركب من حيث إنه يرى أن هناك أخطاء كارثية في دولة مبارك من حيث كونها دولة رخوة أدت لحدث 25 يناير، ولكن بنفس الوقت، يرى في 25 يناير أنها كانت وما زالت تشكل خطرًا وجوديًا على تصوراته للدولة المصرية والمجتمع المصري كما يجب عليه أن يكون، وننوه على أننا نشرنا بحثًا مسبقًا على نون بوست عن تصور الطغمة العسكرية الحاكمة الحالية لمفهوم الأمن القومي والعقيدة القتالية لديها وهو ما ستبني عليه تصوراتها في تحليل تمظهر تلك التصورات في تشابك الجيش مع رأس المال.
يقدم ما سبق إجمالي النماذج التفسيرية والتحليلية لتداخل الجيش المصري بالاقتصاد، ومع اتفاقنا واختلافنا معها والذي بيناه أعلاه، يبقى السؤال قائمًا: هل يمكن الاستعانة بنموذج آخر قادر على رصد وقياس وتحليل هذا التداخل بشكل أكثر شمولاً وتفسيرًا؟
بداية نوجز أقسام هذه الدراسة بأنها تناولت البنية الهيكلية للجيش المصري وخاصة البنية التي تتداخل مع الاقتصاد، والسؤال الأساسي في منهجية تحليل البيانات الكبيرة big data analyze وبناء النظم الخاصة بها بمنهجية التحليل الشبكي هو: هل الهيكلية الرسمية والقانونية لأي مؤسسة – ونعني هنا القوات المسلحة – هي نفسها المعبرة عن شبكات النفوذ والمصالح؟ أم أنه توجد شبكات فرعية غير رسمية عابرة للهيكل الرسمي تعبر عن تلك المصالح والنفوذ؟
بعد مرحلة جمع البيانات وتنقيتها وتصفيتها، وجدنا أنه للتعبير عن شبكات السيطرة التي يمارسها الجيش على القطاعات الاقتصادية ومن ثم تقاطعها مع رجال الأعمال ورأس المال، فإنه يلزم تحليل شبكات القطاعات الآتية:
قطاع الصحة وقطاع الصناعة وقطاع السياحة وقطاع الاتصالات وقطاع الطاقة (تحديدًا في ثلاثة مستويات وهي البترول والغاز والبتروكيماويات واستيراد الفحم) وقطاع التعدين وقطاع الاستثمار وقطاع الغذاء والنقل والشحن البحري والاستيراد والتصدير وما يطلق عليه بالمشاريع القومية، وقد ضيقنا دائرة البحث لمشروعي حفر قناة السويس الجديدة ومشروع تنمية محور قناة السويس وما يرتبط بها مثل قطاع مواد البناء، كما تضمن ذلك نظرة عامة على التفاوض على قرض صندوق النقد الدولي وخطة تحرير سعر الصرف.
هذا على المستوى الأفقي، أما على المستوى الرأسي، فقد اهتممنا بإجابة سؤال: ما هي نخبة رجال الأعمال الحاليين؟ وبالتالي بحثنا عن تكوين شبكات رجال الأعمال المرتبطة بأربع دوائر تحديدًا وهي:
مجلس الأعمال المصري الأمريكي والغرفة التجارية المصرية الأمريكية والمركز المصري للدراسات الاقتصادية واتفاقية الكويز.
وننوه هنا على أن بحثنا لا يتعرض بشكل أساسي لشبكات رجال الأعمال البينية، وإنما عرضنا منها ما هو متقاطع مع الجيش وما يوضح لنا دور الجيش في إدارة تناقضاتهم، إن وجد هذا الدور.
وكانت النتائج التي خرجنا بها من هذا البحث وبالتالي تمثل نموذجنا التفسيري لتداخل الجيش المصري بالاقتصاد المدني وتحديدًا تداخله مع رأس المال هي كالآتي:
1. كانت القيادة السياسية منذ ما بعد هزيمة 67 ثم لحظة صعود أنور السادات وصراعه مع “مراكز القوى” ثم إعادة التأسيس بعد حرب 73 وحتى تلك اللحظة فيما بعد الثلاثين من يونيو حريصة على إعادة صياغة التعبير القانوني عن تشكيل القوات المسلحة بحيث يحدث توازن قوى بين الأركان والتكتلات داخل الجيش، وبالتالي فالصياغة القانونية الرسمية لهيكلية الجيش هي التي تعبر بشكل كبير فعلاً عن تداخل قطاعات الجيش في الاقتصاد المدني وبالتالي أيضًا فكل القوانين التي استحدثت في عهد السيسي تأتي بهذا السياق التاريخي. وهو ما دللنا عليه في الحلقات مثلاً بالقانون الذي يتيح لهيئات الجيش المختلفة إنشاء شركات إما منفردة أو بالشراكة مع جهات قطاع عام أو خاص، وكان أول تطبيق له في تكوين الهيئة الهندسية لثلاث شركات وهو ما اصطلحنا عليه بتوصيفه “شركة عسكرية” لتمييزها عن شركات القطاع العام والخاص، فهذا القانون وهذا التطبيق المباشر له يمكن تفسيره أنه لموازنة تدخل جهاز مشروعات الخدمة الوطنية بالاقتصاد المدني، وبالمثل كذلك استحداث الهيئة القومية للإنتاج الحربي التي تشرف على أدوار وزارة الإنتاج الحربي بالاقتصاد المدني وشمل تكوينها تمثيل متوازن للتكتلات داخل الجيش، وهذا يمكن تفسيره عمليًا بقدرة وزارة الإنتاج الحربي على التصنيع ودخول قطاع التصنيع المدني، وبالتالي يتوجب مراعاة توزيع “ريع” هذا التصنيع بشكل يعبر عن أوزان التكتلات داخل الجيش.
الخلاصة التي نستنتجها هنا أن العقل المحرك للجيش المصري لديه وعي فعلي بإمكانية ما سماه يزيد الصايغ “التنافسية العسكرية البينية” وبالتالي هو يحرص كل الحرص على وجود صياغة قانونية تمثل الأوزان النسبية داخل الجيش – اقترحنا مقياس لتلك الأوزان من 1 إلى 5 في تحليلنا الشبكي وسنشرحه لاحقًا – حتى تمنع أو تحوكم هذا التنافس من الخروج عن السيطرة وتهديد النظام الحاكم الحالي ككل.
نود التوضيح إلى أن هذا لا ينفي وجود تلك التنافسية العسكرية التي تحدث عنها يزيد الصايغ وإنما ما ينفيه هو كون تلك التنافسية خارجة عن السيطرة أو تمثل تهديدًا حقيقيًا للنظام، وللتدليل على مصداقية فرضيتنا، كان هذا سبب تناولنا بايجاز لتلك التنافسية في قطاع التعدين والمحاجر، وما ينتج عنها من تنافس في مناصب الإدارة المحلية، ومن خلال هذا النموذج، يتبين لنا مصداق أن التنافسية البينية داخل الجيش ليست خارجة عن السيطرة ولا تستدعي تكوين شبكات غير رسمية لأن ما تم صياغته من قوانين يجعل تلك الشبكات رسمية!
2. كانت خطوتنا التالية هي تناول التنافس داخل قطاع الدفاع والأمن، أي المخابرات العامة والجيش والداخلية وهو ما يتم التعبير عنه بالمصطلح الشهير “ملوك الطوائف”، حيث يوجد بالفعل تنافس حقيقي تتصاعد وتيرته أحيانًا حتى العلن وتنخفض وتيرته أحيانًا أخرى، وهذا التنافس ضار لأنه يكون “مافيات” داخل كل قطاع من القطاعات التي تناولناها، ويكون المتضرر من هذا التطاحن هو عامة الناس في مصر، وتلك المافيات نمط تكونها عمومًا هو وفق المعادلة التالية: جهاز أمني أو سيادي + رجل أعمال + مسؤول حكومي في القطاع + جهاز إعلامي، ولعل أبرز مثال على هذا هو أزمة السكر الحالية، فنحن في تناولنا لقطاع الغذاء ذكرنا وجود مافيتين للغذاء وتحديدًا القمح والسكر والمواد التموينية، واحدة مكونة من المخابرات العامة وأخرى مكونة من الجيش، فتلك الأزمة هي حدث ضمن سلسلة أحداث لعلها بدأت مع أزمة وزير التموين السابق محمود حفني ثم تعيين لواء من الجيش مباشرة كوزير تموين حتى يكون بموقع مواجهة مافيا المخابرات العامة ومن ثم تسلسل الأحداث أنتج تلك الأزمة وستعقبها أزمات مشابهة.
ولكن، تلك ليست الصورة كاملة، فبعيدًا عن موضوع بحثنا، نجد الآن مثلاً أن من يتولى بشكل مباشر إدارة العلاقات المصرية الأمريكية هو جهاز المخابرات العامة بعد أن كان الجيش يتولاها بشكل مباشر عقب أحداث ثلاثين يونيو إلى منتصف 2015 عبر مساعد وزير الدفاع للشؤون الخارجية محمد الكشكي، والذي كان قبل هذا الملحق العسكري المصري في واشنطن لفترة طويلة، وبقية الصورة تتضح عندما شرعنا بتكوين الشبكة داخل مجلس الأعمال المصري الأمريكي حيث وجدنا أن رجل مثل المهندس عمرو بدر الدين هو مسؤول إدارة علاقة الدولة وعلاقة السيسي شخصيا بأميركا وتكوين لوبي ضغط وعلاقات عامة مع واشنطن سواء مع أعضاء مجلس الشيوخ أو إعلاميين أو رجال أعمال أمريكيين، وعلى الرغم من إمكانية وصف بدر الدين بأنه “رجل المخابرات العامة”، ولكن فضل السيسي الاستعانة برجل المخابرات العامة لكي يزيح أشخاص مثل شفيق جبر وصلاح دياب عن إدارة العلاقة مع أمريكا.
بالتالي هذا النموذج وغيره من النماذج الأخرى التي تناولناها تدلل على وعي عبد الفتاح السيسي بتهديد التنافسية داخل قطاع الدفاع والأمن على استقرار نظام حكمه، فما نستنتجه هنا أن بعد مرحلة التوتر في الشهور التالية لأحداث ثلاثين يونيو، والتي أعقبها مباشرة إقالة السيسي أو للدقة عدلي منصور لنحو خمسين مسؤولاً كبيرًا بجهاز المخابرات العامة، فقد استطاع السيسي أن يُخضع جهاز المخابرات العامة – والداخلية بشكل أسهل – لمنظومة حكمه الجديدة.
بالتأكيد يختلف هذا التنافس عن التنافس داخل تكتلات الجيش بكونه عالي المخاطر وينتج أزمات عامة مثل أزمة السكر الحالية، ولكن الظاهر لنا أن جميع مكونات قطاع الدفاع والأمن واعية لدرس 25 يناير ولديها توافق على أن تنافسيتها لن تسمح بحادث مثل 25 يناير يهدد النظام برمته، وبالتالي نعتقد أن هذا التصور مهم لفهم أحداث مثل 11/11، فإذا صح وجود أجهزة في قطاع الدفاع والأمن تدعم وتدبر تلك الأحداث، فالذي يتبدى لنا من التحليل أن هذا لصالح تحسين مواقعها وتنافسيتها داخل النظام الحاكم وليس لهدم هذا النظام أو إزاحة عبد الفتاح السيسي، بل إذا أدى مثل هذا الحادث وغيره لمثل تلك الإزاحة، فسيكون السؤال الأهم والأصعب هو لماذا لم تنجح تدابير السيسي في إيجاد مصلحة عليا وشبكة مصالح ونفوذ تجمع الأجهزة المكونة لقطاع الدفاع والأمن تمنعها من السعي لإزاحته؟
إن النمط الذي نعتقد تكونه من تلك الظواهر مفاده أن السيسي، ومن ورائه الجيش، لا يطمح لأن يحل مكان طغمة جمال مبارك، وبنفس الوقت لا يطمح للتغول وانتزاع أدوارهم، إنما يطمح إلى إعادة تنظيمهم حتى يخضعوا لسلطته
3. انتقلنا في الخطوة التالية إلى بحث شبكة رجال الأعمال والجيش بعد أن بحثنا في رجال الأعمال المرتبطين بجهاز أمني في المستوى السابق، فكان التقسيم الأول إلى رجال أعمال قبلوا الإذعان والخضوع للسلطة المستجدة وكونوا جدولاً خاصًا بهم، ورجال أعمال يرون أن رؤوس أموالهم بحجم الدولة المصرية ككل أو ربما أكبر – وهذا صحيح نوعا ما! -، ومن ثم وجدنا أن النوع الثاني يجنح الجيش للتعامل معه بشكل مزدوج، مما يؤكد صحة كلام الباحث عمرو عدلي وغيره من المتبنيين لتلك الفرضية (راجع النموذج الخامس).
حيث وجدنا نمطًا يوضح أن الجيش بالفعل أشرك رأس المال الكبير فيما أسماه مشاريعه القومية في محور السويس وسيناء، وهذا يجعل تصريح ساويرس المشار إليه أعلاه صحيحًا بما أن مجموعة أوراسكوم كانت بالفعل وما زالت أحد شركاء الجيش الرئيسين، ولكن مجددًا، تبقى الصورة ناقصة لأننا وجدنا أن الجيش ينتهج سياسة منظمة “لتقزيم” رأس المال الكبير عن طريق تعطيل مشاريعه الحيوية، وعلى وجه ثالث فقد رصدنا أن الجيش يعمد إلى البدء بتكوين نخبته الخاصة، يمكن تشبيه الأمر بتكوين السادات لنخبة رجال أعمال الانفتاح بالسبعينيات والتي تصادم معها الجيش بعد ثلاثين عامًا في 25 يناير، ورصدنا نموذجين لمثل هذا وهما أحمد العبد الذي يشارك الجيش كذلك بمشاريعه القومية وأحمد معتز السعيد وكليهما يمثل رأس مال متوسط أو حتى صغير!
بالتالي، وبحكم الاعتبارات التي ذكرناها في النموذج التفسيري للتعامل مع رأس المال الكبير، فإن النمط الذي وجدناه يؤكد بالفعل أن الجيش لا يصادم رأس المال الكبير ولكنه من جانب آخر يعمل على تقزيمه حتى لا يبقى رأس مال كبير، ومن وجه آخر، يكون الجيش نخبته الخاصة التي يمكن بعد فترة من الزمن أن تنافس رأس المال الكبير هذا.
4. أما بالنسبة للقسم الأول، وهم رجال الأعمال الذين قبلوا الإذعان، فقد كان إذعانهم عبر وسائل الجباية المباشرة إما بالتبرع لصندوق تحيا مصر أو القبول بأخذ الجيش حصة من أعمالهم مثل نموذج إبراهيم كامل وشراكته مع مولر ميرسك التي نشرحها في القطاع البحري، أو التنازل عن جزء من أعمالهم مثلما حدث في التسوية مع حسين سالم ومع إبراهيم كامل أيضًا بعد تنازله عن استثماراته بالضبعة، عندما يحدث هذا النوع من الإذعان، فإن الجيش لا يمنعهم استئناف أعمالهم التي كانوا عليها بعهد مبارك، وهذا ينبع مجددًا من احتياج الجيش لهم فيما لا يقدر عليه، فنموذج تصالح الدولة مع حسين سالم يؤكد ذلك لأن الأخير ولفترة طويلة كان مسؤولاً عن مقاولات وسمسرة سلاح المعونة الأمريكية، وهذا التصالح يأتي في وقت يعاد فيه تنظيم المعونة، وستواجه مصر مشكلات مع الإدارة الأمريكية في تسهيل طرق دفع تكلفة المعونة العسكرية، وبالتالي حتمًا سيحتاج الجيش إلى أدوار مثل التي كان يؤديها صلاح سالم مجددًا.
في قطاع الصحة، رصدنا أن وزارة الإنتاج الحربي دخلت في شراكة مع وزارة الصحة ورجل أعمال هو حسن عباس حلمي في بعض المجالات مثل معالجة الأورام السرطانية وهذا لمواجهة سيطرة المخابرات العامة على قطاع الصحة كما سنبين، وهذا بدوره يدحض النموذج التفسيري القائل بأن المسألة هي تأدية لأدوار وظيفية بحتة.
ولكن نكرر بأن تلك هي ليست الصورة الكاملة، فمن ناحية، عمد السيسي على إعادة تنظيم نخبة رجال الأعمال في مجلس الأعمال المصري الأمريكي والمركز المصري للدراسات الاقتصادية والتي نعتقد أنها تمثل بديل لجنة سياسات الحزب الوطني، واتخذ مستشارًا اقتصاديًا له تدير سياسته الاقتصادية من هذا المركز وهي الدكتورة عبلة عبد اللطيف وكل برنامج الإصلاح الاقتصادي هو من تطوير مجموعة “لازارد” والتي تمثلها في مجلس الأعمال المصري الأمريكي دينا الخياط، وكان من أشار على السيسي بأن يكون هؤلاء المشرفون على برنامج الإصلاح الاقتصادي هو سلطان الجابر، وزير الدولة الإماراتية والمسؤول الأول في دولة الإمارات عن التعامل مع النظام المصري.
من ناحية أخرى، فالنمط الذي شاهدنا تكونه بين رجال الأعمال الذين أحلهم السيسي في القطاعات التي بحثناها، نجد احتواءه لتنافس بيني لدى رجال الأعمال، كنموذج التنافس بين تحالف علاء عرفة وخالد أبو بكر في قطاع الغاز مع جلال الزوربا ومحمد القاسم الذين صعدوا بعبلة عبد اللطيف لصناعة السياسات المالية والاقتصادية والنقدية للسيسي، بعد أن كانت مستشارة للزوربا، وعبلة نفسها مرشحة الآن لأن يتم استبعادها أو الاستغناء عنها.
إن النمط الذي نعتقد تكونه من تلك الظواهر مفاده أن السيسي، ومن ورائه الجيش، لا يطمح لأن يحل مكان طغمة جمال مبارك، وبنفس الوقت لا يطمح للتغول وانتزاع أدوارهم، إنما يطمح إلى إعادة تنظيمهم حتى يخضعوا لسلطته وبنفس الوقت الاعتماد على متنافسين أو رجال أعمال بينهم تناقض حتى يسيطر ويدير تناقضاتهم.
5. أما بالنسبة لإسقاطات تشابكات السيسي ومن ورائه الجيش مع رأس المال على مستوى الاقتصاد الدولي، فيمكننا استخلاص عدة نتائج، الأولى، أنه بعكس النظرة الشائعة على السيطرة الأمريكية على الاقتصاد المصري، فبالعكس من هذا وجدنا مثلاً أن وزارة التعاون الدولي تعرقل مشاريع هيئة المساعدات الأمريكية بسيناء وأن ارتباطات الاقتصاد العسكري بإيطاليا على سبيل المثال وكذلك حلفاء الجيش من رجال الأعمال، هي أكبر من ارتباطاته المباشرة مع أمريكا، وإنما السيطرة الأمريكية تكون من خلال مجلس الأعمال المصري الأمريكي الذي يرأسه جون كريستمان المدير الإقليمي لشركة أباتشي، والذي كان أكبر داعم لحصول مصر على قرض صندوق النقد، فأمريكا لا تسيطر مباشرة، وذلك لكون حصتها بالسوق المصري قليلة فعلاً، مقارنة بالخليج أو الصين أو أوروبا، وإنما تسيطر عن طريق رجال الأعمال المرتبطين بها من خلال مجلس الأعمال المصري الأمريكي هم الآن المتنفذين الرئيسيين بالسوق المصري إما بشكل مستقل أو بالشراكة مع الجيش، وهذا يشرح وجه آخر لتشابك رجال الأعمال مع الجيش.
6. والنقطة الأخرى هي ملاحظة وجود زحف كبير بل ومستفز أحيانًا لصالح الخليج وخاصة الإمارات والسعودية على كثير من القطاعات التي شملها البحث وأنها تستحوذ على أصول مملوكة للدولة يتم الآن تحريرها بشكل لم يجر بخطة الخصخصة في عهد مبارك، بل وشمل إزاحة الجيش لمسؤولين حكوميين مرتبطين به كنموذج حسن فهمي الذي استدللنا به وهو رئيس هيئة الاستثمار السابق وأتى بدلاً منه بمحامٍ من شركة محاماة متخصصة بعمليات الاستحواذ والدمج لصالح الشركات الإماراتية، كما أجرى الجيش تعديلاً وزاريًا على وزارة المالية بحيث أتى بوزير يتولى طرح الأصول المملوكة للدولة بالبورصات العالمية، والمقصود هنا تحديدًا بورصة دبي! وسيكون هذا الأمر – أي تملك أصول الدولة التي سيتم تحريرها – لصالح شركات خليجية وشركاء محليين لهم، مثل عائلة ساويرس وأولاد محمد حسنين هيكل، بل وسمح لتحالف سعودي إماراتي أن ينافس في مشروع تنمية محور قناة السويس مع شركاء تقليديين له مثل مولر ميرسك، وكما نوهنا، فإننا نعتقد أن هذا نابع من رؤية الجيش لأمنه القومي قبل ارتباطه المصلحي، فصحيح أن الدعم المالي الخليجي هو سند النظام الأساسي لمنع انهيار اقتصادي، ولكن المسألة بالأساس متعلقة بأن رؤية النظام للأمن القومي المصري مرتبطة أساسًا بالخليج، وليست المصلحة هي العامل الأساسي، فكما رأينا عندما حدثت أزمة مع السعودية وتم وقف الدعم البترولي تم الاستعاضة بنفط ليبي يسيطر عليه خليفة حفتر رغم أن باسل الباز مثلاً الذي كان يستخدم البترول الليبي قبل الثورة الليبية مرتبط بحلفاء إماراتيين كذلك، وقد بينا ذلك في تحليل قطاع البتروكيماويات.
7. وأخيرًا فمن منطلق اقتناعنا بأن النموذج التفسيري المنطلق من رؤية الجيش للدولة وأدواره فيها هو الأغلب من حيث الصحة، فهذا النموذج يفسر ظاهرتان رصدناهما وهما:
♦ ظاهرة المشاريع التي توصف بالقومية والضخمة على الرغم من عدم التحقق أو ثبوت جدواها، فبما أن الجيش يرى نفسه النواة الصلبة للمجتمع، فبالتالي يجنح تفكيره دائمًا لما يوصف بمشاريع قومية أو بمعنى آخر مشاريع ضخمة يكون هو مركزها والمشرف عليها، ويجتذب إليها كل قطاعات وشرائح المجتمع على المستوى الاقتصادي، فرغم التشكك مثلاً من جدوى مشروع مثل حفر قناة السويس الجديدة، فإننا نعتقد أن العقل المحرك للجيش يعلم جيدًا عدم تلك الجدوى، ولكن الذي حدث أن هذا المشروع عمل به تقريبًا كل قطاع الحفر والمقاولات بمصر من أكبر شركات المقاولات المصرية مثل “المقاولون العرب” و”حسن علام” إلى من أتى من شمال سيناء بجرار يملكه ليساعد بالحفر! فبالتالي مكن هذا الجيش من توزيع ريع الغنائم على شركات مقاولات من الباطن محسوبة أو مرتبطة به بشكل أو بآخر، وفي نفس الوقت استطاع التشبيك مع رأس المال الكبير كما نوهنا، كما استطاع بشكل آني من توسيع قاعدة الولاء له من جميع من شاركوا بهذا المشروع، على الرغم من أن عدم وجود عائد حقيقي للمشروع هو أحد مسببات الأزمة الاقتصادية الحالية! ولكن في النهاية، تحقق للجيش ما أراد وهو أن يعمل الجميع تحت إشراف الهيئة الهندسية بالقوات المسلحة، هكذا بكل بساطة! فبعبارة أخرى، السيسي لا يريد أن يكون له حزب حاكم أو تنظيم سياسي شمولي على غرار الحزب الوطني أو الاتحاد الاشتراكي، وإنما أن يكون الجيش هو عين تنظيمه السياسي!
♦ نختم بأن الظاهرة الثانية أن تحديدًا المهدد الرئيسي الذي رصدناه لنظام عبد الفتاح السيسي من الأزمة الاقتصادية الراهنة، أنه من ناحية لديه التزامات تجاه داعميه الإقليميين وخاصة الإمارات والسعودية، ويحاججهم بأنه يمضي بخطة الإصلاح الاقتصادي، كما لم يستطع لا السادات ولا مبارك تنفيذها، ولكنه يأتيه الرد بأن هذا ليس كافٍ وغير مطلوب، وإنما المطلوب خطوات أكثر إصلاحًا وحسمًا وأن اقتصاد الجيش وعدم الرجوع لصيغة “الجيش يسيطر ولا يحكم” وشخص عبد الفتاح السيسي نفسه هو سبب المشكلة والمعوق تجاه خطوات أكثر حسمًا وهذا إذا استجاب له نظام السيسي سيجعل الجيش يفقد السيطرة على قاعدة ولائه الصلبة التي يكونها، ولهذا عندما بحثنا في قطاع النقل البحري والشحن والتحكم بحركة الاستيراد والتصدير لم نجد أن هناك إشكالية أو تنافس هيمنة الجيش عليها، ولما كانت تلك القطاعات تمثل قطاعات سيطرة، أي أن الجيش يسيطر فعليًا من خلالها على كل ما يدخل ويخرج من مصر وليس مجرد المنافسة بالاقتصاد العيني، فهذا يعزز فرضية أن المطلوب الأصلي ليس مجرد الإصلاح الاقتصادي، وإنما أن الجيش يسيطر ولا يحكم.
لقراءة موضوعات ملف جنرالات الذهب كاملة اضغط هنا