ارتأت هيئة الحقيقة والكرامة في تونس، تخصيص جلسة علنية من جلساتها التي دأبت على عقدها منذ ديسمبر الماضي، لإحياء أحداث 26 يناير 1978 في تونس، أو ما يعرف بـ “الخميس الأسود”، إحدى الفترات المظلمة من حكم الرئيس السابق الحبيب بورقيبة، لكشف حقائق وعرض شهادات عن هذه الأحداث الدامية بين الاتحاد العام التونسي للشغل والسلطة.
إحياء الذاكرة الشعبية والنقابية
جلسة علنية خصّصت، مساء أمس، للاستماع إلى قيادات من الاتحاد العام التونسي للشغل ونقابيين عاشوا تلك الفترة الصعبة من تاريخ تونس، وتعرّضوا إلى انتهاكات حقوق الإنسان. واختارت الهيئة هذا التاريخ لرمزيته الكبيرة لردّ الاعتبار لضحايا هذه الانتهاكات وكشف الحقائق للتونسيين واحياء الذاكرة الشعبية والنقابية.
هذه “الانتهاكات” هي “كل اعتداء جسيم أو ممنهج على حقّ من حقوق الانسان صادر عن أجهزة الدولة أو مجموعات أو أفراد تصرفوا باسمها أو تحت حمايتها
وتتمثل مهام هيئة الحقيقة والكرامة التي أحدثت بموجب “قانون العدالة الانتقالية،” المصادق عليه في البرلمان التونسي في 24 ديسمبر 2013في “كشف حقيقة انتهاكات حقوق الانسان” الحاصلة في تونس منذ الاول من يوليو 1955(بعد نحو شهر من حصول تونس على الحكم الذاتي من الاستعمار الفرنسي) والى 31 ديسمبر 2013 و”مساءلة ومحاسبة المسؤولين عن الانتهاكات وتعويض الضحايا ورد الاعتبار لهم”.
وهذه “الانتهاكات” هي “كل اعتداء جسيم أو ممنهج على حقّ من حقوق الانسان صادر عن أجهزة الدولة أو مجموعات أو أفراد تصرفوا باسمها أو تحت حمايتها”، وهي أيضا “كل اعتداء جسيم وممنهج على حقّ من حقوق الانسان تقوم به مجموعات منظمة، مثل القتل العمد والاغتصاب وأي شكل من أشكال العنف الجنسي والتعذيب والاختفاء القسري والاعدام دون توفر ضمانات المحاكمات العادلة”.
رغم مرور 39 سنة على هذه الأحداث، فإن الفصول الكاملة للرواية مازالت مَقبورة في الدفاتر السّرية لنظام بورقيبة
وتسعى هيئة الحقيقة والكرامة من خلال هذه الجلسة العلنية إلى تسليط الضوء على هذه الأحداث الدامية التي شهدتها تونس والانتهاكات والتجاوزات التي رافقتها، حيث يتّهم نقابيين نظام الرئيس الأسبق الحبيب بورقيبة باستهداف مقرات اتحاد الشغل، واضطهاد قياداته والزج بهم في السجون دون محاكمات عادلة، فرغم مرور 39 سنة على هذه الأحداث، فإن الفصول الكاملة للرواية مازالت مَقبورة في الدفاتر السّرية لنظام بورقيبة.
وانطلقت أولى جلسات الاستماع العلنية للهيئة، يوم 17 ديسمبر2016 الذي يتزامن مع ذكرى إحراق البائع المتجول محمد بوعزيزي نفسه أمام مقر ولاية سيدي بوزيد (وسط غرب) احتجاجا على مصادرة عربة الفاكهة التي كان يعتاش منها وتأجيجه ثورة في تونس.
تهدف هيئة الحقيقة إلى كشف حقيقة الانتهاكات
ومن المنتظر أن تتواصل جلسات الاستماع لضحايا القمع والاستبداد لمدة سنتين، وبدأت العملية في مرحلة أولى بالاستماع للضحايا في كنف السرّية التامة مع حفظ بياناتهم والتكتم على المعلومات التي تقدمها كل ضحية، بحسب ما يفرضه القانون، أعقبتها في مرحلة ثانية جلسات علنية مفتوحة لوسائل الإعلام والرأي العام.
ويكفل القانون لهيئة الحقيقة التي تلقت 12ألفا و700 ملف شكاية تتعلق بانتهاكات تم تسجيلها بين التاريخية يوليو 1955 و31 ديسمبر2013، تنظيم جلسات استماع مع المتضررين من أجل تلقي إفادة الضحية والتحاور معه والإجابة على بعض الأسئلة حول الانتهاكات التي تعرض لها وأشكالها.
ماذا حدث في 26 يناير 1978؟
تزامنت جلسة هيئة الحقيقة والكرامة، أمس، مع ذكرى أحداث “الخميس الأسود” المفصلية في تاريخ تونس، حيث عرفت صدامات بين الاتحاد العام التونسي للشغل (المركزية النقابية) والسلطة، بعد أن أعلنت قيادة “المنظمة الشغيلة” رفضها للسياسة التي تتبعها الحكومة، ممّا أدى إلى اندلاع مواجهات واعتقالات ووفاة العديد تحت التعذيب.
وتعود هذه الأحداث إلى السادس والعشرين من شهر يناير سنة 1978، حيث قرّر الاتحاد العام التونسي الشغل الإضراب العام في البلاد، نتيجة عدم استجابت النظام لمطالبه، حيث عمّت تونس مظاهرات تحمل مطالب سياسية ونقابية عديدة، واجهها نظام بورقيبة بالخيار الأمني، فكانت بداية الصدام بين الطبقة الشّغيلة التي يقودها اتحاد الشغل ونظام الحبيب بورقيبة، وشهدت تونس يومها نزول الجيش لأول مرة إلى الشوارع وانتشاره في العاصمة.
تشير مصادر نقابية إلى سقوط أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى في العاصمة وبقية المدن التونسية خلال هذه الأحداث
وتؤكّد التحويرات الأمنية التي أجراها نظام بورقيبة قبل أحداث “الخميس الأسود”، نيّة النظام قمع الاتحاد والمسيرات التي دعى إليها تنديدا بسياسات بورقيبة والحزب الاشتراكي الدستوري (الحزب الذي أصبح التجمّع الدستوري الديمقراطي)، حيث تمت إقالة وزير الداخلية، آنذاك، الطاهر بلخوجة المعروف بميله للحوار وعدم انتهاجه الحل الأمني وتعويضه بوزير الدفاع عبد الله فرحات المعروف بالتصلب.
اعلام النظام البورقيبي يتهم اتحاد الشغل بالفوضى والعمل على قلب النظام
وتشير مصادر نقابية إلى سقوط أكثر من 400 قتيل وآلاف الجرحى في العاصمة وبقية المدن التونسية خلال هذه الأحداث، فيما أقرّت السلطة آنذاك بسقوط 52 قتيل و365 جريح فقط. كما تمت إحالة 30 من القيادات النقابية على محكمة أمن الدولة وهم أعضاء المكتب التنفيذي والكتاب العامين للاتحادات الجهوية والكتاب العامين للجامعات والنقابات العامة والأساسية، في حين تمت مقاضاة المئات من النقابيين الآخرين أمام المحاكم العادية، حسب مؤرخيّن.
زاد الحل الأمني في تأجيج الأزمة بين الاتحاد والنظام البورقيبي
ويؤكّد عديد التونسيين، أن أحداث “الخميس الأسود”، كانت نتيجة تراكمات عديدة منذ مؤتمر الحزب الحاكم، نوفمبر1964، حين قرّر الحزب إحداث شعب دستورية مهنية (هياكل) تنافس شعب الاتحاد المنتشرة في كامل أنحاء البلاد، واتّهام الأمين العام للاتحاد الحبيب عاشور بالتوافق أو التواطؤ مع الزعيم الليبي معمر القذافي بعد زيارته ليبيا في فترة شهدت تأزما للعلاقات بين تونس وليبيا على خلفية فشل الوحدة الليبية التونسية.
وخلال تلك الفترة حاولت الحكومة التونسية بقيادة الهادي نويرة ترويض اتحاد الشغل وقيادته، وجلبه لصفّها، ونتيجة فشلها في ذلك سلميا، فقد التجأت إلى الحلّ الأمني الذي زاد في تأجيج الأزمة بين الاتحاد والنظام البورقيبي.