أصبح تركيز روسيا الآن على مسودة الدستور السوري التي سلمتها لوفد المعارضة في أستانة لها أولوية كبيرة أكثر من أي شيء آخر، شيء يدعو للتساؤل ما سبب هذا الإصرار الروسي! الذي أدى لإعلان وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف اليوم الجمعة تأجيل المفاوضات السورية في جنيف والتي كانت مقررة في الثامن من شباط/فبراير المقبل إلى نهايته، لحين مناقشة هذه المسودة مع المعارضة السورية، علمًا أن روسيا سبق أن أعلنت، في مايو/أيار الماضي من العام الماضي أنها تعد لمسودة دستور لسوريا انطلاقاً من نتائج مشاوراتها مع أطراف النزاع السوري ودول المنطقة.
المعارضة ترفض لقاء لافروف في موسكو
على طاولة مستطيلة الشكل جلس لافروف قبالة معارضين سوريين محسوبين بشكل أو بآخر على موسكو حيث حضر عرّاب منصة موسكو المدعوم من قبل روسيا ونائب رئيس الوزراء السوري سابقًا قدري جميل، والمنسق العام لهيئة التنسيق الوطنية حسن عبد العظيم، وإليان مسعد من منصة حميميم، وعرّابة منصة أستانة رندة قسيس، ورئيس تيار بناء الدولة السورية لؤي حسين.
وبدون ذكر الأسباب التي دعت موسكو لتأجيل مفاوضات جنيف قال لافروف إنه ينبغي التركيز في مباحثات جنيف على بحث مشروع الدستور السوري، واعتبره أولوية للعمل في الوقت الحالي.
مسودة الدستور السوري تتضمن توسيع صلاحيات البرلمان والاعتراف بالحكم الذاتي للأكراد
علمًا أن وفد المعارضة رفضت تسلمها مسودة دستور مقدمة من الجانب الروسي في أستانة، مشيرة إلى محاولة موسكو حرف المؤتمر آنذاك عن هدفه الحقيقي وهو تثبيت وقف إطلاق النار والذي لم ينجز حتى اليوم في ظل الخروقات التي يقم بها نظاط الأسد وحلفاءه.
غاب عن الاجتماع الذي دعا إليه لافروف الذي يهدف لتقاسم الانطباعات حول محادثات أستانة، معارضون سياسيون تم توجيه دعوات شخصية لهم، مثل عبد الحكيم بشار نائب رئيس الائتلاف الحالي، ورئيس الائتلاف السابق هادي البحرة ومعارضين آخرين مثل معاذ الخطيب وهيثم مناع وأحمد جربا اعتذروا جميعهم بسبب تلقيهم دعوات شخصية ولعدم وضوح الهدف من الاجتماع ومقاصد عقده، كما اعتذر أيضًا عن الحضور لنفس السبب رئيسي الجسمين المعارضين السوريين الهيئة العليا للمفاوضات ممثلا برياض حجاب والائتلاف السوري ممثلا بأنس العبدة. وكان لافروف دعا ما مجمله 25 معارضًا سوريًا إلى اللقاء في موسكو إلا أن فرانس برس أكدت أن الذين حضروا في اللقاء بلغ عددهم 8 أشخاص فقط.
اجتماع لافروف مع شخصيات من المعارضة السورية
لافروف لم يمرر عدم حضور الشخصيات المدعوة لموسكو بسلام، حيث اتهم مجموعة الرياض (هيئة المفاوضات العليا ورئيسها رياض حجاب) بالمماطلة بعد عدم تلبيتها دعوة المشاركة في لقاء موسكو اليوم الجمعة، وقال أن المجموعة رفضت القدوم لرغبتها في لقاء منفرد دون أطراف المعارضة الأخرى وأضاف أن الحجج التي تقدمها المجموعة غير مقبولة والشروط المسبقة التي تطرحها لا تتوافق مع قرار مجلس الأمن بشأن سوريا 2254.
وقال لافروف في اللقاء أنه بالاستناد إلى خبرتنا منذ أكثر من خمس سنوات نحن واثقون من أننا إذا لم نقدم مقترحات ملموسة على طاولة المفاوضات فلن نبدأ أبدًا العمل فعليًا، وتابع لافروف قوله أن على كل السوريين أن يكونوا على اطلاع على المشروع قبل اللقاء في جنيف.
تغيير موعد اجتماع جنيف من قبل روسيا بدون مشاورة الأمم المتحدة أو الأطراف المعنية بالأزمة كإيران وتركيا يشير لتغول روسيا في تدخلها في سوريا، واتخاذها قرارات كبيرة في ظل عدم تأكيد أممي لتأجيل اجتماع جنيف وغياب الولايات المتحدة عن الساحة السياسية وعدم مشاورة تركيا وإيران بهذا، ويشير من جهة أخرى، إلى عدم اعترف الجانب الروسي حتى الآن بالمعارضة السورية كطرف مفاوض فاستقدم المعارضة الداخلية ومنصات معارضة لا تخرج عن سياق ما تقوله هي، وشجب أطراف المعارضة الأخرى التي تغيبت عن الاجتماع.
الدستور السوري المقترح من روسيا
لإنها “دول احتلال” في سوريا ولإنها أطبقت على نظام دمشق بات من الطبيعي أن يعكف خبراء روس على كتابة دستور سوريا المستقبلي ويأمل من المعارضة أن توافق عليه بدون إبداء ملاحظات أو استياء. إصرار موسكو على كتابة الدستور السوري وتصديره للمعارضة والنظام للموافقة عليه قبل الذهاب لجنيف يظهر مدى أهمية الموضوع بالنسبة لها، فالأمر يتعلق بمستقبل بأكمله تسعى روسيا أن تمسك بخيوط الحكم فيه من خلال الدستور نفسه، وألا تسمح لأحد وبالأخص إيران وتركيا أن يكون لها أي دور كبير في مستقبل سوريا.
فمن قال لروسيا أن النظام البرلماني هو الأفضل لسوريا ما بعد الأسد! وأن نزع صلاحيات من الرئيس ومنحها لرئاسة مجلس الوزراء والبرلمان سيحقق الاستقرار والتنمية المنشودة التي يتشدها الشعب السوري بعد انتهاء الأزمة!.
بينما الأصح أن تجلس لجنة من الخبراء السوريون لمناقشة كل ما يتعلق بالدستور بدقة وافية إيمانًا منهم أن ما سيتم كتابته بين دفتي “الدستور” سيحدد مصير ومستقبل البلاد برمتها لسنوات وربما لعقود طويلة، ومن ثم عرض ما تم التوصل له إلى الشعب من خلال وسائل معينة وعرضه على الاستفتاء الشعبي للموافقة عليه.
فيما يلي بنود لبعض نصوص البرلمان التي جاءت في المسودة:
في 24 صفحة تحتوي على 85 مادة وتفرعاتها وضع خبراء روس مسودة للدستور السوري، نشر أجزاء منها موقع سبونتيك الروسي ومن ضمن ما جاء في المسودة أنه للحفاظ على التنوع في المجتمع السوري قررت موسكو إزالة كلمة “العربية” من عبارة الجمهورية العربية السورية، وجعلها الجمهورية السورية، إرضاءًا للأكرد وإعطائهم حقوقهم، وتشير المسودة أن البرلمان سيكون لديه صلاحية إعلان الحرب وتنحية الرئيس وتعيين حاكم المصرف المركزي وإقالته من المنصب وتعيين المحكمة الدستورية، حسب المادة رقم 44 من الدستور.
وحسب البند الأول من المادة الأولى ذُكر فيها أن “الجمهورية السورية دولة مستقلة ذات سيادة وديمقراطية تعتمد على أولوية القانون ومساواة الجميع أمام القانون والتضامن الاجتماعي واحترام الحقوق والحريات ومساواة الحقوق والحريات لكافة المواطنين دون أي فرق وامتياز”، ويبين البند الثالث من المادة ذاتها إنه “بصفة التراث الوطني الذي يعزز الوحدة الوطنية يتم ضمان التنوع الثقافي للمجتمع السوري”.
ويتيح الدستور أو بالأحرى مسودة الدستور التي تحاول روسيا إقناع المعارضة بها، “إمكان تغيير الحدود الرسمية للبلاد بعد إجراء استفتاء عام”، وتتضمن المسودة أيضًا اعترفًا بالحكم الذاتي في المناطق الكردية التي يديرها الاتحاد الديمقراطي إذ جاء في البند الثاني من المادة الرابعة “تستخدم أجهزة الحكم الذاتي الثقافي الكردي ومنظماته اللغتين العربية والكردية كلغتين متساويتين”.
البرلمان سيكون لديه صلاحية إعلان الحرب وتنحية الرئيس وتعيين حاكم المصرف المركزي وإقالته من المنصب وتعيين المحكمة الدستورية
وفيما يخص القوات المسلحة والجيش فقد أشارت المادة الرابعة أن تكون القوات المسلحة وغيرها من الوحدات المسلحة تحت الرقابة من قبل المجتمع وتحمي سوريا ووحدة أراضيها ولا تستخدم كوسيلة اضطهاد للسكان السوريين ولا تتدخل في مجال المصالح السياسية ولا تلعب دورًا في عملية انتقال السلطة.
روسيا تقدم مسودة دستور تقلص فيه صلاحيات الرئيس لصالح البرلمان السوري
وفيما يخص المواد التي أشارت لمنصب رئيس الجمهورية وصلاحياته فقد نصت المادة 50 من المسودة على أنه يشترط في المرشح لمنصب رئيس الجمهورية أن يكون متمًا الأربعين من عمره، وذكرت المادة 49 أن الرئيس ينتخب لسبع سنوات وأنه لا تجوز إعادة انتخاب الشخص نفسه لمنصب رئيس الجمهورية إلا لولاية واحدة تالية فقط، أما المادة 78 فقد نصت على محاكمة رئيس الجمهورية المعزول في حالة خيانة عظمى أو جريمة كبرى أخرى.
وجاء في المادة 59 لمسودة المشروع “يحق لرئيس الجمهورية إعلان الاستفتاء العام حول المواضيع المهمة والتي تخص المصالح العليا للبلد، وتعد نتائج الاستفتاء إلزامية وتدخل حيز التنفيذ من تاريخ إعلانها من قبل رئيس الجمهورية”. ولم تشر المسودة الروسية لمشروع الدستور السوري الجديد إلى حقّ رئيس الجمهورية بحلّ المجلس النيابي، كما لم تشر إلى إمكانيته تعيين نائب رئيس له.
مسدودة الدستور الروسي تتضمن محاكمة رئيس الجمهورية في حالة الخيانة العظمى أو جريمة كبرى
نصت المسودة أيضًا على توسيع صلاحيات رئيس مجلس الوزراء الذي يمكن أن يتولى صلاحيات رئيس الجمهورية لمدة تسعين يومًا من تاريخ شغور منصب الرئيس أو إثبات عجزه عن أداء مهماته وفي حال عجز رئيس الوزراء يتولى مهمات الرئيس الجمهورية رئيس جمعية المناطق. وأبقت المسودة للرئيس تحديد الاتجاه العام ولرئيس الوزراء الهيئة التنفيذية العليا إضافة إلى تسمية رئيس مجلس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوبهم وقبول استقالتهم وإعفائهم من مناصبهم. ويكون التعيين لمناصب رئيس مجلس الوزراء والوزراء تمسكًا بالتمثيل النسبي لجميع الأطياف الطائفية والقومية لسوريا وتحجز بعض المناصب للأقليات القومية والطائفية ويحق لرئيس الجمهورية ورئيس مجلس الوزراء التشاور في هذا الخصوص مع ممثلي مجلس الشعب وجميع المناطق.
وجاء في البند الثالث من المادة السابعة لمسودة المشروع “تكون مبادىء وأحكام القانون الدولي المعترف بها ومعاهدات سوريا الدولية جزءًا لا يتجزأ من نظامه القانوني، إن كانت معاهدة دولية لسوريا تحدد قواعد أخرى مما يحددها القانون فيتم استخدام قواعد معاهدة دولية”. ويُذكر أن دمشق عمدت إلى تعديلات على المسودة فحسب ما جاء في جريدة الحياة فإن روسيا سلمت المسودة إلى النظام السوري والذي قام بتعديل مواد وحذف أخرى بما يتلاقى مع مصالحه ورؤاه.
مسودة الدستور الروسي كما هي عليه، ستكرّس تبعية سوريا الدولة والنظام لروسيا بشكل كبير، فما تم تناوله في المسودة يشير لإبراز دور البرلمان أكثر وإعطاءه صلاحية أكثر من السابق على حساب مؤسسة الرئاسة، والنظام البرلماني في ظل الظروف السورية الغنية عن التعريف؛ من العسكرة والتشتت ومسألة الأكراد وغياب الأحزاب السياسية ومسألة اللاجئين…إلخ سيكفيه تأمين ثلث معطّل لإبطال النظام السياسي والدولة بأكملها كما حصل في لبنان عندما لم يكفي النصاب في البرلمان لانتخاب رئيس للبلاد بسبب تغول حزب الله التابع لإيران في الدولة وتنفيذه أجندة إيران في البلاد، فعانى لبنان من فراغ رئاسي دام أكثر من سنة وتعطلت الحكومة والدولة برمتها، أو أن تغيب أغلبية واضحة عن البرلمان فتنشأ سلطة ضعيفة أو نظام محاصصة أو أن يتم تعطيل الحكومة من داخلها وسط إعتراض وزراء على سياسة رئيس الوزراء. فيكون اختيار هذا النظام السياسي مقصودًا من قبل روسيا لتبقي سوريا مربّطة لا حيلة لها لا تقوى على اتخاذ قرارات قومية تمس مصالح روسيا في سوريا.
مسودة الدستور الروسي ستكرس تبعية سوريا الدولة والنظام لموسكو بشكل كبير
ومن ثم فإن النظام البرلماني يشجّع على الإنقسام والمحاصصة الطائفية لأنّه سيكون محفّزًا على الصراع على الصلاحيات وتنازع السلطات المتداخلة غير المفصولة في ظل الظروف السورية المعقدة كما يشير الباحث والمحلل السياسي علي باكير في مقال له “عن مساوئ النظام البرلماني في سوريا ما بعد الأسد”
سيكون مسعى روسيا الدولة الأكبر وزنًا في تدخلها العسكري والمالي في سوريا والتي تليها إيران، أن تشكل بيئة سياسية ومناخ قانوني يكون لها أرضًا خصبة لحفظ مصالحها التي تخالف أي منطق قد يفكر فيه السوريون في مرحلة ما بعد الأسد، إذ عمدت كل من روسيا وإيران على تقاسم كعكة سوريا من خلال التوقيع على اتفاقيات اقتصادية تشمل التنازل عن العديد من الثروات الوطنية والأراضي والتي تخول كل من البلدين روسيا وإيران لفرض وجودهما وسيطرتهما على الاقتصاد والثروات لعشرات السنوات من خلال القانون والدستور.
وفي النهاية فإنه يجدر بالمعارضة السورية أن ترفض تلك المسودة المليئة بالأفخاخ والمؤامرات التي حاكتها روسيا، وأن تجلس على كتابة دستور وطني يحفظ مستقبل سوريا وكرامة السوريين، نظام سياسي يكون الأقل ضررًا والأكثر تناسبًا مع معطيات المرحلة الحالية التي تعيشها سوريا ويضمن عدم إنتاج الاستبداد من بوابة أخرى، والجدير بروسيا ابتدءًا عدم إضاعة وقت في كتابة دستور ليس لها أي علاقة فيه واستثمار ذلك الوقت في تثبيت وقف إطلاق النار في عموم سوريا الذي لم تستطع حتى الآن من ضبط نظام دمشق من الخروقات التي تتم في جبهات متعددة سواءًا من قبل الأسد أو إيران التي تحاول هي الأخرى بين الفينة والأخرى أن تعلّم على روسيا وتذكرها بأنها موجودة ولا يمكن تجاوزها.