لم يكن نموذج الدولة المركزية مركزيًا في تجميع السلطة بيد شخص واحد أو إدارة واحدة ضيقة فحسب، بل إن المركزية كانت محتاجة إلى تمركز جغرافي أيضًا، وقد تجسد ذلك في تضخم العواصم على حساب بقية المدن الصغيرة والقرى، فكأن كل الدولة هي عاصمتها، وتعتبر تونس والجزائر والقاهرة وبغداد نماذج فاضحة لاستيلاء العاصمة على البلد، استيلاء يشمل القرار السياسي والإداري والاقتصادي ويشمل خاصة القرار الثقافي ويجمع كل المنافع في مكان ضيق لعدد محدود.
والنتيجة الظاهرة حتى الآن أن نموذج الحكم المركزي يقوم بتذويب البلدان والإنسان في العواصم من أجل الضبط والتوجيه والسيطرة، فيفقر الدواخل ويقضي على المدن الموجودة ويمنع ظهور مدن أخرى، ويصبح وجود الفرد في العاصمة هو الاحتمال الوحيد للبقاء.
كل عاصمة تجمع
قوة العاصمة وحجمها قانون اجتماعي في الدولة الحديثة، وآلية التجميع والتركيز السكاني واحدة وهي أقرب إلى وسائل الفساد والإفساد منها إلى الإدارة الحديثة، فتركيز الإدارة الحديثة اقتضى تجمع السكان حولها وتجمع السكان اقتضى توسيع دوائر الخدمات المدنية التي صارت بدورها منافع تجلب سكانًا آخرين لا علاقة لهم بوظائف الحكم والتسيير لكنهم يبحثون عن الرفاه المتاح في المدينة الكبيرة، وهذا فرض على الإدارة الحديثة أن توفر لهم مواطن عمل، فتم تركيز الصنائع حول المدينة لهذه الغاية، وهذا التركيز أغرى المزيد من السكان في الدواخل للقدوم والتجمع حول مواطن العمل والخدمات المدنية، فدخلت هذه المدن دوامة مغلقة كلما زادت في أمر لصالح ساكنيها نزح إليها بشر جدد فاضطرت إلى إعاشتهم فكبرت المدن دون أفق إلا خدمة الموجودين في اللحظة.
يقبل منطق الفعالية الإداري أن تكون كل المصالح المركزية للحكم متجمعة في مكان قريب، لكن التجميع الجغرافي تحول إلى تجميع للقرار أيضًا، فالموظف الطرفي يشتغل كجامع معلومات للمركز
يقبل منطق الفعالية الإداري أن تكون كل المصالح المركزية للحكم متجمعة في مكان قريب، لكن التجميع الجغرافي تحول إلى تجميع للقرار أيضًا، فالموظف الطرفي يشتغل كجامع معلومات للمركز وفي أحسن الحالات كمبلغ (مخبر) لقرار المركز لمواطن طرفي، وليس له أي دور قيادي بما يجعله يموت موظفًا صغيرًا، فإذا طمح إلى الترقي الوظيفي فيمر عبر الترقي الجغرافي إلى العاصمة، فتصير العاصمة نقطة الضوء الوحيدة التي تستقطب كل الفَرَاش الطموح إلى تحسين المركز الاجتماعي الشخصي، لذلك تكبر العاصمة وتلتهم من التمويل العمومي نصفه أو قريبًا من ذلك.
تستحوذ العاصمة التونسية (أقل من 3 ملايين ساكن من جملة 12 مليون هم سكان تونس) على أكثر من نصف الإنفاق العمومي على البنية التحتية (طرقات وكباري وسكك مترو وإنارة عمومية ومياه شرب، إلخ)، وتحول ذلك إلى شرط وجود للبلد فلا يمكن خدمة 9 ملايين خارج العاصمة إذا لم تسهل حياة 3 ملايين داخلها، لأن أغلبهم في الإدارة المركزية التي تسير البلد، وهذا هو القتل المادي للدواخل.
الأمر يتجاوز الاقتصاد والإدارة
في الحالة التونسية على سبيل المثال بدأ هذا المسار تحت الاستعمار الفرنسي وإن كانت تونس عاصمة قبل دخوله، وقد جمّع الاستعمار أغلب المنافع خاصة الصحية في العاصمة فحوّلها بالتدريج إلى أهم مركز عمل وتجارة مع المدن الداخلية ومع الخارج مما جعلها مركز استقطاب عمالي وضخّم حجمها بشكل عشوائي بأحياء الصفيح.
لم تفكر دولة الاستقلال أن تكسر هذا الاستقطاب بل وقعت فيه واستلذت مواصلته لما وجدت فيه من وسيلة للسيطرة على اتجاهات السكان في العمل والانتماء
لم تفكر دولة الاستقلال أن تكسر هذا الاستقطاب بل وقعت فيه واستلذت مواصلته لما وجدت فيه من وسيلة للسيطرة على اتجاهات السكان في العمل والانتماء، ففي العاصمة تم نحت الشخصية الأساسية الجديدة للمواطن الجديد كما تريده الدولة المركزية، فلم يعد الأمر مجرد إيواء وإعاشة بل تصنيع مواطن على هوى الدولة أو بالتدقيق على هوى النظام السياسي القائم.
صارت الثقافة التي تصنعها الدولة (وتقتل غيرها) وسيلة تصنيع (قولبة) لهذا المواطن المركزي في مقابل مواطن طرفي تابع، لقد عمدت وزارة الثقافة التونسية إلى مسح ومسخ كل الجذور الريفية والبدوية والصحراوية للثقافة التونسية المتنوعة، وأبقت فقط على منوال واحد حضري نشأ في العاصمة وبنى صورة للعالم لا يكون فيها الريفي والبدوي إلا وسيلة للتسلية في بيت الحضري (يمكن القياس على صورة الصعايدة في القاهرة).
ركزت الماكينة الثقافية في الحالة التونسية ولا تزال على شخصية الريفي (الغبي الطماع الجشع) ولهجته (المكسورة) لتسلي به مواطنًا راقيًا هو ابن العاصمة (قد يكون هو نفسه ابن المنطقة أو ناطق اللهجة المضحكة) وتدور هذه الماكينة بمال الدولة العام نفسه وينفق عليها بسخاء لتبقي العاصمة وجودًا فوقيًا مهويًا لكل ساكنيها ولكل تابعيها حتى يستقر في الأذهان أن الوجود الاجتماعي الوحيد للفرد مضمون في العاصمة.
وإلى ذلك يجد المواطن الطرفي النازح في لعاصمة بيئة تعيد تصنيعه كمواطن من العاصمة فيبدأ بالتنكر لأصوله أو تتحول عنده أصوله إلى معاناة وأزمة يحلها باصطناع شخصية جديدة متحضرة، الهوية الجديدة (ابن العاصمة) تتحول إلى سلاح ضد الهوية القديمة (الريفي أو النزوح أو المناطقي، إلخ) معركة تجري كل يوم وللعاصمة وسيلتها الثقافية لتعميق هذه القطيعة.
وهكذا لم تعد العاصمة مجرد تجمع سكاني حول الإدارة بل مركز/ بؤرة قيادة نفسية وثقافية تصنع صورة محددة وترسلها للدواخل للتقليد والاتباع، وهنا بالذات ماتت الثقافة ومات الإنسان لقد تحولت العاصمة إلى أداة قتل للشخصية وللمواطن وللإنسان، إنه القتل الثقافي للدواخل أولاً ولساكني العاصمة ثانيًا.
تفكيك العاصمة
كان التونسيون يتحسسون هذه العاهة الكبيرة التي هي عاصمتهم ولذلك ظهرت في أول الثورة دعوة حارة إلى إعادة العاصمة إلى القيروان العاصمة التاريخية، غير أن ذلك كان حلمًا جميلاً لم يكتمل وقد كان كافيًا تخيل كلفته المادية ليموت في منطقة الأحلام الوردية، لكن استمرار بلدان مثل تونس بعاصمة قاتلة لتنوعها واحتمالات تطورها لا يبدو ممكنًا على المدى البعيد.
لقد استنزفت العاصمة البلد سواء بما تستحوذ عليه من الإنفاق العام بما تنشره من ثقافة أحادية الصوت مانعة للتنوع (وهذا محل اتفاق واسع)، لكن الحل يغيب عن الطبقة السياسية ضحية صراعات زرعتها فيها العاصمة نفسها: الحضري (المواطن الحديث) والريفي (كائن ما قبل مواطن) الحضري والحداثي والريفي المتدين وينزلق الصراع طبعًا إلى الحضري التقدمي والريفي الظلامي.
أفق الحل لا يكون إلا ضد مركزية العاصمة عبر تكريس حكم المناطق لنفسها بنفسها
أفق الحل لا يكون إلا ضد مركزية العاصمة عبر تكريس حكم المناطق لنفسها بنفسها وقد سبق لنا تبيان ذلك في مقال يتعلق بتفكيك المركز، إن خلق ديناميكية نخبوية في المدن الصغرى بخصوص الشأن المدني والسياسي ستأخذ من العاصمة كثيرًا من مهماها الإدارية والتنفيذية (في الصحة والتعليم والثقافة) وستتكفل بتركيز النخب المحلية في مناطقها وبلورة سعيها نحو الثقافي والإبداعي، أي خلق ديناميكية تنمية خارج العاصمة يمكن أن تصل إلى نزوح عن العاصمة إلى بلدات المنشأ الأول.
لقد شرع في ذلك عبر تفكيك الجامعة ونشر المؤسسات الجامعية في كل مدينة، لكن ذلك تم بغاية خبيثة هي تخفيف وزن حراك الطلاب المعارض، ورغم ذلك خلقت بعض الجامعات ديناميكية محلية مثل جامعة صفاقس وجامعة سوسة لكن في مجال واحد فقط هو مجال التعليم العالي ولم تتحول تلك المدن إلى معادل للعاصمة في بقية المهام والأدوار المركزية.
كم يلزم من الوقت والجهد لكي يخفف ثقل العاصمة على صدور ساكنيها وعلى الناس عامة؟ يحتاج الأمر إلى قرار سياسي شجاع يعرف الكلفة ويقتحمها ويتحمل مسؤولية التغيير بخلفية ثورة.