قالت مصادر مطّلعة لـ”نون بوست” إن “المفاوضات التي أجراها وزير الخارجية التركي، هاكان فيدان، مع كبار المسؤولين في العراق مؤخرًا، تؤسّس لمرحلة جديدة في العلاقات بين الدولتَين الجارتَين، عبر تعاطٍ مختلف من الحكومة التركية بعد انتخابات مايو/ أيار الماضي، تستهدف علاج ملفات مفتوحة في الجوار الإقليمي”.
جاء ذلك تعليقًا على زيارة الوزير التركي للعراق، والمباحثات التي أجراها في العاصمة بغداد وكردستان العراق، حول عدة ملفات هي قضية المياه، واستئناف صادرات النفط، وجهود مكافحة الإرهاب، والعلاقة بتصدي تركيا لعمليات حزب العمال الكردستاني التي يشنّها عبر عناصره المتمركزة شمال العراق.
ومع وصول حجم التبادل التجاري بين تركيا والعراق إلى أكثر من 24 مليار دولار، قال وزير الخارجية، هاكان فيدان، خلال زيارته لبغداد: “العراق يمثل أولوية في سياستنا الخارجية”، وشدد نظيره العراقي، فؤاد حسين، على أنه “لن يتم السماح لأي طرف باستخدام العراق لاستهداف الجوار”.
زيارة الوزير التركي حاولت وضع الخطوط العريضة لزيارة مرتقبة يفترض أن يقوم بها الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إلى العراق خلال الفترة المقبلة، وهي الزيارة المعلن عنها منذ نهاية يوليو/ تموز الماضي، ويجري وضع الترتيبات الأمنية واللوجستية من الجانبَين بحسب مصادر “نون بوست”.
وكانت الحكومة العراقية قد أعلنت من جانبها في 25 يوليو/ تموز الماضي عن زيارة مرتقبة لأردوغان للعراق، ستكون الأولى له منذ عدة سنوات، وأوضح بيان صادر، آنذاك، عن مكتب رئيس الحكومة، محمد شياع السوداني، أنه بحثَ ملف الزيارة مع السفير التركي لدى العراق علي رضا كوناي، دون الكشف عن توقيتها المحدد.
وفيما زار أردوغان العراق في مارس/ آذار 2011، فإن زيارته المرتقبة تحظى باهتمام كبير من الدوائر المعنية في العراق، بحكم ملفات تشكّل “جراحًا عميقة”، ومن المقرر أن يلتقي خلالها برئيس حكومة العراق محمد شياع السوداني، ورئيس الجمهورية عبد اللطيف رشيد، ورئيس البرلمان محمد الحلبوسي.
وسيصطحب أردوغان خلال زيارته الرسمية المرتقبة للعراق وفدًا رفيع المستوى (عسكريًّا وأمنيًّا ودبلوماسيًّا واقتصاديًّا)، لاستكمال النقاش حول ملفات أمن الحدود، والتعاون الاقتصادي والتجاري والأمني، وملفَّي المياه والطاقة اللذين سبق أن بحثهما مع رئيس حكومة العراق محمد شياع السوداني، أثناء زيارته لتركيا في مارس/ آذار الماضي.
علاقات متناقضة
يعدّ العراق أحد أبرز الشركاء التجاريين لتركيا، لكن لا تزال العلاقات بين البلدَين عرضة لما يمكن وصفه بـ”المطبات الهوائية”، خاصة خلال الفترة الممتدة منذ 12 ديسمبر/ كانون الأول 2015، وحتى فترة قريبة بسبب العمليات العسكرية التركية شمال العراق، التي تستهدف مواجهة أنشطة حزب العمال الكردستاني المحظور في تركيا.
وتحكم علاقات التعاون بين البلدَين اتفاقية التعاون الأمني الاستراتيجي الموقعة منذ يوليو/ تموز 2008 (أمنيًّا وعسكريًّا واقتصاديًّا ودبلوماسيًّا وثقافيًّا وعلميًّا، وكذلك الطاقة والنفط)، وهي نقاط التقاء وتقارب تعزز المصالح المشتركة، رغم ما يمثله حزب العمال الكردستاني من تأزيم للعلاقات الدبلوماسية والأمنية.
ومنذ الانتخابات العامة في تركيا، تتجه العلاقات بين البلدَين إلى مرحلة جديدة، خاصة بعد تشكيل الحكومة الجديدة التي تأخذ على عاتقها تنفيذ خطة مدّ الجسور الإقليمية، وتصفير المشكلات التركية، لا سيما مع العراق، بحكم الانحياز إلى عمق الروابط التاريخية والاقتصادية والثقافية والعرقية بين البلدَين.
وحدد أردوغان، خلال حفل التنصيب الرئاسي، الخطوط العريضة لخارطة طريق السياسة الخارجية: “من الآن فصاعدًا، سيشهد المجتمع الدولي تركيا التي تأخذ المزيد من المبادرات في حل الأزمات العالمية، وتسعى جاهدة لتحقيق السلام والاستقرار في منطقتها، وتعمل بجدية أكبر من أجل تنمية العالمَين التركي والإسلامي”.
ونبّه أردوغان إلى أن “الحكومة الجديدة ستعمل على تعزيز المكانة والقوة الإقليمية والدولية لتركيا خلال المرحلة المقبلة. لن نتبع سياسة الالتفاف والوقوف موقف المتفرج، سنحارب المنظمات الإرهابية داخل وخارج الحدود، خاصة الجنوبية، عبر أساليب متعددة، مع توسيع نطاق تأثير الدبلوماسية الريادية والإنسانية لتركيا”.
عهد جديد
وبطبيعة الحال، كان الوزير هاكان فيدان الأكثر استقبالًا لرسائل أردوغان التي تستهدف تصفير المشكلات الإقليمية، وصياغة سياسات خارجية أكثر استقلالية عن الغرب، مع الحفاظ على الهوية الجيوسياسية لتركيا، وتعظيم الدور الدبلوماسي وتوظيفه في تعزيز عملية التوازن الدقيقة بين القوى الكبرى.
ومنذ أن شهد مقر وزارة الخارجية التركية، في 5 يونيو/ حزيران 2023، مراسم تسليم الوزير السابق مولود تشاويش أوغلو مهام المنصب لخلفه هاكان فيدان، الذي أمضى 13 عامًا رئيسًا لجهاز الاستخبارات، شهدت السياسة الخارجية التركية اتجاهًا جديدًا، ورؤية مختلفة عمّا كانت عليه قبل الانتخابات العامة التركية في مايو/ أيار الماضي.
وفاجأ الرئيس التركي الأتراك والعالم باختيار رئيس جهاز الاستخبارات التركي، هاكان فيدان، وزيرًا للخارجية في الحكومة الجديدة، التي ستدخل بتركيا إلى القرن الثاني من عمر الجمهورية، وتنتظرها استحقاقات كثيرة داخليًّا، فضلًا عن عدة تحديات خارجيًّا سيتولى هاكان تسييرها مستقبلًا.
وخلال ترؤّسه لجهاز الاستخبارات التركي، كان فيدان صاحب الإشراف المباشر على ملفات شديدة الحساسية، هي الهيكلة المتواصلة للجهاز، ومجابهة الكيان الموازي من أتباع فتح الله غولن، والتعامل مع حزب العمال الكردستاني، وإدارة العلاقات مع العراق وسوريا وإيران وروسيا ومصر والسعودية والإمارات وليبيا والناتو.
ويجمع هاكان فيدان بين الخبرة الأمنية وصياغة السياسات الخارجية، منذ التحولات التي شهدها النظام العالمي بعد الحادي عشر من سبتمبر، وتمدُّد الإرهاب الدولي والحروب الاستباقية، وانعكاس ذلك على سياسات ومصالح الدول، ومن ثم هو يتجه للعمل على التهدئة الإقليمية وإنجاز تفاهمات سياسية تحمي المصالح المشتركة.
مكافحة الإرهاب
تضغط تركيا باتجاه “تصنيف حزب العمال الكردستاني تنظيمًا محظورًا في العراق”، وضمان تعاون بغداد في مكافحة أنشطة مقاتلي الحزب، والتصدي لقواعده وتمركزاته شمال العراق، خاصة بعدما حذّر وزير الخارجية التركية هاكان فيدان من “العدو المشترك الذي يحاول تسميم العلاقات الثنائية”.
وطلب الوزير التركي من الجهات الرسمية التي التقى قياداتها في العراق “تصنيف حزب العمال الكردستاني منظمة إرهابية”، بعدما أطلع حكام العراق على الأضرار التي تسبّبتها هجمات الحزب، ومن ثم “ضرورة التصدي لأنشطته المسلحة التي تعكّر الحالة الأمنية جنوب تركيا”.
ويشكّل حزب العمال الكردستاني (المحظور) إحدى الأولويات المهمة أمام صانع القرار التركي (أمنيًّا ودبلوماسيًّا) في ظل توجهاته الانفصالية، واتهامات أخرى تؤكدها المؤسسات الرسمية التركية خلال السنوات الأخيرة، حيث “تعتمد استراتيجية الحزب على العنف عبر انتشاره في المناطق الحدودية مع العراق وسوريا”.
وتأسّسَ حزب العمال الكردستاني بين عامَي 1978 و1979، كإطار سياسي حركي لمنظمة الشباب الثوري بقيادة عبد الله أوجلان، وبعدما كان الحديث خافتًا عن الحقوق القومية في تركيا قبل فوز حزب العدالة والتنمية بانتخابات نوفمبر/ تشرين الثاني 2002، حاول الحزب الحاكم تعزيز المصالحة الداخلية في البلاد.
تستند تركيا في عملياتها العسكرية شمالي العراق إلى اتفاقية أنقرة، والتي ترى من خلالها أحقيتها في مكافحة الهجمات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، وتأمين حدودها مع العراق.
وركزت جهود المصالحة على كل القوميات (40 مجموعة عرقية وسياسية متنوعة، ظلت لعقود تطالب بحقوقها الثقافية والاجتماعية والاقتصادية والسياسية منذ تأسيس الجمهورية)، قبل أن يبادر حزب العدالة والتنمية بإقرار تشريعات تستفيد منها كل القوميات والإثنيات والتيارات.
وتبنّى حزب العدالة والتنمية الحاكم منذ عام 2009 مبادرة “الانفتاح الكردي”، عبر التفاوض مع عبد الله أوجلان والجناح المسلح لحزب العمال الكردستاني، لكن المبادرة أُجهضت بسبب اتهامات المعارضة التركية للحزب الحاكم بـ”مد الجسور مع الانفصاليين”، في إشارة إلى حزب العمال الكردستاني.
وتوضح اللقاءات التي استضافتها عاصمة النرويج أوسلو، كيف مدّ حزب العدالة والتنمية يده لزعيم حزب العمال الكردستاني عبد الله أوجلان (المسجون منذ 14 فبراير/ شباط 1999)، وأقرّ قانونًا جديدًا يجيز إجراء مباحثات سلام رسمية مع الحزب، إلا أن أوجلان كان يصرّ على التصعيد السياسي الذي يصل حد الصدام.
وتسبّبت عمليات إرهابية دموية عام 2015 في تركيا، في تجميد الحوار المفتوح مع حزب العمال الكردستاني وحزب الشعوب الديمقراطي، وواصلت الحكومة مواجهة الإرهاب داخليًّا وخارجيًّا من خلال عمليات “درع الفرات” في أغسطس/ آب 2016، و”غصن الزيتون” في يناير/ كانون الثاني 2018، و”نبع السلام” في أكتوبر/ تشرين الأول 2019، وعمليات “المخلب” شمال العراق.
ولتأمين الحدود التركية، لجأ أردوغان إلى توسيع نطاق مواجهة حزب العمال الكردستاني وحليفه في سوريا الاتحاد الديمقراطي الكردستاني، وجناحه المسلح وحدات حماية الشعب الكردية، عبر السيطرة العسكرية على منطقة عفرين، والمساحة الممتدة من تل أبيض إلى رأس العين.
وتستند تركيا في عملياتها العسكرية شمالي العراق (المنطقة الآمنة) إلى اتفاقية أنقرة (وقعتها مع بريطانيا ومملكة العراق عام 1926)، التي أكّدت سيادة العراق على الموصل، مع امتيازات نسبية لتركيا، ترى أنقرة من خلالها أحقيتها في مكافحة الهجمات الإرهابية لحزب العمال الكردستاني، وتأمين حدودها مع العراق.
أزمة المياه
لطالما فتحت الجهات الرسمية العراقية تحقيقات لتحديد أسباب نفوق أطنان من الأسماك كمورد غذائي واقتصادي هام، وعلاقة ذلك بنقص الواردات المائية من الجوار الذي تأتي منه مصادر المياه الأساسية، وخطورة ما يحدث على الثروتَين السمكية والحيوانية، بالتزامن مع تداعيات التغير المناخي على البلاد.
و”العراق لا يحصل سوى على 30% من استحقاقه الطبيعي من المياه”، فيما تحذّر منظمة الأغذية والزراعة “الفاو” من “تراجع حادّ في منسوب المياه في الأنهار على الأراضي العراقية، وأن منطقة الأهوار التي تشهد أشدّ موجة حرارة تؤثر على منسوب المياه”، خاصة أن العراق إحدى الدول الخمس الأكثر تأثرًا بالتغير المناخي.
وتصل نسبة تلوث أنهار العراق إلى 90%، خاصة عبر آبار النفط، فيما سيعاني 7 ملايين شخص من تراجع نصيبهم من المياه بحلول عام 2035، ويمكن أن يتسع العجز المائي بشكل كبير، ما يقلل من الإمدادات الغذائية المحلية في البلاد والاقتصاد ككل، وفق تقارير دولية.
وتسبّبت أزمة نقص المياه في تصحُّر حوالي 70% من الأراضي الزراعية في العراق، وتؤكد مضابط لجنة الزراعة في البرلمان العراقي أن نقص الواردات المائية أدّى إلى انخفاض جودة المياه، خاصة في منطقة الأهوار والبحيرات جنوبي وغرب البلاد، فيما تؤكد تركيا أن “هطول الأمطار لديها يعدّ الأدنى منذ أكثر من 50 عامًا”.
ووفق الأمم المتحدة، “يشهد العراق للعام الرابع موجة جفاف نتيجة تراجع الأمطار وارتفاع درجات الحرارة، والسدود التي تقيمها دول الجوار على نهرَي دجلة والفرات، ويتراوح منسوب المياه بين 30 و56 سنتيمترًا فقط في مجرى الأنهار ببعض المناطق، مع ارتفاع مستويات الملوحة وتأثيرها على الحياة الطبيعية”.
وحذّر المفوض السامي لحقوق الإنسان في الأمم المتحدة، فولكر تورك، من أن “ما يواجهه العراق من ارتفاع في درجات الحرارة والجفاف، يعدّ إنذارًا للعالم أجمع”، وأكد بعد زيارته لجنوب البلاد: “أصبح ارتفاع درجات الحرارة والجفاف وفقدان التنوع البيئي واقعًا يعيشه الناس”.
المياه أزمة متواصلة بين العراق وتركيا التي أنشأت أكثر من 600 سد كبير ومتوسط، طاقتها التخزينية الإجمالية من المياه تتجاوز الـ 651 مليار متر مكعب، وتمسكها بإقامة المزيد منها كـ”جزء من ممارسة سيادتها الطبيعية على ترابها ومواردها”، وهو الحال نفسه بين العراق وإيران، ما يؤثر على تدفق المياه إليها.
ويلخّص أردوغان موقف بلاده تجاه قضية المياه والسدود بقوله: “نعمل على حماية مواردنا المائية قبل أن تصل حد النضوب، واستخدامها بكفاءة وإدارتها بشكل صحيح لم يعودا خيارًا بل ضرورة”، علمًا أن الجغرافيا تمنح تركيا أكثر من 90% من مياه نهر الفرات و40% من مياه نهر دجلة.
ولجأت الحكومة التركية خلال الـ 20 عامًا الماضية إلى الاستفادة من مياه النهرَين اقتصاديًّا وتنمويًّا لتعمير منطقة الأناضول، التي يختلف غربها عن جنوب شرق البلاد من حيث قلة هطول الأمطار وندرة المياه، ومن ثم عاد الاعتبار لمشروع تعمير المنطقة (GAP) عبر 22 سدًّا و19 محطة للطاقة الكهربائية تغطي 9 ولايات.
ويتزامن تنفيذ استراتيجية مشاريع الري والتنمية التركية التي تغذي قطاعات الري والزراعة والصناعة والمواصلات والاتصالات، مع تعرض دول إقليمية كالعراق وسوريا للجفاف، وهو أمر دفع تركيا إلى تعزيز سدّ أتاتورك بعد تدشينه في تسعينيات القرن الماضي، وبناء عدة سدود على نهرَي دجلة والفرات، رغم عراقيل التمويل والهجمات الإرهابية.
وحذّرت دراسات متخصصة من “سنوات عجاف نتيجة تراجع مستويات الأنهار ومخزون البحيرات”، فيما تتمسّك البلاد بحقها في مياه دجلة والفرات كـ”نهرَين دوليَّين منذ انهيار الدولة العثمانية”، مع “تعهُّد تركيا بتزويد العراق بحصتها المائية كاملة سنويًّا”، بحسب رئيس حكومة العراق الأسبق حيدر العبادي.
المعارضون للحكومات العراقية يرون أن “العراق كبلد مصبّ جاف، يعتمد بشكل كبير على المياه السطحية التي تأتي من جيرانه، وأنه مع ضعف استجابة الحكومات العراقية، تعمل دول الجوار على بناء السدود أو إعادة توجيه مسارات الأنهار المشتركة لتأمين احتياجاتها الخاصة، وبالتالي تقليل كمية المياه المتدفقة إلى العراق”.
ويبدي المعارضون دهشتهم من “قبول حكومات العراق بالوعود الشفوية من مسؤولي بلدان الجوار، حول عدم تأثير سدود نهرَي دجلة والفرات على الحصص المائية للعراق الذي يعاني من انخفاض منسوب النهرَين”، وهو أمر كان محور نقاش بين وزير الخارجية العراقي فؤاد حسين ونظيره التركي هاكان فيدان مؤخرًا.
وقال الوزير التركي في مؤتمر صحفي مشترك: “تناولنا مشكلة الجفاف الذي يضرب العراق من منظور إنساني بحت. نراهن على آلية حوار مستدامة مع بغداد”، فيما ثمّن وزير الخارجية العراقي الطرح التركي بـ”تشكيل لجنة دائمة للنقاش في المياه، خاصة أن التغيرات المناخية وحالة الجفاف تهددان المجتمع العراقي والزراعة”.
يبلغ معدل نهر الفرات سنويًّا حوالي 31.8 مليار متر مكعب، يروي 1.3 مليون هكتار أراضي زراعية، وتشرب منه 7 محافظات هي الأنبار وبابل وكربلاء والنجف والقادسية والمثنى وذي قار، و30 قضاء و70 ناحية وأكثر من 4500 قرية، ما يعني استفادة 14 مليون شخص منه.
ويحدد البروتوكول بين العراق وتركيا وسوريا حصة العراق من المياه الممررة لهما بـ 58% (9 مليارات و106 ملايين متر مكعب) والحصة السورية بـ 42% (6 مليارات و627 مليون متر مكعب)، فيما تكون حصة تركيا 15 مليار و700 مليون متر مكعب، ولا توجد اتفاقات بين العراق وإيران في المياه، ويعاني العراق من أزمة جفاف بعد إنشاء السلطات الإيرانية سدّ كولسه وتأثيره على نهر الزاب الصغير.
وتسبّبت حرب العراق وإيران وخلافات سوريا والعراق ثم الغزو الأمريكي للعراق عام 2003، بغياب مفاوضات جادة لحسم ملف المياه، رغم وجود معاهدات دولية (لوزان عام 1923، وهلسنكي عام 1973، والأرجنتين عام 1977) تنظّم الاستفادة من الأنهار الدولية، خاصة مع تدهور الأوضاع الأمنية بالعراق وسوريا.
مؤشرات مهمة
أكد أستاذ العلاقات الدولية في جامعة الموصل العراقية، الباحث المتخصص في الشؤون السياسية والاستراتيجية فراس الياس، أن “الزيارة المرتقبة لأردوغان للعراق تشير إلى بداية مرحلة جديدة من السياسة التركية تجاه العراق، لا سيما أنها ستناقش العديد من الملفات الإشكالية بين البلدَين”.
ويوضح الياس أن “ملف المياه يشكّل أهمية قصوى للعراق كملف مكافحة الإرهاب بالنسبة إلى الحكومة التركية، وإن كانت الرهانات متذبذبة فيما يتعلق بحسم الملفَّين في ضوء طبيعة تعاطي الدولتَين معهما خلال السنوات الماضية، خاصة مكافحة الإرهاب وتقاطعه مع حساسيات إقليمية تصعّب موقف حكومة العراق”.
ويرى الياس أن “وجود حزب العمال الكردستاني شمالي العراق من جملة التعقيدات الأمنية التي تلقي بظلالها على علاقة الحكومتَين العراقية والتركية، فيما نجت إيران، عبر الفصائل المسلحة الموالية لها، في إبعاد ملف حزب العمال الكردستاني عن أي تأثير حكومي عراقي”.
ويشير الياس إلى “نجاح هذه الفصائل في دمج بعض الميليشيات التابعة لحزب العمال الكردستاني في منطقة سنجار، كوحدات مقاومة سنجار (YBŞ)، ضمن اللواء 80 التابع لهيئة الحشد الشعبي، ما يصعّب قدرة العراق على تصنيف الحزب كمنظمة إرهابية“.
وينبّه إلى أن “تصنيف العمال الكردستاني، لو تمَّ، سيتطلب من الحكومة العراقية اتخاذ إجراءات ضد الحزب، وفي ظل تأثير إيران والفصائل المسلحة الموالية لها على الحكومات العراقية المتعاقبة، لا يتوقع أن يقدم العراق على هذه الخطوة التي تعدّ من أهم المطالب التركية”.
ويشير الياس إلى أن “تركيا طوّرت سياسة فوق وطنية فيما يتعلق بعملياتها العسكرية شمال العراق، وعليه فإن عدم ضبط الحدود من خلال تحجيم عمليات حزب العمال الكردستاني ضد تركيا يعني استمرار عملياتها العسكرية، بل توسيع نطاقها خلال المرحلة المقبلة على طول الحدود العراقية-التركية”.
قضايا متعددة
تحاول تركيا المصالحة بين أحزاب إقليم كردستان العراق (خاصة حزبَي الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني)، وتقريب وجهات النظر بين حكام الإقليم والسلطة المركزية في العراق حول عدة ملفات يتصدرها النفط، بعد عقود وقّعتها قيادات الإقليم مع شركات أجنبية، قبل تدخل المحكمة الاتحادية لحسم العائدات.
وهناك توافق نسبي حول استئناف تصدير نفط إقليم كردستان العراق المتمتع بالحكم الذاتي منذ حوالي 30 عامًا، من خلال ميناء جيهان التركي بحسب الاتفاق بين شركة تسويق النفط العراقية سومو وشركة بوتاش التركية منذ الصيف الماضي، إلا أنه لم ينفذ حتى الآن.
وأرسل العراق طلبًا رسميًّا إلى تركيا في 11 مايو/ أيار 2023 لاستئناف ضخّ صادرات النفط عبر خط أنابيب يمتد من إقليم كردستان إلى ميناء جيهان التركي، جاء بعدما وقّع التجار الذين يشترون الخام من إقليم كردستان عقودًا مع شركة تسويق النفط سومو التابعة للحكومة العراقية، بعد مناقشات على مدار أسابيع.
وأوقفت تركيا تدفق 450 ألف برميل يوميًّا من الصادرات الشمالية عبر خط الأنابيب العراقي التركي في 25 مارس/ آذار، بعدما أصدرت غرفة التجارة الدولية حكمًا في قضية تحكيم لصالح العراق، وأمرت الغرفة تركيا بدفع تعويضات لبغداد بقيمة 1.5 مليار دولار عن الأضرار الناجمة عن تصدير حكومة إقليم كردستان النفط بشكل غير قانوني بين عامَي 2014 و2018.
وأعلن العراق في 27 مايو/ أيار 2023 عن مشروع خط بري وخط سكك حديد (طريق التنمية) يصل الخليج بالحدود التركية، كخطّ أساسي لنقل البضائع غير النفطية بين الشرق الأوسط وأوروبا، لكن لا يزال المشروع الذي حددت الحكومة العراقية كلفته بنحو 17 مليار دولار، بطول 1200 كيلومتر داخل العراق، في مراحله الأولى.
ويطمح العراق إلى تنفيذ هذا المشروع بالتعاون مع دول في المنطقة (قطر والإمارات والكويت وعُمان والأردن وتركيا وإيران والسعودية) خلال فترة تتراوح بين 3 و5 سنوات، وهو أمر يخدم الجهود التركية المتعلقة بمكافحة الإرهاب، كون تأمين الخط البري الجديد سيساعد في القضاء على تنظيم “داعش” والفصائل الإرهابية المسلحة.
زادت هجرة العراقيين إلى تركيا بعد الحصار الدولي للعراق، قبل أن تتفاقم بعد الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق في أبريل/ نيسان 2003.
وتسعى تركيا لتوسيع الاتفاق الموقع بين الحكومة العراقية وحكومة كردستان العراق في 9 أكتوبر/ تشرين الأول 2020، حول التنسيق المشترك في مواجهة الجماعات المسلحة والإرهابية، ليشمل عناصر حزب العمال الكردستاني، كونه يخدم توجهات الحكومة التركية بمجابهة ما يتم على حدودها الجنوبية.
وترغب تركيا في الحصول على عدة مكتسبات من العراق، لا تتوقف عند حظر حزب العمال الكردستاني أو تسريع طريق التنمية التجاري، بل تشمل تنازل العراق عن قضية نفط شمال العراق (قيمتها 1.5 مليار دولار) حتى تسمح بإعادة فتح خط جيهان لتصدير النفط العراقي.
لكن تبقى معظم القضايا والملفات معلقة على ضوء ما ستحقّقه الزيارة المرتقبة للرئيس التركي رجب طيب أردوغان للعراق، من تعاطٍ إيجابي خلال مباحثاته مع الرئاسات الثلاث (الجمهورية والبرلمان والحكومة)، وهي أمور لن يكون من السهل الوصول فيها إلى مواقف حاسمة، لا سيما الماء ومكافحة الإرهاب وجدلية طريق التنمية.
وخلال زيارة أردوغان للعراق، سيكون ملف اللاجئين العراقيين في تركيا حاضرًا، خاصة أنهم جزء من 110 ملايين لاجئ عالميًّا، تشردوا بسبب العنف والحروب وانتهاكات حقوق الإنسان والاضطهاد، حيث كان العراق ضحية لظروف صعبة دفعت الملايين من سكانه للجوء إلى الجوار، خاصة تركيا ومصر والأردن.
وزادت هجرة العراقيين إلى تركيا بعد الحصار الدولي للعراق، قبل أن تتفاقم بعد الغزو الأمريكي-البريطاني للعراق في أبريل/ نيسان 2003، وسيطرة تنظيم “داعش” على عدة محافظات صيف عام 2014، ويعتبَر العراقيون ثاني أكبر جالية عربية بعد الجالية السورية.
ووفقًا لإحصاءات وزارة الهجرة العراقية، هناك أكثر من 700 ألف عراقي مقيم في تركيا، يتوزعون بكثافة في 12 ولاية تركيا، أشهرها إسطنبول وأنقرة وسكاريا وبورصة وغازي عنتاب، وإذا كانت الحكومة العراقية تنظر إلى هذا الملف من زاوية الحقوق التي يجب أن يتمتعوا بها، فهم يمثّلون للحكومة التركية ورقة ضغط هامة.