أعلن عدد من ضباط الجيش في الغابون صباح الأربعاء 30 أغسطس/آب 2023 عبر بيان أذيع على على قناة “غابون 24” الرسمية، السيطرة على السلطة في البلاد، وإلغاء نتائج الانتخابات الرئاسية التي أُعلن عنها قبل ساعات وأسفرت عن فوز الرئيس علي بونغو بفترة رئاسة ثالثة، بجانب حل كل مؤسسات الجمهورية وتشمل الحكومة ومجلس الشيوخ والجمعية الوطنية والمحكمة الدستورية ومركز الانتخابات، وسط تأييد جماهيري واضح لتلك الخطوة واحتفالات تعم أجواء شوارع العاصمة الغابونية.
المجموعة العسكرية التي نفذت الانقلاب، المكونة من نحو 12 فردًا، يمثلون جميع قوات الأمن والدفاع في البلاد بحسب البيان، أكدوا أنهم يتحدثون باسم “لجنة المرحلة الانتقالية وإعادة المؤسسات” وأنهم “بسبب حوكمة غير مسؤولة تتمثل في تدهور متواصل للحمة الاجتماعية ما قد يدفع بالبلاد إلى الفوضى، قررنا الدفاع عن السلام من خلال إنهاء النظام القائم”.
وحتى الساعة لم ترد أي تقارير بشأن مقر إقامة بونغو وطاقم الرئاسة، علمًا بأن آخر ظهور له كان السبت 26 أغسطس/آب 2023 حين أدلى بصوته في الانتخابات، وسط حالة من الترقب إزاء تطورات الوضع في هذا البلد القابع في غرب وسط إفريقيا، تلك المنطقة التي تعاني خلال السنوات الأخيرة من اضطرابات سياسية وأمنية كبيرة.
يذكر أنه في يناير/كانون الثاني 2019 أحبطت الغابون انقلابًا عسكريًا قام به عدد من الجنرالات الذين استولوا على محطة إذاعية هناك وبثوا من خلالها خبر إصابة بونغو بجلطة وأنه لم يعد صالحًا للمنصب، لكنه لم يستمر إلا بضع ساعات حتى جرت السيطرة على الموقف ومقتل اثنين من المتورطين في الانقلاب.
A group of senior military officers in Gabon claimed they had seized power in the early hours of August 30, minutes after the Central African state's election body announced that President Ali Bongo had won a third term https://t.co/2yEFDLksaX pic.twitter.com/L5SyT9y9S8
— Reuters (@Reuters) August 30, 2023
يأتي هذا الانقلاب بعد شهر تقريبًا من انقلاب النيجر الذي أطاح بالسلطة الحاكمة هناك، وفي حال نجاحه يصبح إجمالي ما تعرضت له بلدان وسط وغرب إفريقيا منذ عام 2020 ثماني انقلابات، في مالي وغينيا وبوركينا فاسو وتشاد، وها هي الغابون، لتواصل القارة الإفريقية نزيفها المستمر الذي يقوض مساعي التقدم الديمقراطي رغم الجهود المبذولة.
نهاية عهد عائلة بونغو
الانقلاب جاء – وفق البيان الذي بثه الجنرالات – نتيجة الاعتراض على نتائج الانتخابات التي جرت وأسفرت عن حصول علي بونغو على 64.27% من الأصوات، وبالتالي فوزه بفترة رئاسية ثالثة، تضاف إلى السنوات الـ14 التي قضاها في السلطة منذ توليه الحكم خلفًا لوالده عمر بونغو في 2009.
المعارضة في البلاد ترى أن نتائج الانتخابات تم التلاعب بها لصالح الرئيس، وأن المنافس الأبرز له، ألبير أوندو أوسا الذي حصل على 30.77% كان الأحق بالفوز لولا التزوير الذي تم، وهو ما أدى إلى تصاعد الاضطرابات في البلاد والتحذير من انفجار الوضع الداخلي في ظل حالة الانقسام الشديد التي تخيم على المشهد.
العديد من المؤشرات استندت إليها قوى المعارضة للتأكيد على موقفها الخاص بالتلاعب في نتائج الانتخابات، منها قطع خدمة الإنترنت وفرض حظر ليلي للتجوال في جميع أنحاء البلاد بعد الانتخابات، كذلك غياب المراقبين الدوليين وتعليق بث بعض وسائل الإعلام الأجنبية، وهو ما أثار الشكوك بشأن نزاهة العملية الانتخابية التي بلغت نسبة المشاركة فيها 56.65% بحسب تصريحات رئيس المركز الغابوني للانتخابات، ستيفان بوندا.
مشاهد لاحتفالات في وسط ليبرفيل عاصمة #الجابون بعدما أعلنت مجموعة من كبار ضباط الجيش الاستيلاء على السلطة في البلاد#إرم_نيوز #Gabon #Bongo #Présidentielle pic.twitter.com/gANfEKT1oe
— Erem News – إرم نيوز (@EremNews) August 30, 2023
شهدت انتخابات 2016 التي فاز فيها بونغو بولاية ثانية اضطرابات حادة، بلغت حد إضرام النيران في مبنى البرلمان، كما قطعت السلطات خدمات الإنترنت لعدة أيام كذلك، وهو الأمر الذي أثار الجدل والنزاع آنذاك بين المعارضة والحكومة التي أصرت على رفض كل الاتهامات الموجهة لها بالتزوير.
ومنذ عام 2016 وحتى اليوم تبذل المعارضة مساعيها الحثيثة لإسدال الستار على 56 عامًا من سيطرة عائلة بونغو على السلطة، ضاغطة من أجل التغيير وضخ دماء جديدة في شرايين البلد الذي يعاني من مستويات معيشة متدنية رغم ما يمتلكه من ثروات معدنية هائلة واحتياطي كبير من النفط والمحاصيل الزراعية ذات العائد الاقتصادي المربح وعلى رأسها الكاكاو.
ترقب وقلق أوروبي
أحدث الانقلاب حالة من القلق لدى المراقبين الإقليميين والدوليين، خاصة أنه يأتي بعد شهر فقط من انقلاب النيجر الذي فشل المجتمع الدولي والإفريقي في احتوائه حتى اليوم رغم المبادرات والتحذيرات المقدمة، ما يشي بمرحلة جديدة ومتطرفة من اللااستقرار من المرجح أن تشهدها القارة الإفريقية التي تحولت في الآونة الأخيرة إلى قبلة القوى الكبرى لما تتمتع به من إمكانات وثروات إستراتيجية تدفع نحو تأمين الاقتصاد المستقبلي.
وفي أول رد فعل خارجي على ما حدث وصف مسؤول السياسة الخارجية في الاتحاد الأوروبي جوزيب بوريل، ما يحدث في غرب إفريقيا بأنه مشكلة كبيرة لأوروبا، وأضاف في كلمة خلال اجتماع وزراء دفاع دول الاتحاد الأوروبي في طليطلة “وزراء دفاع دول التكتل سيناقشون الموقف في الغابون، وبحث سبل التعاطي معه في أسرع وقت”، وتابع “إذا تأكد ذلك، فسيكون انقلابًا عسكريًا آخر يزيد من الاضطرابات في المنطقة بأكملها”.
وفي السياق ذاته فإن ما حدث بلا شك سيشكل صدمة كبيرة لفرنسا التي تواجه تراجعًا كبيرًا في النفوذ والحضور داخل حديقتها الخلفية لعقود طويلة، فهي لم تستفق بعد من صدمة النيجر ومن قبلها مالي وتشاد لتواجه اليوم شبحًا جديدًا، حيث قالت رئيسة الوزراء الفرنسية إليزابيث بورن في كلمة أمام مؤتمر للسفراء الفرنسيين إن باريس تتابع الوضع في الغابون عن كثب.
ضربة جديدة لفرنسا
للمرة الثانية خلال أقل من شهر تتلقى فرنسا ضربة موجعة في نفوذها الإفريقي، فبعد ما حدث في النيجر وتهديد حضورها بشكل كلي، وإنذار سفيرها هناك بمغادرة البلاد، والمزاج الشعبي الرافض للوجود الفرنسي داخل الأراضي النيجرية، ها هي تتعرض للكمة جديدة.
لكنها هذه المرة من أحد معاقلها اللوجستية في القارة الإفريقية، في بلد يتحدث أكثر من 60% من سكانه اللغة الفرنسية، ويدينون بالولاء الفكري والثقافي للأيديولوجية الفرنسية، فضلًا عن كونه مداد اقتصادي كبير ومصدر مهم في تغذية الصناعة الفرنسية بالمعادن والنفط.
فبعد ساعات قليلة من إعلان الانقلاب وتولي الجنرالات السلطة، علقت شركة التعدين الفرنسية “إراميت”، صاحبة النصيب الأكبر في وحدة “كوميلوج” لإنتاج المنغنيز في الغابون، جميع عملياتها في البلاد، فيما انخفض سهم الشركة بنحو 5%، بجانب توقف عمليات النقل عبر السكك الحديدية.
في 2 مارس/آذار 2023 وأمام الجالية الفرنسية في العاصمة الغابونية ليبرفيل قال الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون خلال جولته (الـ18 له إلى إفريقيا منذ بدء ولايته الأولى عام 2017) التي شملت أربع دول بوسط وغرب إفريقيا (الكونغو والكونغو الديمقراطية وأنغولا والغابون): “لقد انتهى عصر فرنسا الإفريقية”، معلنًا بدء مرحلة جديدة من العلاقات تقوم على مبادئ الشراكة والتعاون وليس على الاستعمار والابتزاز.
Watch France throw a tantrum over #Gabon It will take more than an election! pic.twitter.com/zjt122JMBA
— African (@ali_naka) August 30, 2023
وفي 27 فبراير/شباط 2023 اعترف ماكرون بشكل واضح ودون أي مواربة خلال خطابه عن “الإستراتيجية الدبلوماسية لفرنسا” بتراجع نفوذ بلاده في إفريقيا على الصعيدين الاقتصادي والإستراتيجي، محاولًا إنقاذ ما يمكن إنقاذه من خلال الإعلان عن آلية جديدة ستتبناها فرنسا في التعامل مع بلدان القارة السمراء.
جدير بالذكر أن الجيش الفرنسي دُفع بالقوة منذ أغسطس/آب 2022 إلى الانسحاب من مستعمراته القديمة، مالي وبوركينا فاسو، وذلك من المجلس العسكري الحاكم في كلا البلدين، هذا بخلاف وقف بوركينا فاسو العمل بـ”اتفاق المساعدة العسكرية” التي أبرمته مع فرنسا غداة استقلالها عام 1961، كما أجُبرت باريس على تقليم أظافرها وتقليص نفوذها في النيجر، ليواصل عقد الحضور الفرنسي انفراطه عامًا تلو الآخر.
وبعيدًا عن المعنى الذي أراد ماكرون توصيله من خلال عبارته “انتهى عصر فرنسا الإفريقية” يبدو بالفعل أن نجم فرنسا الذي بزغ في سماء القارة الإفريقية على مدار عقود طويلة، حتى بعد انتهاء عصر الاستعمار العسكري التقليدي، قد آن أوان أفوله، ليواجه تصديًا وهجومًا شرسًا من الشعوب التي طالما رفعت الأعلام الفرنسية فوق رؤوسها لتنتفض اليوم رافضة للوجود الفرنسي بأي شكل من الأشكال، بعدما تيقنت وعاينت بالصوت والصورة مخطط السلب والحلب والنهب الذي نفذته الدول الاستعمارية بحق بلادها التي ازدادت فقرًا فوق فقرها فيما تنعم الدول الأخرى بالرخاء والنعيم بفضل الموارد والثروات الوطنية الإفريقية.
ماذا عن رد فعل المجتمع الدولي؟
بداية لا يمكن قراءة ما حدث في الغابون وما حدث قبله في دول وبلدان وسط وغرب وشرق إفريقيا بمعزل عن حرب الاستقطابات وخريطة النفوذ العالمية التي يعاد تشكيلها خلال السنوات الخمسة الأخيرة على وجه التحديد، فما تشهده تلك المنطقة من فوضى أمنية وسياسية وعسكرية واقتصادية هو نتاج منطقي للعبة الكراسي الموسيقية بين المعسكرين، الشرقي والغربي، بل وداخل كل معسكر على حدة.
ربما لا يرى البعض أي فائدة مرجوة من فرض حالة عدم الاستقرار في القارة الإفريقية، إذ إن إثارة الفوضى والقلاقل في تلك المنطقة سيضر بالجميع، وهو ما يمكن قراءته جيدًا من خلال محاولة الاستقطاب التي تمارسها الكيانات الاقتصادية الكبرى لمنح القارة – أو بعض دولها – عضويتها الدائمة، بجانب تغيير النظرة العامة لإفريقيا، من المعسكرين على حد سواء، من الاستعمار إلى التشاركية.
لكن لا بد من الوضع في الحسبان أن مرحلة المخاض التي تشهدها معادلة التوازنات بين القوى الدولية قد تدفع البعض نحو استدعاء سياسة الأرض المحروقة لبناء معادلة جديدة وفق آليات وأبجديات مختلفة، تتشكل معها خريطة النفوذ وفق معايير مغايرة لما كانت عليه في السابق، وليس شرطًا أن يكون ذلك بين المعسكرين في العموم، لكن قد يكون داخل المعسكر الواحد، كالولايات المتحدة وفرنسا من جانب، وروسيا والصين من جانب آخر.
https://twitter.com/EmperorTv001/status/1696801102581182464
أما فيما يتعلق برد الفعل المتوقع من المجتمع الدولي، فإن تعاطي الاتحاد الإفريقي ومجموعة الإيكواس والأمم المتحدة والعواصم الأوروبية والآسيوية والشرق أوسطية مع حرب الجنرالات في السودان المندلعة منذ أبريل/نيسان 2022 ومن قبلها الأزمة السودانية منذ ثورة ديسمبر/كانون الأول 2018، وما تلاها من أحداث في غرب ووسط إفريقيا، وصولًا إلى انقلاب النيجر الذي يرسخ أركانه يومًا بعد الآخر رغم التحذيرات المتتالية بالتدخل العسكري.
هذا التعاطي الناعم الذي يفتقد لأدوات القوة المؤثرة، والاكتفاء بالمبادرات الدبلوماسية والتصريحات المتأرجحة صعودًا وهبوطًا، بجانب الانكفاء على سلسلة العقوبات التقليدية المفروضة على بعض الشخصيات الضالعة في الأزمات المختلفة، كل هذا ربما يرسم صورة مقاربة لما يمكن أن يكون عليه الوضع في الغابون، التي بانقلابها تصعب المهمة أمام خيار التدخل العسكري المباشر، سواء لديها أم في النيجر.
ومن هنا فإنه من المرجح أن يحذو انقلابيو الغابون حذو نظرائهم في النيجر ومن قبلهم في مالي وتشاد، حيث التمسك بالسلطة ورفض المبادرات كافة، والتعامل مع التهديدات الصادرة من التكتلات الإقليمية والدولية على أنها تحذيرات ذرًّا للرَّماد في العيون دون أي تحركات ملموسة على الأرض، ما يعني أن الواقع سيفرض نفسه حتى إشعار آخر.