“ليس لنا أعداء دائمون، ولا أصدقاء دائمون، لكن لنا مصالح دائمة”، مقولة غربية دائمًا ما أثبتت صحتها التحركات المدروسة لتلك الدول في أعماق قارات الاستعمار القديم، إفريقيا وآسيا وأمريكا الجنوبية، قبل أن تدخل على الخط دول متوسطة – بالاعتبارات الاستراتيجية والجغرافية – مثل إيران وتركيا وإسرائيل، ولحقت بهم بعض دول الخليج لتكون لها سياسة إفريقية نشطة، في الوقت الذي يشكل فيه العرب الأفارقة أكثر من نصف العالم العربي سكانًا ومساحة، ويحتلون شمال إفريقيا بأكمله جغرافيًا دون تحريك ساكن يذكر، ما يؤكد أن العالم العربي في غيبوبة استراتيجية كاملة.
توجهات السياسة الخارجية الإسرائيلية تجاه القارة الإفريقية “النموذج الأثيوبي”
هجمة استراتيجية
يحاول المحللون فهم التأثير المحتمل لهذه الموجة الجديدة من الاهتمام من جانب الشرق الأوسط بالدول الإفريقية، من جانب طهران التي تسعى لكسر عزلتها الدولية، وأنقرة وحلم الدولة العثمانية، ودولة الكيان ومحاولتها حفظ مجالها الحيوي، ودول الخليج ومحاولات البحث عن بديل النفط المنتهي، في ظل غياب مصري كبير كانت من أهم تداعياته أزمة سد النهضة، في ضوء إعادة التحالفات فى صياغات جديدة تتحدد إلى حد كبير بناء على الصراعات والخصومات، وسط محاولات لربط تلك التحولات بأحداث الربيع العربى والحرب الأهلية السورية والصراع فى اليمن، التي دفعت دولًا فى الشرق الأوسط إلى البحث عن تحالفات جديدة أبعد من جوارها، مثلما دفع الصراع بين السعودية وإيران والضغوط الاقتصادية زعماء تلك الدول إلى محاولة مد نفوذها في إفريقيا.
إسرائيل تتعمق بإفريقيا .. ونتنياهو يستغل التخاذل العربي
تركيا تحارب بمفردها
مؤخرًا رصدت صحيفة الأوبزرفر البريطانية في مقال لمراسلها في إفريقيا السباق التركي الإيراني الإسرائيلي على النفوذ في القارة السمراء، لافتة إلى أن العاصمة الكينية نيروبي شهدت خلال شهري يونيو ويوليو من العام المنقضي 2016 نشاطًا دبلوماسيًا وسياسيًا حافلاً، تمثل في زيارات لوزراء إيرانيين ووفود من دول الخليج والرئيس التركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي، كما شهدت دول أخرى في شرق إفريقيا اهتمامًا كبيرًا من مسؤولين رفيعي المستوى، تعبر عن أن هناك تغييرًا في التحالفات والخصومات والمصالح السياسية في إفريقيا.
إيران تستغل المساعدات للتغلغل بإفريقيا
مكاسب اقتصادية واستراتيجية
وأرجعت الصحيفة أسباب فتح المجال للقوى الشرق أوسطية للدخول إلى إفريقيا للاستفادة من الفرص التجارية والاقتصادية بها على المستويات كافة، من الزراعة وحتى إقامة المواني، نتيجة للحذر الصيني بالقارة، وتراجع الولايات المتحدة خلال فترة ولاية الرئيس السابق أوباما، وانتشار الأمم المتحدة بالقارة بدرجة تفوق تحملها، ومعاناة الاتحاد الأوروبي من أزماته الداخلية التي أضعفته، والتي كان آخرها خروج بريطانيا من الاتحاد.
تركيا بين تعميق الشراكة بإفريقيا ومزاحمة القوى الدولية
ذكاء تركي
بشكل أكثر تفصيلي شارح لمحاولات توسعة النفوذ للقوى الشرق أوسطية، بدأت تركيا التي تحاول أن تكون زعيمة في العالم الإسلامي، تعزيزًا لقوتها الناعمة، محاولة للبحث عن دور لها بإفريقيا كلاعب رئيس، وتمثل هذا الدور في جهود الرئيس التركي رجب طيب أردوغان، الذي جعل الصومال هدفًا يركز عليه، في زيارة مهمة تكللت بحصول الشركات التركية على عقود كبرى، كما افتتح أردوغان مطارًا ومستشفى خلال زيارته إلى الدولة التي عانت من حروب أهلية قاسية، ونجح في إقناع السلطات الصومالية بإغلاق المدارس التابعة لفتح الله جولن، رجل الدين الذى يعيش حاليًا فى الولايات المتحدة ويحمله أردوغان المسؤولية عن محاولة الانقلاب الفاشلة بتركيا في يوليو الماضي.
طفرة في العلاقات
التحركات التركية لم تكن وليدة اللحظة، بل سبقتها تحركات أخرى منذ نهاية التسعينيات من القرن الماضي، وإن كانت على استحياء، قبل أن تتحول إلى شكل أكثر جدية بوصول حزب العدالة والتنمية إلى السلطة عام 2002، وشهد العام 2005 طفرة في تلك التوجهات، حينما أقرت أنقرة العام 2005 عامًا لإفريقيا، وقام رئيس الوزراء – وقتها – رجب طيب أردوغان في مارس 2005 بزيارة كل من إثيوبيا وجنوب إفريقيا، ليكون بذلك أول رئيس وزراء تركي يزور دولة جنوب خط الاستواء، وحصلت تركيا في نفس العام على صفة مراقب في الاتحاد الإفريقي، وفي أثناء القمة الإفريقية التي انعقدت في أديس أبابا عام 2008 تم إعلان اعتبار تركيا شريكًا استراتيجيًا لإفريقيا، التي استضافت في نفس العام مؤتمر التعاون التركي الإفريقي، بمشاركة ممثلين عن خمسين دولة إفريقية، وهو أمر غير مسبوق في تاريخ الدبلوماسية التركية، وازداد هذا التوجه قوة بزيارة الرئيس التركي السابق عبد الله غول كل من الكاميرون والكونغو.
أردوغان ينقل ثقل تركيا لعمق القارة السمراء
زيارات أردوغان المكوكية
مؤخرًا، قام الرئيس التركي طيب أردوغان بزيارة دولة تنزانيا، في مستهل جولة إفريقية شملت أيضًا موزمبيق ومدغشقر، بهدف تعزيز التعاون والعلاقات الثنائية مع بلدان القارة السمراء في إطار سياسة الشراكة التركية الإفريقية، وهي الجولة التي سبقتها تحركات أخرى لا تقل أهمية عنها لعدد من الساسة ورجال الأعمال الأتراك، لكل من أوغندا وكينيا والصومال، منتصف العام الماضي، كما أن وكالة التعاون والتنسيق التركية “تيكا”، لا تزال نشطة في جميع أنحاء القارة، وتقوم بتنفيذ مئات المشاريع الإنسانية والتنموية، لتوفير رعاية صحية أفضل ولتعزيز الزراعة وحماية البيئة وتسهيل التجارة، وفي الوقت نفسه، فإن أكثر من 5 آلاف من الطلاب الأفارقة، يواصلون تعليمهم في جامعات تركيا المرموقة، على شكل منح دراسية من الحكومة التركية، والمنظمات غير الحكومية.
ومع توتر العلاقات المصرية التركية في السنوات الأخيرة، لا سيما مع سقوط حكومة الإخوان في مصر، تنظر القاهرة بتوجس وحذر إلى التوغل التركي في إفريقيا، خاصة فيما يتعلق بعلاقات أنقرة مع أديس أبابا، وتأثيرها على سد النهضة الإثيوبي، الذي تؤكد مصر أنها سيقع عليها ضرر منه، كما تشير تصريحات المسؤولين والخبراء إلى محاولات تركية في أديس أبابان لتحجيم الدور المصري، الغائب أصلا كمنذ عقود عن القارة ككل، وتحديدًا منذ محاولة اغتيال الرئيس الأسبق مبارك في التسعينيات من القرن الماضي، كما أثار توقيع تركيا اتفاقيات عسكرية مع أديس أبابا وتزويدها بصواريخ جديدة حفيظة المصريين.
السعودية تنقل مواجهتها مع إيران إلى ما بعد الشرق الأوسط
تحرك خليجي!
إلى جانب تركيا، حاولت دولة الإمارات العربية المتحدة أيضًا مد نفوذها إلى دول شرق إفريقيا، عبر دعم بعض الجماعات السياسية المعارضة في الصومال، بل وشرعت الإمارات فى بناء قاعدة عسكرية فى إريتريا، أما السعودية وفي إطار التنازع على النفوذ بينها وبين إيران، فسعت لإقامة تحالف ضد الحوثيين فى اليمن الذين تدعمهم إيران، وحصلت السعودية على دعم بعض دول شرق إفريقيا، ونجحت فى جعل الصومال والسودان تتخلصان من تحالفهما مع إيران وإقامة علاقات أقوى معها، وحصلت الصومال على دعم سعودى قدره 50 مليون دولار، فيما ساهمت التحركات الأخيرة للرياض في إقناع الولايات المتحدة في فك عزلة النظام السوداني، الذي حصل على مليارات الريالات تمثل شريان الحياة بالنسبة له، ويلعب رجال الأعمال السعوديون دورًا مهمًا في إثيوبيا، كما زاد عدد الطلاب الوافدين من دول شرق إفريقيا في السعودية خلال الأعوام الأخيرة.
طهران تستغل العمق الإفريقي للتخفيف من عزلتها
هجمة إيرانية
وفي إيران، كانت فترة الثماني سنوات لحربها مع العراق، بداية التحول في نظرتها لإفريقيا، التي اعتمدت سابقًا خلال السنوات الأولى للثورة الإيرانية، على أن القارة السمراء هي قارة المستضعفين، وبحاجة إلى مد يد العون لها في مجالات الصحة والإعمار وغيرها من المساعدات الإنسانية، بينما حملت نظرتها خلال فترة حرب العراق، منظور أيدولوجي مختلف، باعتبار إفريقيا تمثل ثلث مقاعد الأمم المتحدة، وتشكل نصف مجموعة عدم الانحياز، وهو ما يعني أنها تمثل حليفًا محتملاً لطهران وقتها، كما أنها في ذات الوقت تمثل ساحة مناسبة لتبني أفكار الثورة الإيرانية، وقام الرئيس الإيراني وقتها هاشمي رافسنجاني، في عام 1996 بزيارة لست دول إفريقية، صحبه خلالها وفد رفيع المستوى مكون من محافظ البنك المركزي، ووزراء المجموعة الاقتصادية، وهو نفس التوجه الذي اعتمدته حكومة الرئيس محمد خاتمي الإصلاحية، الذي قام في العام 2005 بزيارة سبع دول إفريقية.
اليورانيوم في الصورة
ومع تولي أحمدي نجاد الرئاسة في طهران تصاعدت الهجمة الدبلوماسية على القارة السمراء، ففي عام 2009 وحده قام كبار المسؤولين الإيرانيين بنحو عشرين زيارة لإفريقيا، في محاولة وقتها لكسر الحصار الغربي المفروض عليها من خلال اكتساب مناطق نفوذ جديدة في إفريقيا، وخلاف علاقتها الاقتصادية مع عدة دول بالقارة، تتمتع إيران بعلاقات قوية مع السودان، حيث تعد طهران أكبر مصدري السلاح للسودان، كما قامت في عام 2008 بتوقيع اتفاقية للتعاون العسكري بين البلدين، كما تصدر طهران نحو أربعة ملايين طن من النفط الخام سنويًا لنيروبي، إضافة إلى تسيير خط طيران مباشر بين عاصمتي البلدين، وقدمت طهران كذلك منحًا دراسية للكينيين للسفر والتعلم في إيران.
وتأتي تلك التحركات إلى جانب أهميتها الاستراتيجية والاقتصادية لطهران، بأهمية أخرى حيث تسعى إيران إلى الحصول على اليورانيوم من الدول الإفريقية، وهو ما استهدفته زيارة أحمدي نجاد في العام 2011 لكل من أوغندا وزيمبابوي، وإن كان المعلن عنه وقتها كان الترويج لمشروع إيران، وحقها في الاستخدام السلمي للطاقة النووية.
تحركات إسرائيلية مقلقة بإفريقيا .. والعرب غائبون
تحركات صهيونية
وفي إسرائيل، تحاول دولة الكيان دومًا صبغ نظامها بالشرعية منذ فترة الخمسينيات والستينيات من القرن الماضي، وكانت تحركاتها دومًا تحكمها الاعتبارات الاستراتيجية والاقتصادية والسياسية، أما اليوم فهي تحاول مواجهة النفوذ الإيراني المتصاعد في القارة، ومواجهة التيارات الإسلامية الجهادية في منطقة القرن الإفريقي، كما تستخدم الدولة العبرية دومًا أدوات قوتها الناعمة لكسب قلوب وعقول الأفارقة.
ولا سيما في منطقة حوض النيل، وهو الأمر الذي يمكنها من استخدام ملف المياه للضغط على الإرادة المصرية، وهو ما ظهر مؤخرًا في أزمة سد النهضة، والموقف العدائي غير المسبوق الذي تبنته دول أعالي النيل في مواجهة المصالح الاستراتيجية التاريخية لكل من مصر والسودان.
حركة البضائع بالشرق الأوسط وشمال إفريقيا هدف رئيس للإمارات
أنقرة تحتاج للدعم
نخلص من ذلك إلى أن التحركات الكثيرة للدول الشرق أوسطية بإفريقيا، لا يمكن الاعتداد ببعضها، إلا المثلث التركي – الإيراني – الإسرائيلي على الأقل حاليًا، والأقرب لكسب النفوذ ومواجهة طهران والدولة العبرية هي أنقرة وحدها، التي يخدمها بالطبع أن معظم مسلمي إفريقيا يتبعون المذهب السني، وتخشى من مسألة تصدير الثورة الإيرانية، وبالتالي لا يزال التشيع هاجسًا وعائقًا أمام تدعيم الوجود الإيراني بالقارة، كما أن التعاطف الإفريقي مع القضية الفلسطينية، قد يشكل تحديًا للوجود الإسرائيلي بالقارة.
نمط الإسلام التركي المعتدل الذي يتواءم مع تقاليد الديمقراطية الغربية ونمط اقتصاد السوق، يقدم نموذجًا يحتذى به لمسلمي إفريقيا
وهو ما يفتح المجال واسعًا أمام الأتراك لكن عليهم الاستعانة ببعض الدور الخليجي والإسلامي، كون نمط الإسلام التركي المعتدل الذي يتواءم مع تقاليد الديمقراطية الغربية ونمط اقتصاد السوق، يقدم نموذجًا يحتذى به لمسلمي إفريقيا، فهل تتخلى الإمارات عن دورها المناهض لتركيا، وتدعمها في هذه التحركات لمواجهة إيران وإسرائيل؟ وهل تتخلص المملكة العربية السعودية من هاجس القيادة السنية، وتخوفها من الصعود التركي في هذا المجال وتدعم أنقرة؟ الإجابة بشيء من الصدق هي لا قولاً واحدًا وعلى تركيا أن تعتمد فقط على نفسها في ظل هذا المحيط الهائج من التحديات.
أما عرب إفريقيا فسيستمرون في فعل ما يجيدونه وهو الحديث والمؤتمرات التي لا ولن تجدي.