ترجمة وتحرير نون بوست
أخيرًا أفسحت حملة تصريحات ترامب التي لا نهاية لها المجال للموجة الأولى من العمل الفعلي، والأوامر والتعليمات التنفيذية الصادرة عن البيت الأبيض.
وفي الحقيقة، تعلقت اثنان من تلك الأوامر بالسياسة التجارية التي ستعتمدها الولايات المتحدة في الفترة المقبلة، وهي انسحاب الولايات المتحدة من الشراكة عبر المحيط الهادئ، فضلاً عن إعلان نيتها لبدء عملية إعادة التفاوض مع كندا والمكسيك بشأن اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية “نافتا”، ومع البلدان الأخرى الموقعة على هذا الاتفاق، منذ قرابة 20 سنة.
لقد انتقدت العديد من الوجوه السياسية الأمريكية المعروفة، الذين لطالما نادوا بتوسيع دائرة التجارة الأمريكية، قرار إلغاء اتفاق الشراكة عبر المحيط الهادئ، وفي هذا السياق، انتقد السيناتور الأمريكي جون ماكين بشدة هذا الانسحاب، مشيرًا إلى أنه خطأ فادح سيكون له عواقب وخيمة على الاقتصاد الأمريكي، وعلى موقع الولايات المتحدة الاستراتيجي في منطقة آسيا والمحيط الهادئ.
أما بالنسبة لإعادة التفاوض بشأن “نافتا”، فلا أحد يعرف تمامًا ما يعنيه ذلك أو ماذا سيترتب عنه، وبالفعل، صرّح ترامب أنه سيعاقب الشركات التي قامت ببناء مصانع في المكسيك بدلاً من الولايات المتحدة، في المقابل، يبقى أن نرى كيف يمكن أن يتم ذلك من الناحية القانونية دون خلق عداوة مع بعض الشركاء التجاريين الذين شكلوا أكثر من تريليون دولار من حجم التجارة مع الولايات المتحدة في سنة 2016، وأكثر من 200 مليار دولار من حجم صادرات الولايات المتحدة إلى المكسيك.
من جهة أخرى، تنامت خلال في الأيام الماضية، وتيرة التوتر بين المكسيك والولايات المتحدة الأمريكية مع تكثيف ترامب دعواته المتكررة التي طالب فيها المكسيك بدفع أجر تشييد الجدار الحدودي، الذي تلاها بعد ذلك إلغاء القمة المزمعة بين الرئيس والزعيم المكسيكي إنريكي بينا نيتو في أعقاب إعلان ترامب فرض ضريبة بقيمة 20% على الصادرات المكسيكية لتمويل الجدار بين البلدين، وتجدر الإشارة إلى أن هذا الإجراء أثار غضب الرئيس المكسيكي السابق فيسينتي فوكس، الذي ردّ بدوره على ترامب قائلاً إن المكسيك مستعدة لخوض حرب تجارية مع الولايات المتحدة.
ردة فعل المجتمع الدولي عنيفة تجاه كل ما قام به ترامب في الأيام الأخيرة
وفي الواقع، كانت ردة فعل المجتمع الدولي عنيفة تجاه كل ما قام به ترامب في الأيام الأخيرة، فالعديد من البلدان حذرت من ترامب الذي على وشك الفتك بجملة من الاتفاقيات التجارية، وإدخال النظام الاقتصادي العالمي في حالة من الفوضى.
وعلى الرغم من أنه من الممكن أن تكون لمقترحات ترامب عدة نتائج في المستقبل، فإن ذلك يبدو مستبعدًا جدًا في الوقت الراهن، لأنه إذا نظرنا عن كثب إلى كل ما اقترحه ترامب في الماضي، فإن المقترح الذي جاء به هذا الأسبوع سيكون كسابقيه، أي مجرد هراء.
من جانب آخر، قد يتغير النظام التجاري في حال كان ترامب يريد المقامرة بإرثه وشعبيته، لكنه لن يتعطل بسهولةٍ، حيث إنه يتحكم في هذا النظام كل من مطالب واحتياجات الطبقة الوسطى العالمية المزدهرة والطبقة الثرية القوية.
في الواقع، يمكن أن يكون الانسحاب من الشراكة العابرة عبر المحيط الهادئ مؤلمًا بعض الشيء، لكن يجب أن نتذكر أن الانسحاب من معاهدة لم تجلب العديد من التغييرات الإيجابية لن يُغير كثيرًا من الوضع الراهن، علاوة على ذلك، فإن الإعلان الرفيع المستوى والرسمي الذي جاء به ترامب يعدّ مؤشرًا واضحًا على إيقاف العمل بهذه الاتفاقية، وعلى التراجع عن عدة عقود التزام أمريكية رسمية، كانت تهدف في السابق لتوسيع التجارة الحرة العالمية.
فضلاً عن ذلك، من المستبعد أن تكون هيلاري كلينتون قد فكّرت بالدفاع عن هذا الاتفاق أو ستعمل على إحيائه، نظرًا لأنها عارضت أيضًا هذه الاتفاقية خلال حملتها الانتخابية، وفي أحسن الأحوال، كانت ستحاول تأجيل النظر في هذا الاتفاق على أمل تحسن المناخ السياسي العالمي في أواخر سنة 2018 أو أوائل سنة 2019، أي بعد الانتخابات النصفية.
ولكن كان يمكن لهذا الاتفاق أن يكون العلامة التي تفيد بأن الدعم السياسي والاجتماعي للترفيع من التجارة الحرة قد وصل إلى “جدار كبير”، لم يكن على الأرجح “كبيرًا” على غرار الجدار الفعلي الذي قد يُبنى على الحدود المكسيكية.
رمزيًا، يعتبر انتهاء اتفاق الشراكة العابرة للمحيط الهادئ أمرًا مهمًا، ولكن أن يُنسب ذلك إلى ترامب، مثل الكثير من الأشياء الأخرى هو أمر مبالغ فيه، وعلى الرغم من أنه سيتم إعادة التفاوض أو تحديث اتفاق “نافتا”، يجري باستمرار تحديث الاتفاقيات التجارية العالمية مثل منظمة التجارة العالمية.
وفي الواقع، إن تحوير أو تغيير بعض المعطيات في اتفاقية “نافتا” سيكون من أجل مجاراة بعض الوقائع التجارية الراهنة، والذي لن يغير الوضع الاقتصادي الحالي في حد ذاته، فضلاً عن أن لغة التهديد التي يعتمدها ترامب لا تعكس ما يمكن أن يفعله في الحقيقة.
ترامب أعلن نيته لإيقاف عملية تحرك الشركات من الولايات المتحدة إلى المكسيك
والجدير بالذكر أن ترامب أعلن نيته لإيقاف عملية تحرك الشركات من الولايات المتحدة إلى المكسيك، على الرغم من أن العديد من الشركات قد انتقلت هناك بصفة آلية وباشرت عملها، وفي هذا الإطار، يمكن أن نذكر صفقة “مصنع إنديانا كاريير” التي أبرمها ترامب وأقنع من خلالها الشركة بعدم الاستعانة بمصادر خارجية أو بوظائف من المكسيك.
لكن المكسيك أصبحت، في الوقت الراهن، سوقًا حيوية للصادرات الأمريكية أكثر مما كانت عليه قبل إعلان قرار عدم الاستعانة بمصادر خارجية عن الولايات المتحدة، ففي السنتين الماضيتين، كانت معظم الصناعات الأمريكية تحدث في الخارج، الأمر الذي ساهم في نمو حجم الصادرات الأمريكية نحو المكسيك، وبعبارة أخرى، فإن الإصلاحات المقترحة من قبل ترامب لاتفاقية “نافتا” لن تغير كثيرًا في الواقع الاقتصادي الأمريكي.
في الحقيقة، إن ما ذكرناه سابقًا لا يعني أنه لن يكون هناك نتائج سلبية لهذه التغييرات والمقترحات التي جاء بها ترامب، لكنها لن تكون وخيمة كما نظن، ففي حين أن اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط قد وعدت بتركيز نظام اقتصادي أكثر مرونة من شأنه أن يقوم بتوسيع دائرة التجارة العالمية، إلا أن ذلك مجرد تكهنات فقط.
عمومًا، نحن نعلم أن التجارة العالمية قد تضخمت في العقود الماضية مع منظمة التجارة العالمية ونافتا والاتحاد الأوروبي، ولكن تراجع معدل التوسع التجاري، في السنوات الثلاثة الماضية، بسبب تباطؤ معدل النمو العالمي.
وفي هذا السياق، يعتقد الكثير من أنصار ومؤيدي الشراكة عبر المحيط الهادئ أن ارتفاع نسبة المبادلات التجارية أو تراجعها مرتبط أساسًا بهذه الاتفاقيات التجارية، وهو أمر منطقي للغاية، لكن أن نقول إن ارتفاع أو تراجع نسبة المبادلات التجارية يعتمد أساسًا على نمو الناتج المحلي الإجمالي العالمي، وعلى نسبة الطلب على السلع الاستهلاكية بشكل عام، فهذا يعدّ أمرًا غير منطقيّ.
علاوة على ذلك، ليس من المرجح أن يرغب ترامب في اتخاذ أي إجراءات تخريبية فعلية، في المقابل، يخشى الكثيرون من أن يستخدم الرئيس اتفاقية “نافتا” أو الضريبة الحدودية لرمي العلاقات الاقتصادية مع المكسيك عرض الحائط وإدخالها في حالة من الفوضى.
وبالروح التي دفعته إلى الانسحاب من اتفاقية الشراكة العابرة للمحيط الهادئ، قد يذهب إلى اتخاذ مثل هذا النهج الحمائي ضد الصين والعالم بأسره، مما سوف يؤثر سلبًا على الاقتصاد الأمريكي بيد أنه إذا قرر ترامب اتخاذ هذا المنحى، فإنه سوف يوجه لنفسه، في نهاية المطاف، صفعة ذاتية، وبالتالي، من غير المحتمل أن يتسبب لنفسه بمثل هذا الضرر الفادح.
وتجدر الإشارة إلى أنه حتى إذا قرر ترامب تعطيل سير بعض الاتفاقيات التجارية العالمية، وإيقاف تحرك نظام العولمة، فإنه لا يمكننا العودة إلى ذلك الزمن الغابر، حيث إنه يمكن ضمان عودة بعض الصناعات التحويلية إلى الولايات المتحدة وهو ما بدأ يحدث بالفعل على أرض الواقع، لكن فرض حواجز على التكنولوجيا قد يجعل تكلفة صنع الأشياء في البلاد مكلفة أقل.
وعلى الرغم من أن معظم مصانع اليوم تعمل بآلات إنتاجية وليس بآلات للعمل، فإن المصانع الجديدة ستعمل بمئات من العمال البارعين في البرمجة الروبوتية الذين يولون قيمة عالية للعمل الإضافي، ولا يستخدمون الآلاف من العاملين بنظام الدوام الجزئي.
من جهة أخرى، يعتقد الكثيرون أن بعض الوظائف سوف تعود للظهور من جديد على الرغم من أن معظم الوظائف التي اختفت على مدى العقود الماضية لن يكون لها وجود مرة أخرى، بالإضافة إلى ذلك، فإن الانسحاب الأمريكي من الشراكة عبر المحيط الهادئ، أو تغيير شروط اتفاقية “نافتا”، لن يغير كثيرًا في هذا الواقع.
ستستمر التجارة عبر الحدود وبين الدول، وسترتفع نسبيًا بغض النظر عن طبيعة النظام التجاري العالمي، ما دامت لا تزال قاعدة الطبقة الوسطى في العالم تتوسع
كما ستلعب الولايات المتحدة دورًا رئيسيًا في السنوات القادمة في هذه المسألة، حتى لو انخفضت أهميتها ومكانتها في العالم إلى حد ما، ويمكن للحكومات المساهمة في ارتفاع أو تقلّص حجم المبادلات التجارية، في المقابل، سيكون ارتفاع نسبة طلب المليارات من الطبقة المتوسطة في جميع أنحاء العالم بمثابة محرك الإنتاج للعديد من المنتجات، التي تباع وتشترى بعيدًا عن اتفاقيات التجارة والرسوم الجمركية.
فعلى سبيل المثال، تبيع الشركات الأمريكية العديد من المنتجات إلى الصين على مدى السنوات العشرين الماضية، على الرغم من صعوبة هذه العملية وتكاليفها الباهظة، وفي الحقيقة، تعتبر الصين سوقًا جذابة يجب على العديد من الشركات عدم تجاهلها، حتى مع وجود حكومة لا ترحب بالمنافسة الأجنبية.
لا يمكن لإدارة ترامب جعل التجارة أكثر تعقيدًا وتكلفة لكل من الشركات الأمريكية المحلية والشركات الأجنبية، ولكن مصير التجارة غير مرتبط بتغير إرادة الإدارة الرئاسية
بالتأكيد، لا يمكن لإدارة ترامب جعل التجارة أكثر تعقيدًا وتكلفة لكل من الشركات الأمريكية المحلية والشركات الأجنبية، ولكن مصير التجارة غير مرتبط بتغير إرادة الإدارة الرئاسية، وبعيدًا عما إذا كانت هذه التحركات التجارية الأولية للإدارة الأمريكية “حكيمة” أم “حمقاء”، فإن ذلك لن يُغير من قناعاتنا على الرغم من الانتقادات التي يمكن أن توجه إلينا.
في الحقيقة، نحن نعيش في نظام محكم للتجارة وللضرائب الجمركية الذي يحتوي على العديد من الأجزاء المتحركة، وعشرات الآلاف من المبادلات والقوانين، وتريليونات الدولارات من السلع والخدمات، وبالتالي، يمكننا القول إن الإجراءات التنفيذية سهلة، لكن تغيير المسار العالمي للتجارة، هو أمر أكثر صعوبة.
المصدر: بوليتيكو