بعد عقد كامل من الغياب يعود النجم ميل جيبسون إلى مقعد المخرج في فيلمه الأحدث Hacksaw ridge، كان جيبسون قد ابتعد لمدة 10 سنوات عن الإخراج بعد فيلمه الأخير الرائع “أبوكاليبتو” والذي قدمه في العام 2006، عشر سنوات طالته فيها الاتهامات،والنبذ من مائدة السينما الهوليوودية بسبب المقولة التي أطلقها تحت تاثير الخمر وهو أن اليهود هم السبب في كل الحروب العالمية، مقولة جلبت عليه غضب المدينة السينمائية التي يسيطر علي أغلبها منتجون وفنانون وإعلاميون يهود، وبعد الأمجاد النقدية والجماهيرية التي حازها قبل 20 عام بفيلمه الأوسكارى القلب الشجاع، وبعد فيلم ” آلام المسيح ” وما لاقاه من نجاح هائل في شباك التذاكر انسحب النجم الكبير والمخرج ذو الشعبية العريضة إلى ركن بعيد عن أضواء الساحة السينمائية إلا في اطلالات عابرة سريعة أمام الشاشة لم تعد به بشكل حقيقى إلى بؤرة الضوء والاهتمام الجماهيري.
بوستر الفيلم
لكن يبدو أن هذا العام هو عام ميلاد حقيقى وعودة جديدة وناجحة لميل جيبسون بفيلمه الحربي Hacksaw ridge الذي نال الاستحسان والتصفيق عند عرضه الأول في مهرجان فينيسيا أحد صروح الثقافة السينمائية الأوروبية ليواصل الفيلم نجاحه بعدها في كافة العروض، وليفرض نفسه على السوق السينمائى الأمريكي محققًا نجاحًا ضخمًا في شباك التذاكرداخل القارة الأمريكية وكافة بلدان العالم، والمنافسة على جوائز الأوسكار بست ترشيحات كأفضل فيلم، وأفضل إخراج لميل جيبسون، وأفضل ممثل لأندرو جارفيلد، وأفضل مونتاج، وأفضل مونتاج صوتى، وأفضل مزج صوتي.
تريلر الفيلم
يتناول الفيلم قصة حقيقية وهي قصة المجند الأمريكي ” دوس ديزموند ” الذي شارك في الحرب العالمية الثانية مع القوات الأمريكية كممرض علاج في سلاح القوات الطبية ورفضه لحمل السلاح ونبذه العنف وما عرضه ذلك المبدأ من استهجان واحتقار رفاقه المجندين، وقادته الضباط حيث رأوا فيه سمة جبن وما يشبه الخيانة وصل إلى حد الخيار أما التسريح من الجيش أو محاكمته عسكريا وسجنه، لكن تدخل رتبة عسكرية أتاح له خوض غمار الحرب مع رفاقه وبتحقيق شرطه بألا يحمل سلاحا وأن تكون مهمته في المعركة طبية بالاساس، وينجح دوس ديزموند بالفعل في إنقاذ 75 جريح ومصاب من رفاقه في معركة أوكيناوا على قمة جبلية تسمى ” هاكسو” وينجح في سحبهم تحت قصف النيران اليابانى من الخطوط الأمامية إلى الخطوط الخلفية في ليلة واحدة أظهر فيها بسالة نادرة أدهشت رفاقه وغيرت من وجهة نظرهم إليه كشخص جبان.
وبعد الحرب كان قد حصل على ميدالية الشرف – أعلى وسام عسكري أمريكي – من الرئيس الأمريكي هارى ترومان كاعتراف من العسكرية الأمريكية ببسالته واقدامه رغم رفضه حمل السلاح وقتال العدو الياباني.
الفيلم كما أسلفنا هو عن قصة حقيقية وشخصية حقيقية وكانت المحاولات لسرد قصته سينمائيا كانت قد بدأت من سنوات ما بعد الحرب العالمية الثانية في نهاية الاربعينات من القرن الماضى، لكن الرجل كان يأبى دوما ان يمنح حقوق تحويل حكايته الحقيقية إلى فيلم سينمائى إلى أى جهة منتجة كانت تعرض عليه الفكرة لأنه كما قال جيبسون ” كان شخص بسيط ومتواضع وكان فلاحا لم يذهب في حياته إلى أى دار عرض سينمائى ولم يكن يرغب في أن يمجد الاخرون بطولاته”
بعد وفاته عام 2006- وكان قد منح قبلها حقوق قصته إلى أعضاء كنيسته ” السبتيون”- بدا أن هناك أخيرًا إمكانية لسرد قصته حيث كان أغلب أعضاء الكنيسة ورفاقه القدامى يرون حتمية سرد قصة إيمان هذا الشخص، وتمسكه بمبدأه إلى النهاية، ونجاحه في أن يفرض احترام هذا الايمان وتلك القناعة الأخلاقية على من كانوا يرفضونها ويتشككون في جدواها أو تحقيقها لأى بطولة.
كانت القصة مناسبة وملائمة تماما لقناعات ميل جيبسون ورؤيته للعالم كمكان للمعاناة وتحقيق انتصار المبدأ الاخلاقى البسيط وعن قناعة دينية فبطل الفيلم الفتى ” دوس ” يتعلم أول وصية آلهية ” لا تقتل ” عندما يشتبك في شجار عنيف مع أخيه وهما صغيران تنتهي بأن يحمل حجرا ويلطم به رأس أخيه مما يجعل أخاه عرضة للموت وعندما يرى أخاه مصابا ينفر من فكرة العنف والحاق الأذى بالأخرين ويعزز شعوره الفطرى بالنفور من العنف رؤيته الوصية الآلهية البسيطة ” لا تقتل” ويبدو أنها سوف تكون الوصية المعلقة في عنقه إلى النهاية حيث يضبط نفسه ويمنعها من الانفلات غضبًا أمام عنف أبيه السكير العنيف الذي عاد من الحرب العالمية الأولى مشوها نفسيا يغرق عذابه في الخمر، ولا ينقطع يوما عن زيارة قبور أصدقاءه قتلى الحرب، ويصب غضبه على أسرته.
كان الابن دوس يحاول أن يكبح جماح نفسه بقناعة أخلاقية مسيحية بسيطة ” لا تقتل “، ” أحب جارك ” وحيث تبدأ قصة حبه للمرضة دوروثى وزواجه منها عندما رآها لأول مرة بالمستشفي وهو يحمل ميكانيكى مصاب جوار الكنيسة، وهو شاب نقى مبتسم مفعم بالتفاؤل والأمل ويرى أنه مادام يحب تلك الفتاة فهي ستحبه بالمثل وسيعيشان حياة هانئة مما يدعو أمه للابتسام من سذاجة ابنها الذي يرى أن كل شىء سيكون بخير، لكن يبدو أن إيمان دوس الساذج هو الذي جعله يحقق المعجزات في الحب والحرب على السواء، وهو الذي جعله يسير في طريقه للنهاية مادام يرى أنه الطريق الصحيح حتى لو سار فيه وحيدًا أو تعرض فيه إلى سوء فهم وارتياب بل وأذى الاخرين.
إن دوس ليس فيلسوفا متعمقًا، ولا هو يحاول أن يحل أو يفهم مشكلات الوجود الكبرى السياسية والوجودية، وربما يكون هذا في حد ذاته قصور أخلاقى لكن ربما بساطته هي التي جعلته يسير قدمًا بين المتناقضات، فهو لم يسأل عن جدوى الحرب، ولم يفكرفي وقف نزيف الحرب بين الجهتين التي تتقاتلان سواء كانوا من بنى جنسه أو من جنس آخر، هو يعلم أن الحرب ستستمر وأن القتال وعمليات القتل والعداء بين البشر سوف تستمر بعده، وأن الطرفين مذنبان ماداما ارتضيا حمل السلاح، هو لم يرغب سوى في أن يشارك رفاقه معاناتهم وألا يعيش حياة هانئة مع زوجته دوروثى في الوطن بينما أخيه ورفاقه ومن في مثل سنه يخوضون غمار الحرب، وهو لم يدخل إلى تلك المعركة والحرب الدائرة بغرض تحقيق انتصار أو لخطف المزيد من أرواح الجنود اليابانيين بل للعمل على إنقاذ الجرحى والمصابين من الطرفين اذا أمكن، وهو لم يحسب كم روح سينقذها وما جدوى إنقاذ روح واحدة أو اثنتان أو ثلاثة في ظل مفرمة الحرب التي تحصد الأرواح بالملايين، لم يسأل عن جدوى إنقاذ روح واحدة بل كان يسأل الرب كلما نجح في إنقاذ زميل له بأن يعينه على إنقاذ جندى اخر ( واحد اخر يا آلهي ) ورغم التعب والارهاق كان ينقذ المزيد من الأرواح حتى وصل العدد إلى 75 روح أنقذهم من الموت من ضمنهم يابانيين كما رأينا في الفيلم.
كان مبدأه ألا يزيد من جراح الجسد الانسانى الكبير النازف برصاص بندقية يحملها بل أن يحاول تضميد هذا الجرح الذي يتسع من خلال صراع عقائد وعرقيات ومصالح ولغات متعارضة ومختلفة. أن يسهم بقدر بسيط في إيقاف هذا النزيف الدموى، وأن يعلم رفاقه بالتجربة وبرؤية العين أن الشجاعة ليست مرادفا لحمل السلاح وممارسة القتل.
يتناول الفيلم قصة حقيقية وهي قصة المجند الامريكي “دوس ديزموند” الذي شارك فى الحرب العالمية الثانية مع القوات الأمريكية كممرض علاج في سلاح القوات الطبية ورفضه لحمل السلاح ونبذه العنف وما عرضه ذلك المبدأ من استهجان واحتقار رفاقه المجندين
بعيدًا عن تحليل الفيلم وقبول أو رفض وجهة النظر الدينية التي يقدمها والتي حاول صناعه كما صرحوا أن يقدمونها كما حصلت بالفعل دون المبالغة فيها أو التقليل من أهميتها فأن الفيلم يقدم فرجة سينمائية جذابة لدى قطاع عريض من المشاهدين. الفصل الأول الذي يقدم الرومانس الهادىء بين دوس وحبيته دوروثى كان جذابا على الطريقة الكلاسيكية دون أن يكون مملا أو غارقا في الاكليشيهات وحيويته تعود لجاذبية الممثلين وروح القبول التي يملكونها، والفصل الثانى في معسكر التدريب الذي يذكرنا برائعة كوبريك ” خزانة رصاص ممتلئة” كان متراوحا بين لحظات مرحه الفظة وروح الجهامة التي نتجت عن نشوب الصراع بين البطل وجماعته الانسانية التي تلفظه، والجزء الاخير الذي يرمى بنا في هول معركة أوكيناوا بكل دمويتها وإثارتها.
جاء كعرض صادم اعتدناه من جيبسون حيث تعح الشاشة بالدم المتفجر من الأجساد، والأطراف المبتورة، والاشلاء المتناثرة، والجثث مكومة متعفنة تخرج الاحشاء منها وتتسلقها الفئران وتتشممها بنهم.
يختم ميل جيبسون شريطه بلقطات تسجيلية لأبطال القصة الحقيقيين وقد بلغوا من الكبرعتيا حيث يحكى الكابتن دان جلوفر قائد دوس في المعركة عن سوء تقديره لشخصية دوس عندما رفض حمل السلاح واتهامه له بالجبن لكن المفارقة تكمن في أن هذا الشخص الذي وصفه بالجبن هو من أنقذه بالنهاية ليرى فيه أكثر الأفراد شجاعة قابلهم في حياته، ويقول أنه كان مخطئا في محاولة فرض قناعته على دوس بحمل السلاح في البداية، ويواصل الكابتن دان جلوفر كلامه قائلًا “ أنه لا يحق لأحد فرض قناعته على أى فرد أخر حتى الجيش نفسه” أما دوس فيحكى عن انقاذه لأحد رفاقه ويتذكر أنه عندما مسح الوحل والدم من على وجه رفيقه فأشرق وجه هذا الأخير بابتسامة ارتياح فلقد ظن أنه أصيب بالعمى، ابتسامة الارتياح تلك كما يقول دوس هي خير جزاء ومكافأة تلقاها، وأنه لم يكن سيشعر بأنه تلقى ثمن تضحياته إلا بتلك البسمة الانسانية على وجه صديقه. وكانت مقولة دوس تلك هي خير ختام للفيلم والتي أظهرت لنا معدن هذا الرجل الحقيقى، الذي كنا نتابع طول الفيلم قصته غير مصدقين ونعتقد أنها مجرد مبالغات هوليوودية جديدة .