لا توجد أمة إلا وتشهد حالة صراع، فصراع الثنائيات محور ارتكاز العالم، منه تَشكَّل وعينا البدئي، وهو “المادة الخام الأساسية للحياة” بتعبير جوستاف يونغ، فصراع الثنائيات وصراع الرغبات، موجود بداخلنا حتى، فما بالك بصراعٍ بين أقطاب لهم أجندة ومصالح متعارضة، وتأسيسًا على هذا، فإن تجاوز حالة الصراع وبناء سلام دائم مسألة متعذرة.
المشكلة ليست في وجود صراعات، ولكن المشكلة تكمن في غياب استراتيجية ورؤية منطقية لحل وتجاوز هذه الصراعات، وكذا الرغبة في استمرار الصراع، وهذا ما تعيشه المنطقة العربية عبر تاريخها، فالأمة التي مزقتها الحروب، لم يخلُ قرن من تاريخها من صراع، وهي اليوم غارقة في وحل عنف من الصعب الخروج منه بسهولة، فالحرب التي نشهدها ليست وليدة قرن أو قرنين أو ثلاثة، بل هي متجذرة وضاربة في القدم، وبالتالي فإن تعقيدات السابق تنضاف لتعقيدات الراهن، وصراعات اليوم لا يمكن فهمها بمعزل عن هذا التراكم التاريخي من العنف، هذه الاستنتاجية لا تستند لقراءة عميقة للتاريخ بالضرورة، فالخطوط العريضة لتاريخنا تنطق بهذا، فيا ترى هل قِّدر للمنطقة العربية أن تعيش حالة صراع أبدي لا سلام فيها؟ أم أن هذه الصراعات لا تعدو عن كونها ارتدادات مرحلية وتموجات مؤقتة؟ ومن ثم يكون الانتقال لمرحلة سلام مستقر أو حتى مؤقت؟!
مع كثرة أشكال الصراع وتعدد أساليبه، إلا أن “الصراع الصفري” يبقى أخطر وأسوأ نمط صراعي، ذلك أن كل قطب من أقطاب معادلة الصراع يسعى لإزاحة القطب الآخر وإلغائه تمامًا، ولتحقيق هذه الرغبة الإقصائية يتم توظيف وتحشيد أي عنصر أو فاعل يساعد في صياغة المعادلة الجديدة، ويعمل على ترجيح ميزان القوى لصالحه، كأسلوب التحريض الطائفي وتلفيق التهم وتشويه صورة الخصم، وكسلوك تعزيز المقدرة القتالية والتحشيد، وهذه المفاعيل أو بعضها مؤشر وإرهاص لحرب مجنونة كالتي نشهدها.
فبعد أن تبارى فرقاء الصراع – في مناطق معينة – وخاضوا اللعبة الصفرية على ملعب السياسة، واستنفذوا ما لديهم من أوراق أو ربما أدركوا أن الاستمرار بهذه الآلية لا يحقق النتائج المرجوة سريعًا، وربما لا تتحقق أي نتائج تمت إعادة جدولة الوسائل والآليات، فكانت الحرب خيارهم.
ومما زاد الأمر سوءًا، تعدد أقطاب الصراع ودخول فاعلين جدد في الميدان، ناهيك عن دخول فواعل دولية أيضًا، وهذا التشعب والتفريع في الأقطاب، قلل من فرص الحلول السلمية، بأدوات سياسية ودبلوماسية ناعمة، وهو ما يطيل أمد الصراعات خصوصًا عندما تمتزج الرغبة في الاجتثاث والانتقام، بالرغبة في الاستحواذ والهيمنة.
فالحل السلمي في أجندتهم لا يأتي بالمطلوب ككل، وكيف يكون ثمة حل سلمي إذا كان هذا الحل سيعطي الطرف الآخر جزءًا من الكعكة، ويحافظ على بقائه كرقم في معادلة واقع ما بعد الحرب؟! وها هو خيار الحرب العبثي يطغى على كل محاولة رامية لإيجاد مخرج من مأزق الحرب اللعينة، فالشروط التعجيزية لأطراف المعادلة والمطالب عالية السقف، وعشرات الفواعل الأخرى، كلها وسائل تضع عربة الحرب أمام الحصان، ليبقى الموت سيد الموقف والرابح لا أحد.